موسكو – (رياليست عربي): تسلمت جمهورية صربيا منظومات صاروخية صينية متطورة في عملية حلقت فيها الطائرات الصينية المحملة بالصواريخ عبر أراضي دولتين عضوين في حلف شمال الأطلسي – الناتو هما تركيا وبلغاريا مما اعتبر دليلاً على الإنتشار العالمي المتنامي للصين الشعبية ودليلاً على استعداد صربيا لأي تطور أمني وعسكري في دول البلقان، وذلك بالتزامن مع استمرار العملية العسكرية الروسية في جمهورية أوكرانيا المحاذية.
فبعد أن تسلمت جمهورية صربيا حليفة روسيا الإتحادية، منظومة صينية متطورة مضادة للطائرات في عملية “شبه سرية” نهاية الأسبوع الماضي، سادت مخاوف غربية من أن عملية تكديس الأسلحة الحالية التي تشهدها منطقة البلقان بالتزامن مع الحرب الحالية التي تشهدها أوكرانيا يمكن أن يهدد السلام الهش في المنطقة برمتها.
ويؤكد خبراء إعلاميون وعسكريون في العاصمة الصربية بلغراد أن ست طائرات نقل تابعة للقوات الجوية الصينية من طراز (Y-20) كانت قد هبطت في مطار بلغراد المدني في وقت مبكر من يوم السبت الموافق لتاريخ 9 أبريل/ نيسان 2022، حيث يقال إنها تحمل أنظمة صواريخ (أرض – جو) من طراز (HQ-22) للجيش الصربي.
وقد تمَّ تصوير طائرات الشحن الصينية التي تحمل علامات عسكرية في قاعدة مطار (نيكولا تيسلا) في بلغراد، فيما اعتبر خبراء العلاقات الدولية أن تسليم هذه الأسلحة بعد مرورها عبر أراضي دولتين عضوين في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهما تركيا وبلغاريا إنما بات دليلاً على الإنتشار العالمي المتنامي للصين الشعبية.
ويؤكد المحللون العسكريون الصربيون أن الصينيين بهذا التصرف قد نفذوا استعراضاً للقوة، حيث أثار ظهور طائراتهم من طراز (Y-20) دهشة كبيرة، لأن تلك الطائرات الصينية قد طارت بشكل جماعي بدلاً من سلسلة من الرحلات الجوية المتتابعة.
فيما كتبت مجلة (The Warzone) على شبكة الإنترنت أن وجود طائرات صينية من طراز (Y-20) في أوروبا بأي عدد كان، هو بحد ذاته تطوراً جديداً إلى حد ما.
ولهذا السبب أكد الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش، أن تسليم نظام صواريخ الدفاع الجوي متوسط المدى الذي تمَّ الإتفاق عليه مع الصينيين في وقتٍ سابقٍ من عام 2019 كان “أحدث فخر” للجيش الصربي، علماً بأن الرئيس ألكسندر فوتشيتش قد اشتكى في وقت سابق من أن دول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والتي تمثل معظم جيران صربيا، ترفض السماح بمرور الطائرات المحملة بمنظومات الدفاع الجوي الصينية فوق أراضيها بسبب التوترات الحالية للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.
وعلى الرغم من أن صربيا صوتت لصالح قرارات منظمة الأمم المتحدة التي تدين الهجمات الروسية في أوكرانيا، إلا أن جمهورية صربيا نفسها رفضت الإنضمام إلى العقوبات الدولية ضد حلفائها في موسكو أو مساعدة الغرب في انتقاد الفظائع التي لفقتها أوكرانيا ضدَّ القوات الروسية هناك.
وقد حذر المسؤولون الأمريكيون قادة بلغراد في عام 2020 من شراء أي أنظمة صاروخية كأنظمة (HQ-22) المضادة للطائرات، والتي تعرف نسختها التصديرية باس (FK-3)، وأعلنوا بأنه إذا كانت صربيا تريد الإنضمام إلى الإتحاد الأوروبي والتحالفات الغربية الأخرى، فعليها موائمة معداتها العسكرية مع المعايير الغربية.
