واشنطن – (رياليست عربي): في ظل تصاعد غير مسبوق للتوترات التجارية عبر الأطلسي، تقف العلاقات الاقتصادية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عند منعطف خطير قد يشكل نهاية حقبة طويلة من التعاون التجاري الحر الذي استمر لعقود. تشير مصادر دبلوماسية واقتصادية موثوقة إلى أن الإدارة الأمريكية تستعد لفرض حزمة عقوبات تجارية صارمة ضد الاتحاد الأوروبي، في خطوة من شأنها أن تعيد تشكيل المشهد الاقتصادي العالمي بأسره.
جذور هذه الأزمة تعود إلى سنوات عديدة، لكنها وصلت إلى ذروتها في الأشهر الأخيرة مع تفاقم الخلافات حول عدة ملفات شائكة. يأتي في مقدمتها النزاع الطويل حول الدعم الحكومي لصناعة الطائرات، حيث تتهم واشنطن بروكسل بتقديم دعم غير مشروع لشركة إيرباص الأوروبية، بينما يرى الجانب الأوروبي أن شركة بوينج الأمريكية تحصل على امتيازات مماثلة من حكومتها. هذا الخلاف الذي ظل كامناً لسنوات، تحول الآن إلى أزمة مفتوحة تهدد بزلزلة أسس النظام التجاري الدولي.
ولم تقتصر التوترات على قطاع الطيران فقط، بل امتدت لتشمل فرض الولايات المتحدة رسوماً جمركية بنسبة 25% على واردات الصلب و10% على الألمنيوم القادم من دول الاتحاد الأوروبي. هذه الإجراءات التي تذرعت بها واشنطن بحماية الأمن القومي، أثارت غضباً أوروبياً عارماً، دفع بالمفوضية الأوروبية إلى الرد بإجراءات مماثلة على منتجات أمريكية متنوعة، من الدراجات النارية إلى البن والملابس الجلدية.
خبراء الاقتصاد الدولي يحذرون من أن استمرار هذا التصعيد قد يؤدي إلى عواقب كارثية تتجاوز بكثير الطرفين المباشرين في النزاع. فوفقاً لتحليل حديث صادر عن صندوق النقد الدولي، فإن تفاقم الحرب التجارية بين القوتين الاقتصاديتين قد يكلف الاقتصاد العالمي ما يصل إلى 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي بحلول عام 2026. كما أن قطاعات كاملة مثل صناعة السيارات والخدمات المالية والتكنولوجيا المتقدمة قد توظر اضطرابات كبيرة في سلاسل توريدها المعقدة التي تمتد عبر القارتين.
وفي رد فعل واضح على هذه التطورات، بدأت العديد من الشركات متعددة الجنسيات بإعادة تقييم خططها الاستثمارية. مصادر في وول ستريت تكشف أن عدداً من العلامات التجارية الكبرى بدأت تنقل بعض عملياتها الإنتاجية إلى دول ثالثة في محاولة لتجنب تداعيات هذه الحرب التجارية. هذا التحول قد يؤدي إلى إعادة هيكلة جذرية في الخريطة الصناعية العالمية، مع ما يرافق ذلك من تأثيرات على العمالة والاستثمارات في كلا الجانبين.
على الصعيد السياسي، يأتي هذا التصعيد في وقت بالغ الحساسية، حيث تواجه القارة الأوروبية أزمات متعددة تتراوح بين تداعيات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى التحديات الأمنية في شرق أوروبا. من جهة أخرى، تبحث الإدارة الأمريكية عن سبل لتعزيز موقعها الاقتصادي العالمي في مواجهة الصعود الصيني المتسارع. في هذا السياق، يرى بعض المحللين أن التصعيد ضد أوروبا قد يكون جزءاً من استراتيجية أوسع لإعادة هيكلة التحالفات الاقتصادية الدولية.
المفارقة التاريخية تكمن في أن هذه التطورات تأتي بعد أقل من عقد على إطلاق مفاوضات الشراكة التجارية والاستثمارية عبر الأطلسي (TTIP) التي كانت تهدف إلى تعزيز التكامل الاقتصادي بين الطرفين. اليوم، بدلاً من التكامل، نشهد مشهداً معاكساً تماماً قد يؤدي إلى انقسام اقتصادي عميق بين حلفاء طبيعيين.
في محاولة لاحتواء الأزمة، بدأت بعض الأصوات المعتدلة في كلا الجانبين تدعو إلى العودة لطاولة المفاوضات. بعض المقترحات تشمل إنشاء آلية تحكيم دولية مستقلة للنظر في نزاع دعم صناعة الطائرات، وإجراء تخفيضات تدريجية متبادلة للرسوم الجمركية. إلا أن هذه المبادرات تواجه عقبات كبيرة في ظل التصلب الواضح في المواقف من الجانبين.
السؤال الذي يطرح نفسه بقوة الآن هو: هل نحن أمام مجرد نزاع تجاري مؤقت يمكن حله عبر التفاوض، أم أننا نشهد بداية تحول جذري في النظام الاقتصادي العالمي الذي ساد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؟ الإجابة على هذا السؤال قد تحدد ملامح الاقتصاد العالمي لعقود قادمة، ليس فقط بين الولايات المتحدة وأوروبا، ولكن في العلاقات الاقتصادية الدولية ككل.