عادت أثيوبيا مرة اخرى إلي دائرة الضوء العالمية بإحتراب أهلي عنيف لم يكن مفاجئاً نظراً لهشاشة النظام وسوء إدارة المرحلة الانتقالية من حكم التيغراي الشامل منذ قيام الدولة الفيدرالية الي حكم من خلال تكوين سياسي موحد اكثر مركزية يعبر عنه حزب الازدهار.
ولم يكن هذا الإحتراب مفاجئة للمتابعين وأصحاب الرأي بالداخل الأثيوبي حيث كانت هناك علامات منذرة بوقوع ذلك الصدام لا محالة لعل أهمها ما كان في الأسابيع السابقة للمواجهات من إظهار وسائل اعلام الطرفان العروض العسكرية لوحدات المظليين الكوماندوز عالية التدريب والقوات الخاصة ذات القبعات الحمراء في مهام وهمية في استعراض واضح للقوة. كل ذلك كان كفيلاً ليعي الجميع أن هناك مواجهة شاملة وشيكة في مستقبل غير بعيد. و هذا ما حدث فعلاً.
فتغلبت آلة آبي أحمد العسكرية تغلباً محدود كما يري بعض المراقبين، فأعلن انتصاره علي تلك الطغمة التي خرقت الدستور والقانون ودخل الي عاصمتهم ميكيلي منتشياً بما حققه من انتصار مصحوباً بحرب إعلامية شعبية شديدة علي التيغراي من سكان الأقاليم الأخري والتي دفعت بخطاب الحكومة المناهض لجبهة تحرير شعب تيجراي والذي تعتبره بعض الجهات انه خطاب قد تجاوز الحاجز النفسي لدي الشعب التيجراني مستغلاً التعتيم الذي فرضه علي الاقليم وعزله عن الاتصال بالعالم الخارجي وظهر طوفان من الصفحات الفيسبوكية التي خُصصت لإهانة التيغراي بنعت القيادات هناك بوصف أحمد لهم بأنهم ضباع ووحوش ووصف بعض النشطاء للشعب التيجراني بانهم ذيول ومجرد اطفالاً مغيبين تابعين لقيادتهم العسكرية.
رحلة السقوط
منذ اعلانه عن دخول قواته إلي مدينة ميكيلي منوهاً عن أن ذلك هو نهاية حالة الصراع بين الطغمة المتمردة والحكومة المركزية في أديس ابابا بعد ان أمهلها وقت للإستسلام أكثر من مرة وفي اثناء تلك المُهل برزت أكثر من محاولة بدعوة الي احلال السلام بديلاً للصراع عن طريق التحاور بين طرفي النزاع من أطراف اقليمية ومنظمات دولية مثال دعوة السودان الرئيس الحالي للايجاد (الهيئة الحكومية للتنمية) واوغندا وكذلك دعوة الاتحاد الافريقي والأمم المتحدة إلا أن وجهة النظر التي سيطرت علي آبي احمد جعلته يرفض ويجهض تلك المحاولات بحجة أن هذا أمر داخلي ويمثل عملياً انفاذ للقانون الحاكم للبلاد وليس بين طرفي يمثلا ندا لبعضهم البعض في عملية تهذيب وتركيع لفئة ضالة ضد المجتمع الاثيوبي
لعل هناك من يري مـأخذ علي وجهة النظر الأحمدية تلك والتي تتلخص في مايلي :-
- أن أحمد قد تناسي أن تلك الفئة الضالة تمثل اقليم وعرقية هامة في النسيج الفيدرالي المهترئ يبلغ تعدادها أكثر من ستة ملايين انسان قد حصلت مؤخرا علي تفويض رسمي منهم بموجب انتخابات سبتمبر 2020
- أن تلك الفئة أو الطغمة المارقة حسب وصفه لها هي أكثر أعراق اثيوبيا تمرساً علي حمل السلاح والأكثر دراية بأساليب المقاومة الشعبية ويشهد لها تاريخها الذي بدأ قبل أن يولد آبي أحمد تجلت في مقاومتها ضد الحكم الامبراطوري في السبعينات حتي اسقاطه في 1974وكذلك ضد الحكم الماركسي ( الدرج) حتي سقوطه في 1991
- ان تلك الطغمة كانت الجبهة الاولي والأكثر زوداً عن الدولة الاثيوبية أثناء أسوء حرب عرفتها القارة وهي الحرب الأثيوبية الأريترية بل ومازال اقليم التيغراي يسدد في مفرادات تلك الفاتورة بتعديات وحدات ومليشيات مدعومة من الجيش الاريتري تنهب وتقتل وتتوغل داخل حدود الإقليم بين الفينة والاخري.