ويقارن نظام الصواريخ الصيني على نطاق واسع بأنظمة صواريخ باتريوت الأميركية وصواريخ (أس-300) الروسية، على الرغم من أن هذه الصواريخ لديها مدى أقصر من مدى صواريخ (أس-300) الأكثر تقدماً. وبما أن جمهورية صربيا قد عاشت في حالة تجربة حرب مريرة مع جيرانها في التسعينات، لذلك فإن القيادة الصربية الحالية ستسعى إلى تعزيز قواتها المسلحة بأسلحة روسية وصينية، بما في ذلك زيادة عدد الطائرات الحربية ودبابات القتال المتطورة، وغيرها من المعدات العكسرية كأنظمة الدفاع الجوي، بغض النظر أن حكومة بلغراد الحالية حاولت أن تسعى رسمياً للحصول على عضوية الإتحاد الأوروبي.
ولكن الحدث الأكثر أهمياً بين الجانبين الصربي والصيني كان قد حدث في عام 2020، أي عندما تسلمت جمهورية صربيا طائرات (تشنغدو بتيروداكتيل-1) بدون طيار والمعروفة في الصين باسم (ing Loong) حيث تستطيع تلك الطائرات بدون طيار القتالية أن تضرب الأهداف بالقنابل والصواريخ ويمكن استخدامها في مهام الإستطلاع والرصد والتجسس كداعم أمامي للقوات العسكرية الصربية.
ما هو هدف جمهورية الصين الشعبية من دعم جمهورية صربيا الصديقة بهذه المنظومات الصاروخية المتطورة وهل سيتغير وضع بلغراد العسكري في منطقة البلقان بعد أن سمحت بلغراد لبكين بالدخول إلى منطقة البلقان عبر بوابة صربيا؟
يعتبر الخبراء في مجال العلاقات الدولية في مراكز الدراسات السياسية والإستراتيجية الروسية أن بكين حليفة موسكو تسعى بالفعل أن تتمدد في جمهورية صربيا لكي تصبح مركزاً إقتصادياً وسياسياً في منطقة البلقان، وما يهم الحكومة الصينية بالدرجة الأولى حالياً هو الحضور الإقتصادي في البلقان قبل الحضور السياسي والعسكري، وهذا الحضور هو نموذج للسياسية الصينية قد اتبعته بكين خلال السنوات العشر الماضية، وحقق نجاحاً منقطع النظير وساعد بكين في تخطي واشنطن في عدة محافل ومواقع إقليمية ودولية متعددة.
ولكن تخطي بكين لواشنطن في البلقان ووقوف بكين إلى جانب موسكو هناك، وبدء التنسيق العسكري والسياسي بين بكين وبلغراد سيكون له أثر كبير في البلقان، وسيرسم تحالفات إستراتيجية جديدة. وعلى الرغم من أن بعض الساسة الأوروبيين يعتقدون بأن هذا التمدد الصيني في صربيا لربما قد يكون في حقيقة الأمر هو رغبة صربية واضحة في البحث عن بديل للدور الروسي المتصادم مع مواقف الدول العسكرية وخاصةً بعد العملية العسكرية الروسية الأخيرة في أوكرانيا، إلا أن الساسة الأمريكيين كانوا أكثر حذراً لكونهم اعتبروا بأن هذا التمدد الصيني في البلقان يأتي بالتنسيق بين موسكو وبكين لجعل جمهورية صربيا في المستقبل رأس الحربة (الروسية – الصينية) المشتركة ضدَّ تمدد الإتحاد الأوروبي ودول الناتو في منطقة البلقان.
وأكبر دليل على هذا التنسيق (الروسي – الصيني) هو أن روسيا الإتحادية قد قامت منذ فترة وجيزة فقط بدعم الفريق الرئاسي الصربي الحالي في بلغراد برئاسة الرئيس ألكسندر فوتشيتش والذي استخدم بمهارة عودة الحرب إلى القارة الأوروبية من بوابة أوكرانيا، وقد اعترف الرئيس فوتشيتش لوسائل الإعلام الصربية وبكل صراحة، أنه هو شخصياً قد تفاجئ بالتأثير (الهائل) للأزمة الأوكرانية على نتائج الإنتخابات الصربية الأخيرة، حيث ألقت العملية العسكرية الروسية بظلالها على المنافسة في الإنتخابات الصربية، وأتت بالفعل تماماً، عكس ما توقعه المراقبون في وقت سابق حيث كان يعتقد بأن المقترعين سيقومون بالتركيز على قضايا البيئة والفساد وحقوق الإنسان، كما كان من المعتقد أنهم سيركزون على التصويت للأحزاب والفئات السياسية التي وعدت بانتشال الإقتصاد الصربي من المحنة التي مرَّ بها خلال انتشار عدوى فيروس (كورونا) الوبائي التاجي، لكن الرئيس الصربي، وبمساعدةٍ من الكرملين الروسي، أدار الوضع بعناية فائقة حيث استغل ردة فعل صربيا على الحرب في أوكرانيا من خلال إدانة روسيا الإتحادية رسمياً في منظمة الأمم المتحدة، كما امتنعت بلغراد في الوقت نفسه عن فرض أي عقوبات إقتصادية ضدَّ موسكو.
