موسكو – (رياليست عربي): في ظل التصاعد الملحوظ للتوترات الجيوسياسية في منطقة البحر الأسود، تبدو المشهدية الأمنية في المنطقة تتجه نحو مزيد من التعقيد والتصعيد، حيث تشير التقارير الاستراتيجية إلى تزايد مقلق في وتيرة التسلح والعسكرة من قبل مختلف الأطراف الفاعلة في هذه المنطقة الحيوية. وتأتي هذه التطورات في سياق استراتيجي أوسع يشهد تنافساً محموماً بين القوى الكبرى على النفوذ والسيطرة في هذه المساحة المائية ذات الأهمية الجيوسياسية والاقتصادية البالغة.
من جانبها، تؤكد القيادة الروسية عبر تصريحات مسؤوليها وخبرائها العسكريين على أن هذا التصعيد يأتي كرد فعل طبيعي على السياسات العدائية التي يتبعها حلف الناتو والاتحاد الأوروبي في المنطقة. ويشير الخبراء الروس إلى أن موسكو تتابع بقلق بالغ التحركات العسكرية المتزايدة للحلف الأطلسي في البحر الأسود، معتبرين أن هذه التطورات تشكل تهديداً مباشراً للأمن القومي الروسي وتخل بالتوازن الاستراتيجي في المنطقة. وتؤكد المصادر الروسية أن بلادها تمتلك جميع الأدوات اللازمة للرد على هذه التهديدات وحماية مصالحها الحيوية في هذه المنطقة التي تعتبرها ضمن نطاقها الأمني المباشر.
تشير البيانات الميدانية إلى أن السنوات الأخيرة شهدت تعزيزاً غير مسبوق للوجود العسكري الغربي في البحر الأسود، حيث قامت دول الناتو بزيادة كبيرة في عدد قطعها البحرية العاملة في المنطقة، كما كثفت من وتيرة المناورات العسكرية المشتركة التي تضم قوات من عدة دول أعضاء في الحلف. وتتضمن هذه التدريبات عادةً عمليات إنزال برمائي، وتمارين مضادة للغواصات، وتدريبات جوية تشمل طائرات مقاتلة متطورة. ومن جهة أخرى، ترد روسيا على هذه التحركات عبر تعزيز قدراتها الدفاعية في المنطقة، حيث قامت بنشر منظومات صاروخية متطورة على سواحل البحر الأسود، كما أجرت سلسلة من التمارين العسكرية الكبرى التي تهدف إلى اختبار جاهزية قواتها وقدرتها على التصدي لأي تهديد محتمل.
يأتي هذا التصعيد العسكري المتبادل في سياق تاريخي معقد، حيث تعتبر منطقة البحر الأسود منذ قرون مجالاً للتنافس بين القوى الكبرى. وقد ازدادت حدة هذا التنافس بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014، وهو الإجراء الذي لم تعترف به معظم الدول الغربية وأدى إلى فرض عقوبات اقتصادية على موسكو. ومنذ ذلك الحين، شهدت المنطقة سلسلة من التطورات الأمنية التي زادت من حدة التوتر، بما في ذلك تعزيز الوجود العسكري الروسي في القرم، وزيادة الدوريات الجوية والبحري لحلف الناتو قرب الحدود الروسية، وتصاعد وتيرة الحوادث والمواجهات شبه العسكرية بين الطرفين.
من الناحية الاستراتيجية، يكتسب البحر الأسود أهميته من موقعه الجغرافي الفريد كجسر يربط بين أوروبا الشرقية وآسيا الصغرى، بالإضافة إلى كونه منفذاً بحرياً حيوياً لعدة دول لا تمتلك سواحل على البحار المفتوحة. كما أن المنطقة تمتلك أهمية اقتصادية كبيرة بسبب خطوط أنابيب الطاقة التي تمر عبر مياهها، وثرواتها السمكية، وإمكاناتها في مجال استخراج النفط والغاز من المناطق البحرية. كل هذه العوامل تجعل من البحر الأسود ساحة للتنافس الاستراتيجي بين القوى الكبرى، وتفسر إلى حد كبير سبب هذا التصعيد العسكري الحالي.
على الصعيد الدبلوماسي، تبدو الجهود الرامية إلى تخفيف حدة التوتر في المنطقة محدودة التأثير، حيث تتبادل الأطراف المعنية الاتهامات وتتصاعد لغة التهديد المتبادل. فبينما تتهم الدول الغربية روسيا بالسعي لزعزعة الاستقرار في المنطقة من خلال سياسات التوسع العسكري، تؤكد موسكو أن جميع تحركاتها الدفاعية تأتي كرد فعل على التهديدات التي تشكلها سياسات التوسع شرقاً لحلف الناتو. وفي خضم هذا الجدل، يحذر مراقبون مستقلون من أن استمرار هذا التصعيد قد يؤدي إلى دوامة خطيرة من التسلح تهدد بزعزعة الاستقرار في منطقة بالغة الأهمية للاقتصاد والأمن الأوروبيين والدوليين.
من الناحية العملية، يترجم هذا التصعيد الاستراتيجي إلى سلسلة من الإجراءات الميدانية الملموسة. فمن جانب الناتو، تشمل هذه الإجراءات زيادة عدد السفن الحربية التابعة للحلف في البحر الأسود، ونشر أنظمة دفاع جوي متقدمة في الدول الأعضاء المطلة على المنطقة، وتكثيف عمليات المراقبة والاستطلاع الجوي والبحري قرب الحدود الروسية. أما على الجانب الروسي، فيتجلى الرد عبر تعزيز القدرات الدفاعية في القرم، وتطوير البنية التحتية العسكرية على سواحل البحر الأسود، وإجراء مناورات عسكرية متكررة تهدف إلى إظهار الجاهزية القتالية للقوات الروسية وقدرتها على التصدي لأي تهديد محتمل.
في الخلفية الاقتصادية لهذا الصراع، تبرز تكلفة التسلح المتبادل كعامل ضغط إضافي على جميع الأطراف المعنية. فمن ناحية، تتحمل دول الناتو تكاليف باهظة للحفاظ على وجود عسكري مكثف في منطقة بعيدة عن مراكزها الرئيسية، بينما تواجه روسيا ضغوطاً اقتصادية متزايدة بسبب العقوبات الغربية والإنفاق العسكري المرتفع في وقت تعاني فيه اقتصادها من عدة تحديات هيكلية. ومع ذلك، يبدو أن الاعتبارات الأمنية تتفوق في الوقت الحالي على الحسابات الاقتصادية لدى جميع الأطراف، مما يدفع نحو مزيد من التصعيد بدلاً من البحث عن حلول دبلوماسية قد تخفف من حدة التوتر.
في الأوساط الأكاديمية والاستراتيجية، ثمة جدل واسع حول السيناريوهات المحتملة لتطور الأزمة في البحر الأسود. فبينما يرى بعض المحللين أن التصعيد الحالي هو جزء من لعبة استراتيجية طويلة الأمد قد لا تصل إلى حد المواجهة العسكرية المباشرة، يحذر آخرون من أن تراكم التوترات وزيادة وتيرة الحوادث شبه العسكرية قد يؤدي إلى مواجهة غير محسوبة العواقب. وفي كل الأحوال، يبدو واضحاً أن منطقة البحر الأسود ستظل لسنوات قادمة بؤرة للتوتر والتنافس الاستراتيجي بين روسيا من جهة وحلف الناتو والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى، في صراع يعكس التحولات الكبرى التي تشهدها الخريطة الجيوسياسية العالمية في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.