- كذلك نسي او تناسي أحمد تحت ضغط بريق السلطة وضغوط الاقاليم الأخري التي دفعته دفعاً الي قمة هرم السلطة أنه سعي وخطط ان يوصف برجل السلام ليس فقط في منطقة القرن الافريقي بل في عموم القارة فكان أجدي به وما كان منتظر منه الا ان يترك أنانيته ويذهب الي طاولة المفاوضات مقدما مصلحة البلاد عن استمراره في السلطة ان تطلب الأمر ذلك كما فعل التيجراني ديسالين في 2018 أمام ضغط ومظاهرات جماعة الأورومو، ففي اثناء طلب بعض الجهات الدولية الدعوة للمفاوضات وافقت جبهة تحرير شعب تيجراي علي الحوار شريطة حضور أطراف المعارضة وأصحاب المصلحة الاخرون مما استشعر منه أحمد ان ذلك الأمر قد يستهدف وجوده في السلطة وكان ذلك من دواعي اصراره علي الرفض ان لم يكن اهمها.
- استعان أحمد ببعض المليشيات المسلحة من عرقيات أخري أهمها الأمهرا التي تحمل لجماعة تيغراي حقداً تاريخياً بسبب مشاكل حدودية بين الاقليمين في ما يسمي بعملية تأليب للعرقيات بعضها ضد بعض في سبيل تحقيق نصر بطعم الخسارة المريرة للوطن فليس هناك نصر اذا تغلب الجسد علي عضواً منه فجرحه او بتره (بفرض ان الجسد مكتمل لعوامل بقاءه حياً بالأساس) وهو ما جعل شعب تيجراي يتاكد تماماً من زعم قياداته ان الوطن لم يعد وطنه أو لم يكن وطنه بالأساس.
- لم يقرأ أحمد التاريخ جيداً ليعلم أن مقاومة جبهة تحرير شعب تيغراي للحكم الامبراطوري لم تكن في سبيل اثيوبيا بقدر ما كانت لتحرير شعب تيغراي كما هو واضح في مسمي جبهة المقاومة ( جبهة تحرير شعب تيغراي) حيث كانت تسعي لتحرير شعبها وليس أثيوبيا وأن الانصهار تحت راية الكيان الفيدرالي قد ظهر بعد دروب طويلة من المقاومة وكان مشروطاً بحق كل اقليم في تقرير مصيره وكذلك الانفصال وان كان ذلك ايضاً مشروطاً بشروط عجاف إلا انه موجود وأقره الدستور الفيدرالي.
- تناسي أحمد شعور جبهة تحرير تيغراي بخيبة الأمل بعد تفاهمات تمت ابان تخليهم عن السلطة في 2018 باضطهاد اعضاءها واتباعها وقيام عمليات تطهير عدوانية وانتقادات واسعة وعزل من الوظائف جعلت لديهم اعتقاد بانه قد تم خداعهم للتخلي عن السلطة في مقابل وعود كاذبة في وقت كانت البلاد في أمس الحاجة للمصالحة وإعادة دمج تيجراي ليكونوا جزءاً من الاتحاد الديمقراطي.
- كذلك لم يقدر أحمد تخوفهم من الطريقة التي تم بها السلام مع آريتريا وإستبعادهم من عملية صنع ذلك السلام مع عدوهم اللدود مما جعلهم ينون ان الجميع قد تحالف ضدهم
سقوط الوطن
بعد ان تولت البنادق الحوار بين فرقاء الدولة ، لم يعودوا شركاء في الوطن علي الأقل حتي الأن ,فالذي قتل التيغراني وهجره من بيته وشرده بين الجبال هو الأثيوبي الذي دخل بدبابته ليحتل وطنه الذي ناضل من أجله ولعل هذا ما قاله جبراميكائيل في بيانه منذ ايام حين قال( علي آبي احمد ان يتوقف عن هذا الجنون …. نحن نتكلم عن حق تقرير المصير ….. اننا نواجه غزو لبلادنا) وعند عبارة غزو لبلادنا يجب التوقف قليلاً للنظر في دينامية ذلك الصراع فلم يعد الأمر عبارة عن اعتراض فئة من المجتمع علي سوء إدارة او مطلب فئوي أو سوء توزيع الثروات بل تحول الي مقاومة وطنية ضد غازي محتل تفرض العقائد والأعراف مواجهته، فلم يعد هناك فرق لدي جبهة تحرير شعب تيغراي بين نظام آبي أحمد ونظام هيلاسلاسي أو حتي منجستو فكلهم طامعون في الوطن ويجب نيل الحق في تقرير مصيرنا بمزيد من الارواح والمشردين.