وبالرغم من الضغوطات الكبيرة التي مارستها الإدارة الأمريكية في البيت الأبيض الأمريكي، إلا أن القيادة الصربية كانت متفهمة وواعية بأن العديد من الصرب يتبنون وجهة نظر إيجابية تجاه الكرملين الروسي، وأن الشعب الصربي سيؤيد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. وتعود حقيقة هذا الموقف الصربي المستميت إلى جانب روسيا الإتحادية ضدَّ أوكرانيا، لأن الشعب الصربي في حقيقة الأمر لا يعتبر بأن هذه العملية العسكرية الروسية هي ضدَّ أوكرانيا، وإنما يعتبرها ضدَّ حلف (الناتو)، ذلك الحلف الذي قصفت طائراته في عام 1999 أكثرية المدن الصربية وعلى رأسها العاصمة بلغراد، والتي لم ينسى قادتها السياسيون ذلك الأذى الذي ألحقته طائرات واشنطن وغيرها من عواصم حلف (الناتو) بالبنية التحتية الصربية التي دُمرت خلال ذلك القصف بحجة وقف المجازر في مناطق البوسنة والهرسك أو غيرها من المناطق في البلقان، حيث بدا واضحاً لصربيا وريثة يوغسلافيا السابقة بأن الدول الغربية وحلف (الناتو) أرادت من بلغراد أن تدفع فاتورة مواقفها المعتدلة منذ حقبة الزعيم اليوغسلافي جوزيف تيتو ولغاية آخر أيام حرب البلقان، والتي ظهرت فيها صربيا على أنها خندقاً سلافياً منيعاً في وجه التمدد الأمريكي وهذا الجدار الصربي ليس أقل صلابة من الخندق الروسي الحليف للخندق الصربي.
بماذا تجسدت سياسة التحالف (الروسي-الصربي) وما هو دور جمهورية الصين الشعبية ضمن تحالف (موسكو مع بلغراد) وما هي أوجه الشبه بين بكين وبلغراد والتي نجحت موسكو في صهرها ضمن بوتقة سياسية إقليمية ودولية موحدة ضدَّ الدول الغربية وعواصم دول (الناتو) التي تقف ضدَّ تحالف بكين وبلغراد وموسكو؟
تجسدت سياسة التحالف (الروسي-الصربي) والتي ألقت بظلالها على سياسة التحالف (الصيني-الصربي) بدعم موسكو لبلغراد بشحناتٍ كبيرة من الغاز الروسي بعد أن توصلت بلغراد وموسكو إلى اتفاق لاستيراد الغاز الروسي في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022.
أما على صعيد المحافل الدولية، فقد نجحت موسكو حتى الآن في اتخاذ موقف واضح فيما يتعلق برفضها لإنفصال إقليم كوسوفو ودعم بلغراد في المحافل الإقليمية والدولية، تماماً كما نجحت حتى الآن في اتخاذ موقف واضح أيضاً فيما يتعلق بانفصال مقاطعة (هونغ كونغ)، لأن موسكو مدركة جيداً لخطر إنفصال الأقاليم عن الوطن الأم للبلدان.
أي بمعنى آخر لكلا حليفتي موسكو (بلغراد وبكين) ما يجمعهما مع موسكو وما يفرقهما عن واشنطن، وهو الأمر الذي دفع بخطوات البلدين قدماً للتوصل إلى إتفاقية الشراكة الإستراتيجية بين جمهورية الصين الشعبية وجمهورية صربيا.
