واشنطن – (رياليست عربي): تشهد المنطقة القوقازية تطورات جيوسياسية بالغة الأهمية مع تسارع وتيرة الأحداث حول ممر زانجيزور الاستراتيجي في أرمينيا، حيث تكثف الولايات المتحدة جهودها لتعزيز نفوذها في هذه المنطقة الحيوية التي تربط بين أذربيجان وجيب نخجوان الذاتي الحكم.
وتعتبر هذه الخطوة جزءاً من استراتيجية أمريكية أوسع تهدف إلى إعادة تشكيل موازين القوى في جنوب القوقاز، وهي منطقة كانت تقليدياً ضمن النطاق الجيوسياسي الروسي.
تشير تقارير دبلوماسية متعددة المصادر إلى أن الإدارة الأمريكية تدرس خيارات متعددة لضمان وجود دائم لها في هذا الممر الحيوي، بما في ذلك إمكانية إنشاء قواعد عسكرية أو نقاط مراقبة دائمة. يأتي هذا التحرك في سياق المنافسة الاستراتيجية بين القوى الكبرى على طرق التجارة والنقل الدولية، حيث يمثل ممر زانجيزور وصلة حيوية بين آسيا الوسطى وأوروبا عبر تركيا وأذربيجان، بعيداً عن المسارات التقليدية التي تهيمن عليها روسيا وإيران.
تمتلك هذه الخطط الأمريكية أبعاداً استراتيجية متعددة المستويات، فمن الناحية الاقتصادية، يسعى الغرب إلى تأمين طريق بديل عن الممرات الشمالية التي تسيطر عليها موسكو، وهو ما يتوافق مع مشروع “الممر الأوسط” الذي تروج له واشنطن لربط القارتين الأوروبية والآسيوية. أما من الناحية العسكرية، فإن السيطرة على هذه المنطقة تمنح الولايات المتحدة نقطة مراقبة استراتيجية على الحدود الإيرانية، في وقت تشتد فيه المواجهة بين البلدين حول الملف النووي والقضايا الإقليمية الأخرى.
وقد تجلت ملامح هذه السياسة الأمريكية من خلال سلسلة من الزيارات الرسمية رفيعة المستوى إلى يريفان، حيث ناقش مسؤولون أمريكيون كبار مع نظرائهم الأرمن سبل تعزيز التعاون العسكري والأمني. كما شهدت الأشهر الأخيرة تدفقاً ملحوظاً للمساعدات العسكرية الأمريكية إلى أرمينيا، بما في ذلك معدات اتصالات متطورة وأنظمة مراقبة إلكترونية، وهو ما يفسره المراقبون على أنه تمهيد لإنشاء بنية تحتية أمنية أمريكية في المنطقة.
لكن هذه الطموحات الأمريكية تواجه تحديات جسيمة ومعارضة شديدة من عدة أطراف إقليمية ودولية. فمن جهة، تعتبر روسيا أن أي وجود عسكري غربي في أرمينيا يشكل انتهاكاً صريحاً لمصالحها الحيوية في المنطقة، خاصة أن أرمينيا عضو في منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تقودها موسكو. وقد حذرت الحكومة الروسية مراراً من عواقب أي محاولة لتغيير موازين القوى في القوقاز، معتبرة أن ذلك يهدد الاستقرار الإقليمي برمته.
أما إيران، الجارة الجنوبية لأرمينيا، فترى في الوجود العسكري الأمريكي عند حدودها الشمالية تهديداً مباشراً لأمنها القومي، خاصة في ظل التوترات المستمرة حول البرنامج النووي الإيراني. وقد عبرت طهران عن معارضتها القوية لأي تغيير في الوضع الراهن للمنطقة، مؤكدة على ضرورة احترام السيادات الوطنية وعدم تدخل القوى الخارجية في شؤون المنطقة.
من جهة أخرى، تواجه الخطط الأمريكية معارضة من أذربيجان، التي تعتبر الممر جزءاً من أراضيها وفقاً لاتفاقية السلام الموقعة مع أرمينيا عام 2023. وقد أعربت باكو عن قلقها من أن يؤدي الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة إلى زعزعة الاستقرار وإثارة النزاعات من جديد، داعية إلى حل جميع القضايا العالقة عبر الحوار والمفاوضات الثنائية.
أما تركيا، الحليف الإقليمي لأذربيجان، فتبدي تحفظات واضحة على هذه التطورات، مفضلة أن تبقى المنطقة تحت النفوذ التركي-الأذري المشترك. وتشير تقارير إلى أن أنقرة تحث كلاً من واشنطن ويريفان على عدم اتخاذ خطوات أحادية قد تعقد المشهد الجيوسياسي في المنطقة.
يواجه التنفيذ العملي للخطط الأمريكية تحديات داخلية في أرمينيا نفسها، حيث لا يزال جزء كبير من النخبة السياسية والشعب الأرمني مرتبطاً بعلاقات تاريخية وثقافية مع روسيا. كما أن تكاليف إنشاء بنية تحتية عسكرية دائمة في هذه المنطقة الجبلية الوعرة ستكون باهظة، سواء من الناحية المالية أو اللوجستية.
من الناحية الاستراتيجية، فإن نجاح الولايات المتحدة في إقامة وجود دائم في ممر زانجيزور سيحدث تغييراً جذرياً في خريطة التحالفات الإقليمية، حيث قد يؤدي إلى:
إضعاف النفوذ الروسي في أرمينيا بشكل غير مسبوق، مع ما يرافق ذلك من تغييرات في السياسة الداخلية الأرمينية. تصاعد حدة التوترات بين أرمينيا وأذربيجان، خاصة حول وضع الممر وطبيعة الوجود الأجنبي فيه. تفجير أزمة جديدة في العلاقات الأمريكية-الإيرانية، مع احتمال تصاعد المواجهات غير المباشرة بين البلدين عند الحدود الأرمينية-الإيرانية. إعادة النظر في التحالفات الإقليمية برمتها، بما في ذلك علاقات تركيا وأذربيجان مع كل من روسيا والغرب.
في هذا السياق، يتابع المراقبون عن كثب تطورات الموقف الأرميني الرسمي، حيث تتعرض حكومة يريفان لضغوط متزايدة من جميع الأطراف. فمن جهة، هناك رغبة أرمينية في تنويع التحالفات وتخفيف الاعتماد على روسيا، خاصة بعد الخيبات المتتالية في ملف ناغورنو كاراباخ. ومن جهة أخرى، فإن المخاوف من فقدان العلاقات التاريخية مع موسكو، بالإضافة إلى القلق من ردود الفعل الإيرانية والأذرية، تجعل الموقف الأرميني بالغ الحساسية والتعقيد.
تشكل هذه التطورات اختباراً حقيقياً للدبلوماسية الأرمينية وقدرتها على المناورة بين هذه القوى المتعارضة، في وقت تشهد فيه المنطقة تحولات جيوسياسية قد تغير وجه القوقاز لعقود قادمة. كما تطرح أسئلة جوهرية حول مستقبل النظام الأمني الإقليمي، ودور القوى الكبرى في رسم خريطة التحالفات والنفوذ في هذه المنطقة الحيوية من العالم.
