دمشق – (رياليست عربي): منذ فجر التاريخ، شكّلت العشائر في سورية حجر الأساس للبنية الاجتماعية، خاصة في المناطق الريفية والصحراوية. فقد كانت العشيرة تمثل الملاذ والحماية والهوية للأفراد، وظلت على مدى قرون الإطار الذي ينظم العلاقات الاقتصادية والاجتماعية. ومع انهيار الدولة العثمانية في مطلع القرن العشرين، برز دور العشائر بصورة أوضح، إذ وجدت نفسها في مواجهة تحولات سياسية كبرى، وكان لها شأن عظيم في تشكيل ملامح المرحلة التالية.
خلال فترة المملكة السورية في عشرينيات القرن الماضي، سعت الحكومة الجديدة إلى كسب ود العشائر عبر منح الامتيازات وتقديم المنافع، إدراكًا منها لثقلها الاجتماعي وقدرتها على التأثير في موازين القوى. وقد أثبتت العشائر في تلك المرحلة قدرتها على الفعل، فكانت في طليعة الثورات ضد الاحتلال الفرنسي، حيث قدمت المقاتلين والدعم اللوجستي، وأسهمت في حماية الهوية الوطنية الناشئة.
ومع إعلان الاستقلال عام 1946، شهدت سورية تحولات اجتماعية وسياسية كبيرة انعكست على دور العشائر. فقد انخرطت العديد منها في الحياة السياسية، وبرز نفوذها في المجالس المحلية، غير أن تغيّر الأنظمة السياسية وتوجهاتها ألقى بظلاله على العشائر، إذ تعرضت في بعض الفترات للتهميش أو محاولات تفكيك نفوذها. ومع ذلك، ظلت حاضرة في المشهد الاجتماعي، تحافظ على ترابطها الداخلي وتوازنها مع الدولة.
ومع اندلاع النزاع السوري في عام 2011، عادت العشائر إلى الواجهة من جديد. ففي ظل الفوضى وانهيار مؤسسات الدولة في مناطق واسعة، لعبت العشائر دورًا محوريًا في تنظيم المجتمعات المحلية، سواء عبر تقديم الخدمات أو حماية السكان. وتباينت مواقفها بين دعم المعارضة والتفاوض مع النظام، لكنها ظلت فاعلًا رئيسيًا في رسم المشهد الميداني.
اليوم، ومع الحديث عن إعادة بناء سورية، يقف مستقبل العشائر أمام منعطف حاسم. فاستعادة الهوية الوطنية وإعادة اللحمة الاجتماعية تتطلب من العشائر أن تكون جسرًا للتواصل بين مختلف المكونات، وأن تساهم في تخفيف التوترات الطائفية التي أنهكت البلاد. كذلك، من المنتظر أن تلعب العشائر دورًا مهمًا في العملية السياسية القادمة، سواء عبر تمثيل مصالحها في المجالس المحلية والوطنية، أو من خلال بناء تحالفات جديدة تعزز استقرار البلاد.
ولا يقتصر الأمر على السياسة فقط، فالعشائر تملك مقومات اقتصادية يمكن أن تسهم في إعادة الإعمار. فمواردها المحلية وشبكاتها الاجتماعية تجعلها قادرة على دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، خاصة إذا تعاونت مع الحكومة والمجتمع المدني لتحقيق تنمية مستدامة. وإلى جانب ذلك، تمتلك العشائر خبرة عميقة بالبيئة المحلية، ما يؤهلها للعب دور في تعزيز الأمن والاستقرار، سواء عبر تشكيل لجان شعبية أو الانخراط في الحلول الأمنية المستقبلية.
غير أن الطريق ليس معبّدًا بالكامل. فالتحديات كثيرة، من التنافس بين القوى السياسية إلى الضغوط الخارجية التي تسعى لاستثمار الانقسامات. لذا، سيكون على العشائر أن تعيد النظر في استراتيجياتها، وأن تتبنى نهجًا مرنًا يضمن لها أن تكون جزءًا من الحلول لا جزءًا من الأزمات.
في المحصلة، تظل العشائر السورية ركيزة أساسية في نسيج المجتمع السوري، وقوة لا يمكن إغفالها في رسم ملامح الغد. فكما كانت في الماضي سندًا للمقاومة وبناء الدولة، يمكنها اليوم أن تكون ركيزة لوحدة سورية الجديدة، شرط أن تُستثمر طاقاتها في مسارات تعزز الهوية الوطنية، وتدعم الاستقرار والتنمية، وتفتح الطريق نحو مستقبل يليق بتاريخها العريق.
خاص وكالة رياليست – د. ياسين العلي – خبير اقتصادي وناشط سياسي.