ما هي أهم أوجه التعاون والتنسيق (الصيني – الصربي) وهل نجحت إتفاقية الشراكة الإٍستراتيجية بأن تدفع قدماً بجميع أوجه التعاون بين بكين وبلغراد كما كانت تطمح القيادات السياسية في كلا البلدين؟
نجحت القيادات السياسية في بكين وبلغراد في العام 2009 باتخاذ قرار إستراتيجي لتعميق العلاقات بين جمهورية صربيا وجمهورية الصين الشعبية، لتنتقل هذه العلاقات نحو مستوى الشراكة الإستراتيجية والتي أعلن من بعدها عن توقيع عدة إتفاقيات بين وزارات البلدين للتعاون الإقتصادي والتكنولوجي بغرض تطوير البنية التحتية في جمهورية صربيا.
وقد كان هذا القرار الصربي تاريخياً، حيث استقرأت صربيا خلافاً لغيرها من دول البلقان النمو الكبير للتنين الصيني سياسياً وإقتصادياً وصناعياً وعسكرياً، حيث عولت بلغراد على بكين لكي تصبح حليفتها الإستراتيجية مثل موسكو تماماً، وكان لها ما خططت له، فقد أدى هذا التحالف إلى تدفَّق الإستثمارات الصينية في مختلف الصناعات الثقيلة كصناعات الصلب والتعدين وإعادة تصنيع مكونات النحاس، كما ساعدت الصين صربيا في إعادة تحديث العديد من محطات توليد الطاقة، وكانت المساعدة الأبرز عندما انتشلت بكين حليفتها بلغراد من أزمة فيروس كورونا الوبائي.
وبما أن جمهورية الصين الشعبية مميزة بيدها العاملة وكذلك بعمل شركاتها العابرة للقارات، فقد فتحت الشركات الصينية الطرق والمصانع وخطوط السكك الحديدية في جميع المناطق الصربية بلا استثناء، وهو الأمر الذي ترك انطباعاً كبيراً بالإحترام والقوة لدى أبناء الشعب الصربي تجاه الصين الشعبية، ولربما كانت الخطوة الصينية الأعظم خلال العام 2020 عندما تخلت عواصم دول الإتحاد الأوروبي وحلف الناتو عن مساعدة صربيا في مكافحة عدوى فيروس (كورونا) الوبائي، لتأتي المؤسسات الصحية الصينية في بكين وتسعف أبناء الشعب الصربي في أحلك أوقاته.
وبشكل عام تدل الإحصائيات الإقتصادية إلى أن الإستثمارات الصينية قد قفزت في جمهورية صربيا من العام 2006 ولغاية العام 2020 حتى بلغت 10 مليارات دولار، ومن المحطات الهامة في ملف التعاون الإقتصادي (الصربي- الصيني) تبرز عملية قيام الصين بشراء مصنع الصلب الوحيد في جمهورية صربيا خلال العام 2016، حيث نجحت الشركات الصينية بجدارةٍ قل نظيرها في إعادة تشغيل مصهر للمعادن وإعادة تنظيم العمل في أحد أكبر مناجم النحاس شرق جمهورية صربيا، كما نفذت بكين نزولاً عند رغبة بلغراد عملية بناء وإعداد وتشغيل مصنع للإطارات في شمال صربيا، واستمر هذا التمدد الإقتصادي الصيني في صربيا حتى وصل أواخر العام الماضي 2021 إلى ذروته، فتجاوزت الإستثمارات الصينية عتبة 2 مليار يورو، فيما وصلت قروض البنية التحتية الصينية إلى مبلغ 8 مليار يورو، وهو ما ساهم في إرساء جمهورية الصين الشعبية كحليف إقتصادي موثوق به في جمهورية صربيا.
هل ينمو التعاون السياسي والعسكري بين جمهورية صربيا وجمهورية الصين الشعبية بنفس الوتيرة التي ينمو فيها التعاون الإقتصادي بينهما، أم أن بعض الفئات والأحزاب السياسية في بلغراد وطموحها بالإنضمام إلى الإتحاد الأوروبي ما زال يحول دون حصول تقدم على الصعيدين السياسي والعسكري؟
على الرغم من أن بكين وبلغراد أبديتا تفهمها للتوافق السياسي والعكسري والدبلوماسي بينهما، حيث انعكس هذا التعاون واضحاً عندما دعمت بلغراد موقف الصين الرسمي بشأن تايوان والأراضي الواقعة في بحر الصين الجنوبي، تماماً كما دعمت بكين موقف جمهورية صربيا الرافض للإعتراف بإقليم كوسوفو الذي أعلن استقلاله في العام 2008. إلا أن التعاون العسكري بين بلغراد وبكين ما زال يعاني من تطفل بعض العواصم الغربية وعلى رأسها واشنطن إلى جانب بعض عواصم دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) والذين حاولوا السيطرة على المؤسسة العسكرية الصربية وذلك بجعلها رهينة للدعم المالي الغربي.