وكيف لا وتيغراي كانت رحم الوطن حسب ما أطلق عليها آبي احمد نفسه حين زارها العام المنصرم حيث قامت فيها حضارة اكسوم التليدة ومنها انطلقت الجيوش لضم أجزاء البلاد الحالية فأصبحت الآن منطقة تعاني التهميش واستهداف ابنائها بل ان جل العرقيات الاثيوبية الاخري تنظر اليهم نظرة الريبة بوصفهم المخربين في البلاد لاسيما بعد حدوث بعض عمليات التخريب والتفجيرات ومحاولة اغتيال أحمد الذي ألمح اليهم بانهم يقفون خلف كل ذلك رداً علي طردهم من السلطة.
لقد اسقطت الطلقات رداء المواطنة الرث عن شعب تيغراي فلم يعودوا يشعروا أنهم مواطنين اثيوبيين كالأمهرا مثلاً والا ما استعانت بهم الحكومة المركزية لغزو بلادهم لذلك فهم في درجة ادني منهم ان لم يكونوا في درجة دنيا في درجات الائتلاف الاثيوبي الفيدرالي .
لعله مخطئ من يتوهم للحظة انتهاء الصراع حيث أن ما انتهي منه هو الجزء الضئيل المُعلن الذي كان دوره فقط هو التعبير عن ماهو كائن من اختلاف قد يستحيل معه عودة اللحمة الوطنية مرة أخري فالأمر ذاهب لا محالة الي حرب العصابات في اطار المقاومة ضد الغزاة بحسب قول قائد تلك المقاومة جبراميكائيل.
تلك الحرب التي لابد وان يعي آبي أحمد ومعه المجتمع الدولي أنها عبارة عن نار ستطال ثياب الجميع فداخلياً سوف تُنقل الصراع الي أماكن أخري ملتهبة في الكيان الأثيوبي ومستعدة قبل لحظة للانفجار مما سيؤدي بالدولة الي الانهيار والبلقنة لا محالة ، كذلك اقليمياً ستنتقل شرارة التشرزم إلي الدول المحيطة لأنها أيضاً تعاني من الاختلاف الاثني في أغلبها وكذلك تدفق اللاجئين علي تلك المجتمعات التي تشيع موتها الجوعي بصفة يومية، ولأن هذه المنطقة تعني بملفات تهم القوي الدولية فالطبع ستتأثر مصالحها في المنطقة إن لم تكن في العالم بأثره، فبها باب المندب والبحر الاحمر الذي ينقل ما يقرب من 30% من احتياجات العالم النفطية كذلك وقوعها بالقرب من أكثر مناطق العالم سخونة كالشرق الاوسط وجنوب غرب آسيا وكذلك بإعتبارها منطقة وثوب علي منطقة الخليج العربي وجزيرة العرب حيث ايران ونفط الخليج.
لذلك اذا نعتقد أن أي لاعب يمكنه تحقيق النصر من خلال الحرب في هذا البلد فهو مخطئ بلاشك فقد تحدث هزيمة في ساحة المعركة لكن لن ينتصر أحد في بناء نظام سياسي سلمي مستدام يسع الجميع لذلك يجب علي المجتمع الدولي واللاعبين الاقليميين ممارسة اقصي درجات الضغط والمساومات لإنقاذ هذا البلد في سبيل انقاذ المنطقة بأثرها من المزيد من الفوضي التي من الممكن أن تأتي علي الأخضر واليابس وذلك من خلال الوقف الفوري لكافة الأعمال العدائية وإجبار كافة الأطراف علي حوار وطني شامل يشمل كافة القوي السياسية وليست الأطراف المتصارعة اليوم أو التي مكنتها الظروف من حمل السلاح اليوم فقط………
خاص وكالة “رياليست” – د. ناصر مأمون عيسى – باحث في العلاقات الدولية وشؤون الشرق الأوسط.