رغم مرور أزيد من تسعين سنة على التواجد المادي لجماعة الإخوان المسلمين فإن الدول العربية والإسلامية وكذا القوى الكبرى المتأثرة بالتفاعلات التي تقع على مستوى البيئة الاستراتيجية في المنطقة في حاجة إلى فهم البنية السلوكية لهذا التنظيم “السياسي” العنيف، من خلال تسليط منهجية البحث التاريخي على مناطق الظل في تاريخ التنظيم الإخواني من أجل الإحاطة بالجوانب التنظيمية والإيديولوجية والحركية للجماعة، وهو ما يشكل مدخلا أساسيا لفهم التفاعلات والتقاطبات التي تتجاذب التنظيم في محيط إقليمي ودولي متقلب وغامض.
في هذا السياق، تسعى الحلقات، الموجهة للنشر حصريا على موقع مركز خبراء رياليست، إلى فهم محددات البنية السلوكية للتنظيم الإخواني من خلال رصد وفهم حالة الانتقال بين المواقف وتغيير المواقع بين طرف التعبير السلوكي المعتدل والمتطرف. ولعل الوصول إلى هذه الحالة من الفهم ستمنح الفرصة للمهتمين بالظاهرة لتوقُّع السلوك السياسي للجماعة وضبط قواعد التحالفات التي تحكم التنظيم رغم التناقضات التي تبدو واضحة عند الوقوف على بعض المواقف التي تحكمها الإكراهات السياسية وطموحات “التمكين” لتنظيمات الإسلام السياسي.
على هذا المستوى من التحليل يمكن الجزم بأن الاختيارات السياسية لجماعة الإخوان كانت دائما (ولا تزال) تنضبط للرسم الاستراتيجي الكلاسيكي من خلال:
- تحديد الهدف السياسي الأسمى
- تحديد الاستراتيجية الكبرى للتنظيم
- اختيار استراتيجية المواجهة مع العدو الداخلي أو الخارجي
- اختيار مسارح العمليات
- توجيه تكتيكات المواجهة
إن جماعة الإخوان المسلمين، وعلى عكس ما يعتقده البعض، لم تكن دائما أداة طيعة في يد بعض الأنظمة والقوى بالمفهوم السلبي، وإنما راهنت على بسط مجموعة من التحالفات التي قد تبدو غير مقبولة سياسيا ومرفوضة أخلاقيا، غير أن الجماعة رأت فيها ضرورة مرحلية تحت قاعدة “المصالح المشتركة مع الطاغوت”. ومن أجل ذلك سيلاحظ القارئ أن جماعة البنا أبرمت جميع أنواع التحالفات التي يمكن توقعها (مع الملك فاروق، مع الانجليز، مع النازية، مع الولايات المتحدة الأمريكية، مع فرنسا…) وقد تقوم الجماعة بإبرام تحالفات مع عدو سياسي بعد سنوات من المواجهة العنيفة معه (حزب الوفد، أنور السادات، حسني مبارك، القذافي، الأسد…) وهو ما يجعلنا نطمئن إلى الطبيعة السياسية للتنظيم والذي يقوم بالارتكان إلى الدين الإسلامي من أجل تبرير اختيارات ذات طبيعة سياسية صرفة.
إن اختيار عنوان “تاريخ العنف عند جماعة الإخوان المسلمين” لهذه الحلقات مرده بالأساس إلى محاولة دحض الفكرة القائلة بأن التنظيم الإخواني يمثل التيار الإسلامي المعتدل وبالتالي يمكن أن يشكل بديلاً موثوقا للأنظمة القائمة كما تورطت في ذلك مجموعة من الدول الغربية وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية التي حاولت استغلال التنظيم للضغط على مجموعة من الدول لتعديل سلوكها السياسي، ساعدها في ذلك البنية العقدية للتنظيم والتي لا تؤمن بعقيدة الوطن والحدود وبالتالي فهي قادرة على قبول العديد من التفاهمات على حساب الوحدة الوطنية والترابية للدول العربية والإسلامية.
في هذا الصدد، يبقى أي مخطط لإنهاك المنطقة العربية رهين بإيجاد “حليف محلي” يقدم المصلحة السياسية على صريح النص الديني ويستبعد مفاهيم الاصطدام والجهاد مع الغرب مقابل تمكينه من السلطة السياسية في بعض الدول العربية. هذا الهدف السياسي، والذي أثبت التنظيم أنه غير قادر على الحفاظ عليه وتحصينه، غالبا ما يتحول إلى حالة من الصدام المجتمعي وإلى خلق حالة من التوحش يعمل الغرب على استغلالها من أجل خلق واقع سياسي جديد يخدم الأبعاد الاستراتيجية لواشنطن في المنطقة العربية والإسلامية.
إن دراسة معمقة للتاريخ الحديث للعلاقات الدولية منذ الحرب العالمية الثانية تجعلنا نقف على بصمات واضحة للحضور الإخواني من خلال دورها المادي في القتال إلى جانب النازية إبان الحرب الكونية الثانية، ثم تحالفها مع الولايات المتحدة الأمريكية لمواجهة المد السوفياتي وقيادتها لمواقع متقدمة للمواجهة الدينية مع موسكو (مسجد ميونيخ، حرب أفغانستان)، مرورا باجتياح العراق للكويت والدور الإخواني المؤيد للعراق ثم محاولة مساعدة إيران على وضع يدها على الكويت (شهادة القيادي الإخواني يوسف ندا)، وصولا إلى الأزمة الخليجية القطرية حيث يبقى الإخوان طرفا أصيلا في الأزمة الحالية، دون أن ننسى دورهم في محاولة التمكين للمشروع التركي الفارسي في المنطقة حيث يظل الإخوان نقطة الضبط والربط بين قطر وتركيا وإيران وأداة للترويج لهذه المشاريع التوسعية في المنطقة العربية.
وإذا كان موضوع الحلقات هو العنف عند جماعة الإخوان المسلمين، فإن منهجية التحليل التاريخي تفرض المرور على مجموعة من الوقائع بالسرد والتحليل حتى تكتمل مربعات الصورة لدى المهتم بالظاهرة وبالتالي المساهمة في خلق وعي مادي جماعي بخطورة الأجندات السياسية ومشاريع التقسيم لدى التنظيمات الإخوانية وبالتالي بسط تكتيكات المواجهة وفق قراءة ذكية وعلمية لمختلف الدول التي ينشط فيها الإخوان المسلمين ومن تم إسقاط الرسم الاستراتيجي المضاد حسب البيئة الاستراتيجية لكل دولة على حدة.
د.عبدالحق الصنايبي- متخصص في الدراسات الاستراتيجية و الأمنية، خاص “رياليست”