ولكن وعلى الرغم من هذه المحاولات الغربية لإبقاء بلغراد مرتبطة بشكل أو بآخر بالعواصم الغربية، إلا أن وزارة الدفاع الصربية نجحت في القيام بالعديد من محاولات التقارب العسكري والأمني مع بكين، فوقَّعت على سبيل المثال عقداً لشراء وتجميع العديد من الطائرات المُسيَّرة الصينية (طائرات بدون طيار)، كما نجحت صربيا في الإستفادة من التقنيات الإلكترونية الصينية الحديثة، بعد أن قامت بلغراد بإستخدام (البنية التحتية للمراقبة الصينية) أو ما يطلق عليه اصطلاحاً بمفهوم (المدينة الآمنة) وذلك في جميع شوارع وأحياء العاصمة الصربية بلغراد، حيث قامت وزارة الدفاع الصربية بالتنسيق مع وزارة الداخلية الصربية بنشر وتركيب أكثر من 1000 كاميرا للمراقبة في 820 موقع معظمها في العاصمة الصربية بلغراد وضواحيها القريبة، وهو الأمر الذي أتاح للمؤسسات الأمنية والعسكرية ومؤسسات حفظ القانون وتنفيذه بالإستفادة من هذه التقينات الصينية للتعرف على الوجوه عبر هذه التقنية، وهو ما ساعد كثيراً في عمليات الرصد والمتابعة والمراقبة بشكل مميز للغاية من الناحية الأمنية والقانونية، خاصةً وأن عمدة العاصمة بلغراد والرئيس ألكسندر فوتشيتش نفسه أرادوا أن تصبح بلغراد إحدى أكثر عواصم أوروبا الشرقية أمناً وأماناً، لإضفاء طابع هيبة الدولة على سكان العاصمة بلغراد وسكان غيرها من المدن الصربية.
ما موقف الولايات المتحدة الأمريكية من التقارب الصيني الصربي المتنامي خاصةً بعد وصول منظومات صواريخ HQ-22 المضادة للطائرات إلى جمهورية صربيا؟
على الرغم من تحذيرات واشنطن لبلغراد سابقاً من مغبة شراء أنظمة (HQ-22) المضادة للطائرات، وذلك بالتذكير أنه وفي حال كانت صربيا تريد حقاً الإنضمام إلى الإتحاد الأوروبي والتحالفات الغربية الأخرى، فعليها موائمة معداتها العسكرية مع المعايير الغربية، إلا أن قادة صربيا على ما يبدو قد نجحوا في القيام بعملية إستقراء دقيقة للواقع السياسي والعسكري والأمني لدول قارة أوروبا الشرقية والبلقان والبلطيق.
وعندما بدأت العملية العسكرية الروسية الخاصة في جمهورية أوكرانيا، أدرك القادة الصرب بأن مرحلة التغيير الجيوسياسي في المنطقة والعالم باتت قادمةً لا محالة، وهو الأمر الذي بدأ يتطلب من بلغراد عدم اللعب على حبال الأطراف الدولية كافة، خاصةً وأن القيادة الصربية الحالية نفسها مدركة بأن معظم دول العالم، تولدت لديها الرغبة حالياً لزيادة نفوذها في بلغراد لأهميتها الجغرافية كدولة محورية في منطقة البلقان، حيث تقع صربيا وسط عدة دول في قارة أوروبا الشرقية وهو ما يعطي صربيا أهمية جغرافية قل نظيرها في منطقة البلقان، إذ يمكن القول بلا أدنى شك أن جمهورية صربيا هي أهم دولة في منطقة البلقان، وهو الأمر الذي يفسر لماذا تعرضت هذه البلاد للعديد من الحروب والغزوات والمؤامرات.
