موسكو – (رياليست عربي): بالتزامن مع العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، انطلقت المفاوضات الروسية – الأوكرانية التي يبدو أن الطرف الأوكراني يماطل فيها بأوامر أمريكية لإذكاء الحرب وإطالة أمدها، وهذا من شأنه أن يجعل من الخطوط العريضة للحل في روسيا مرتبطة بما يحدث على الأرض وعلى الساحة الدولية.
حول الطريقة التي يعالج فيها الفريق الرئاسي الروسي في الكرملين العوائق التي تحول دون التوصل إلى إتفاق مع الجانب الأوكراني، والتي أفضت إلى بروز نقاط مهمة، ما زال كلا الجانبين بمنأى عن حلها، في ضوء سعي الولايات المتحدة الأمريكية لإفشال هذه المفاوضات وإطالة الحرب في أوكرانيا للإستفادة من الموقف الأوروبي المعادي لروسيا الإتحادية.
بات من الواضح للقيادة السياسة في الكرملين الروسي وخاصة للفريق الرئاسي المقرب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أن النظام الأوكراني الحالي في كييف قد ماطل بما يكفي وما زال يماطل في عملية المفاوضات الروسية الأوكرانية، ويرفض الآن الإلتزام بنص الإتفاقية التي اتفق عليها سابقاً، ولذلك فهو يطرح الآن شروطاً جديدة.
وفي ظل هذه الخلفية، بدأت الدول الغربية تتحدث عن تقديم مساعدات عسكرية جديدة لأوكرانيا، مثل توريد دفعات جديدة من المركبات العسكرية المدرعة وأنظمة الدفاع الجوي والأنظمة المضادة للسفن، وهو ما سيعقد التسوية السلمية بين موسكو وكييف، إن لم يقضِ عليها نهائياً ويدفنها إلى الأبد بسبب تعنت كييف.
ويؤكد الخبراء الروس في مراكز الدراسات السياسة والإستراتيجية أن المعلومات الواردة إليهم من أجهزة الأمن الروسية، تؤكد أن القيادة الأوكرانية الحالية، وبالذات شخص الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، ما زالوا يعتقدون بأن الوقت يعمل لصالحهم. ولهذا السبب بات واضحاً كيف أن القوات المسلحة الأوكرانية تحاول أن تقاوم بعنادٍ شديد أي تقدم للجيش الروسي وللوحدات العكسرية الشيشانية المؤازرة لها، بالتزامن مع وصول المزيد من المساعدات العسكرية الغربية إلى كييف، والتي تزداد يوماً بعد يوم حالياً، تماماً مثلما يزاد الضغط والعقوبات الغربية على روسيا الإتحادية يوماً بعد يوم.
وعلى ما يبدو فإن القيادة الأوكرانية الحالية تأمل أنه ومع استمرار العملية العسكرية الروسية الخاصة، والزيادة الحتمية في مختلف التكاليف العسكرية المرتبطة بموسكو، فإن مستوى دعم العملية العسكرية الروسية داخل المدن الروسية سينخفض حتماً.
ومن هنا تأتي النية الحالية للنظام الأوكراني بعدم تحمل أي التزاماتٍ واضحة في الوقت الحالي، وإطالة المفاوضات لأطول فترة ممكنة، والإعتماد على دعم شركاء كييف من عواصم الغرب، ومحاولة التنسيق معهم بشأن الشروط الأكثر ملائمةً لعقد أي إتفاقية سلام قد تنتج بين موسكو وكييف، كنتيجة للعملية العسكرية الروسية التي ما زالت مستمرة في أوكرانيا.
ما هو تأثير الولايات المتحدة الأمريكية الحقيقي على القرار السياسي الأوكراني ضدَّ روسيا الإتحادية وما هي أهداف واشنطن من إذكاء نار الحرب بين كييف وموسكو؟
إن مدى تأثير الولايات المتحدة الأمريكية على عملية التفاوض الحالية بين روسيا الإتحادية وأوكرانيا كبير للغاية، فقد بات من الواضح أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لا تشجع كييف حالياً على السعي للتوصل إلى حل وسط مع موسكو، بل على العكس من ذلك، فإن واشنطن تدفع كييف باستمرار للإبتعاد عن “المرونة المفرطة” و للإبتعاد كلياً عن “التنازلات المعقولة” التي يمكن أن تقدمها أوكرانيا لروسيا الإتحادية، بما في ذلك في مختلف القضايا الإقليمية وليس فقط في ملفها الحالي مع روسيا الإتحادية، وهذا معروف للقاصي والداني. صحيح أن الصراع العسكري الدامي في أوروبا يؤثر على الولايات المتحدة الأمريكية بشكل غير مباشر ولكنه يؤثر على الحلفاء الأوروبيين للولايات المتحدة الأمريكية بشكل أكبر بكثير لأنهم ملزمون بدفع ثمنه بشكل أساسي. فعلى سبيل المثال: نحن نرى كيف أن الأوروبيين هم الذين تمَّ إجبارهم على قبول اللاجئين الأوكرانيين، وهم الذين يعانون من الإرتفاع الحاد في أسعار الغاز والنفط، وهم الآن الذين يغادرون السوق الروسية لأن شركاتهم العاملة فوق الأراضي الروسية وجدت نفسها مجبرةً بأن لا تقع تحت نير العقوبات الغربية وهذا أمر مهم لأوروبا.