ما هي أهم الميزات الفنية والتعبوية لهذه الصواريخ الصينية المتطورة والتي يمكن أن تنافس فيها جمهورية الصين الشعبية الصناعات الحربية الأمريكية مستقبلاً؟
بالنسبة للميزات الفنية والتعبوية لنظام الصواريخ المضادة للطائرات متوسط المدى (HongQi-22)، (HQ-22)، (Hongqi-22)، (Red Banner-22) والتي وصلت إلى صربيا، فهي جميعها تستخدم لتدمير طائرات العدو والمركبات الجوية غير المأهولة وصواريخ كروز والمروحيات في جميع ارتفاعات استخدامها القتالي.
ومن ميزات هذه المنظومة الصينية أنها تعمل بنفس القدرات في الليل والنهار، وفي أي ظروف جوية باستخدام إجراءات مضادة إلكترونية نشطة، وذلك بعد أن تم تطوير نظام الدفاع الجوي (HQ-22) من قبل (Jiangnan Space Industry) وهي شركة صناعية عسكرية صينية تعد جزءاً من شركة الصواريخ والفضاء الصينية(China Aerospace Science & Industry Corporation Limited) وهي تعرف اختصاراً بشركة (CASIC) والتي تنتمي إلى المجمع الصناعي العسكري الصيني، لكونها إحدى الشركات العملاقة التي لعبت دوراً كبيراً في تحديث ذلك المجمع على مدار السنوات الـــــ20 الماضية.
وقد تم تصميم ذلك المجمع الصناعي العسكري الصيني لتسريع إعادة تسليح وحدات الدفاع الجوي التابعة لجيش التحرير الشعبي الصيني(PLA) والتي تعمل على أنظمة (HQ-22) القديمة، والتي تمَّ تطويرها حالياً لتصبح أحد أفضل المنظومات العالمية.
حيث كانت الوحدة الأولى التي استلمت هذه الصواريخ هي فرقة جيش التحرير الشعبي من نظام الدفاع الجوي في بكين، ويقع مركزها في مقاطعة (ليانشوي) بمقاطعة (خبي) وبحسب المعلومات التي نشرتها وسائل الإعلام الغربية فقد تم نشر 13 كتيبة من طراز (HQ-22) في عام 2018 في تلك المنطقة الصينية، فيما تمَّ عرض هذا النوع من المنظومات الصاروخية المتطورة في المعرض العسكري الجوي (Airshow China 2016) في 30 يوليو 2017، حيث تم عرضه في موكب تكريمي أقيم حينها إحياءاً للذكرى التسعين لتأسيس جيش التحرير الشعبي الصيني. ويضم المجمع صواريخ جديدة حيث تم تصنيع الصاروخ وفقاً للمخطط الديناميكي الهوائي “للجسم الحامل”، وتقع الأجنحة والدفات الديناميكية الهوائية في قسم الذيل، حيث يوفر محرك الإستدامة المحسن مدى طيران يصل إلى 120 كيلو متر، كما تمَّ تجهيز الصواريخ براردار متطور للغاية شبه نشط وموصول مع بوصلة بيانات للقيادة اللاسلكية ثنائية الإتجاه للتحكم بعملية طيران الصاروخ عبر نظام توجيه مشترك.
وفي المرحلة الأولى من رحلة هذا الصاروخ والتي تستمر لمدة 75 كيلو متر، يتم تنفيذ عمليات التوجيه عبر شبكات الراديو، حيث تتيح استخدام طريقة التوجيه هذه إمكانية تقليل حساسية النظام للإجراءات المضادة الإلكترونية المختلفة، مما يجعل من الممكن ضمان طيران الصاروخ على طول المسارات المثلى وضرب الأهداف بكفاءة عالية بدون أي مخاطر لاصطياده.
ويطلق هذا النوع من الصواريخ من على متن قاذفة خاصة به، لها ارتفاع وسمت معين وهي مجهزة بجزء قابل للدوران، وذلك بعد أن يتم وضع حزمة الصواريخ التي ستطلق ضمن 4 حاويات للنقل والإطلاق، وذلك لأن هذه الحاويات لها دور كبير في عملية النقل والإطلاق نظراً لقدرتها على الحماية من التأثيرات الخارجية.
وفي نهاية المطاف يؤكد خبراء العلاقات الدولية والمحللين العسكريين والأمنيين أن علامات اندفاع بكين نحو جنوب شرق أوروبا باتت واضحة، ولعل أكثرها وضوحاً هو تحول صربيا لمركز إقليمي لأنشطة الصين وتطوير العديد من مشاريع الطاقة والبنية التحتية عبر غرب البلقان، لكن هناك بعض الديناميكيات الصينية التي ستبقى أقل بروزاً مثل اهتمام بكين المستمر بالبنية التحتية البحرية على طول حوض ساحل البحر الأدرياتيكي والتوسع التدريجي لدبلوماسيتها خارج الشؤون الإقتصادية.
وبلا أدنى شك فإن العوامل السياسية الحالية قد دفعت جمهورية الصين الشعبية إلى تنفيذ إستراتيجية صينية في جنوب شرق أوروبا، ويشمل هذا الأمر استمرار المأزق الجيوسياسي في المنطقة، بسبب عدم وجود استجابة محددة بوضوح من قبل قيادة الإتحاد الأوروبي لأنشطة البلدان الثلاثة هناك في منطقة البلقان.
وفي الوقت نفسه، لا تزال دول غرب البلقان ومنها جمهورية صربيا بحاجة إلى سياسات وأدوات فعالة لسد فجوة التنمية مع بقية دول القارة الأوروبية، مما يدعو الصين إلى المزيد من المبادرات، لأنه بالنسبة لمعظم دول المنطقة مثل صربيا، فإن عودة المنافسة الجيوسياسية بين عواصم الشرق والغرب هو مخرج لمشاكلها الداخلية.
ولكن، وبالرغم من ذلك فقد شعرت جمهورية الصين الشعبية تقليدياً براحة أكبر عند التعامل مع أنظمة حكم الأمر الواقع تلك، مثل حكم صربيا في عهد الرئيس الحالي ألكسندر فوتشيتش والجبل الأسود أثناء حكم الرئيس ميلو ديوكانوفيتش، وغيرهم من الحكومات الراسخة في البلقان مثل حكم جمهورية مقدونيا الشمالية.
لكن على مدى السنوات القليلة الماضية، كان على الصين أن تتعامل مع تحولات القوة في كل من مقدونيا الشمالية والجبل الأسود، حيث قامت الحكومات الجديدة في تلك المناطق بتوجيه سياستها الخارجية بقوة أكبر نحو الدول الغربية وحلف (الناتو)، كما قامت بعض عواصم البلقان المعادية لموسكو وبلغراد وبكين، بالإعتماد على البنوك الغربية لاحتواء العواقب الوخيمة المحتملة في حال تخلفها عن سداد ديونها الضخمة لجمهورية الصين الشعبية.
وفي الوقت نفسه، وفي هذا الوقت الحساس بالذات يمكن أن تؤدي العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا إلى تعاون أعمق بين الصين وصربيا روسيا الإتحادية في غرب البلقان ويمكن أن تسرع جهود الإتحاد الأوروبي ومعها دول حلف (الناتو) لدمج دول المنطقة، حيث من المرجح الآن أن تصبح هذه المواقف المحايدة في السياسة الخارجية لبعض دول المنطقة مثل موقف صربيا، هي مواقف غير مقبولة.
وبينما تواجه جمهورية الصين الشعبية حالياً رياحاً معاكسة بعد سنوات من العمل في بيئة متساهلة إلى حد كبير، فإن بكين على ما يبدو ستعمل على تعديل نهجها للمنافسة الجيوسياسية المتزايدة حالياً، ضمن المنافسة التي بدأت بين الغرب والصين من جهة، وبين الغرب وروسيا من جهة أخرى، حيث ستكون جمهورية صربيا هي مضماراً لهذه المنافسة الغربية مع موسكو وبكين، وسيكون لبلغراد كلمة الفصل بالتزامن مع الوضع الدولي والإقليمي المتغيير حالياً بعد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وهو ما سيؤدي إلى خرائط جيوسياسية جديدة، ستؤثر بشكل أو بآخر على صربيا والأقاليم التي انفصلت عنها مثل كوسوفو والجبل الأسود.
خاص وكالة رياليست – د. حسام الدين سلوم – دكتوراه في تاريخ العلاقات الدولية – خبير في العلاقات الدولية الروسية.