ولكن، وبالرغم من أهميته إلا أن رغبة الأروبيين لإنهاء الصراع في أسرع وقت ممكن، ما زالت غير واضحة المعالم، لوقوع هذه الرغبة الأوروبية تحت الـتأثير الأمريكي الذي طغى على مصالح الأوروبيين، بل حتى استخدمهم حطباً لوقود نار الحرب الأوكرانية.
ومن ناحيةٍ أخرى، نحن نرى كيف يعزز الصراع بطريقة أو بأخرى مكانة واشنطن كزعيمة لعواصم الغرب، وكيف يعزز الدور الإقليمي لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وكيف يحث الحلفاء في (الناتو) على زيادة إنفاقهم العسكري، وهذا بحد ذاته يفسر عدم وجود ذلك الدافع القوي لدى قيادة البيت الأبيض الأمريكي لإنهاء الصراع الحالي.
وعلى الرغم من أن دول القارة الأوروبية لديها الكثير من المؤيدين بين جميع فئات المجتمع الأوروبي لهذه الحرب في أوكرانيا، سواءً من اليمين الأوروبي المتطرف في مختلف بلدانه أو في اليسار الأوروبي الذي حاول في وقتٍ من الأوقات أن يبقي على بعض الجسور مع الكرملين الروسي، إلا أن الأوروبيين المؤيدين للصراع الحالي في أوكرانيا وبالرغم من وجودهم بالفعل، لا يزالون أقل من مؤيديهم على الساحل المقابل للمحيط الأطلسي، أي أقل من المؤيدين للحرب داخل الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا بحد ذاته مثير للغاية، أن يكون الشعب الأمريكي أقل تأييداً لهذه الحرب من شعوب دول القارة الأوروبية، نظراً لوجود الكثير من التضاد بين توجهات المواطن الأمريكي نفسه وتوجهات الإدارة الأمريكية الحالية.
وما يبرر هذه الرغبة الجامحة للإدارة الأمريكية الحالية من أجل إطالة مدة الحرب في أوكرانيا هو انخفاض شعبية الرئيس جو بايدن، والذي يرجع في حقيقة الأمر إلى تفاقم المشكلات الداخلية بالتزامن مع نمو التضخم القياسي والنتائج غير الواضحة للعديد من مشاريع البنية التحتية الكبيرة التي أعلن عنها جون بايدن، وهو الأمر الذي بات ينذر بتهديد مصير الولايات المتحدة الأمريكية بالإنزلاق إلى ركود اقتصادي آخر، والذي يمكن أن يحصل بالفعل إذا ما انعكست عملية بيع الغاز الروسي بالعملة الروسية (الروبل) إلى دول القارة الأوروبية، والتي باتت تخشى تبعات هذا القرار الروسي.
هذا بالنسبة للقيادة الأمريكية في البيت الأبيض، أما بالنسبة لغالبية السكان الأمريكيين فإن سياسة الرئيس الأمريكي جون بايدن في الأزمة الأوكرانية لم تكن ناجحة بشكل عام، لأن هذه السياسة الخارجية الأمريكية (الفاشلة) بالنسبة لأكثرية أبناء الشعب الأمريكي تحاول أن تغطي فشل الطريقة التي نفذت بها الإدارة الحالية انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان في أواخر الصيف وأوائل الخريف في العام الماضي 2021، ولذلك ليس من قبيل الصدفة أن يحاول الرئيس الأمريكي جون بايدن نفسه باستمرار تحويل تركيز النقاش العام من الأجندة المحلية الداخلية إلى السياسة الخارجية الأمريكية ولذلك نراه يلقي اللوم على روسيا الإتحادية حتى في أزمة الزيادة الحادة لأسعار التجزئة للبنزين في الولايات المتحدة الأمريكية، ويستعمل الصراع في أوكرانيا كشماعة لأخطائه. ومن وراء الكواليس، يتابع الجانب الروسي تلك الحرب الداخلية الأمريكية بين أتباع الرئيس الأمريكي جون بايدين ومنتقديه، فمثلاً:
يُقيّم الرئيس السابق دونالد ترامب سياسة خلفه الحالي جون بايدن في الإتجاه الأوكراني على أنها فشل كامل بالجملة والمفرق، حيث يدعي الرئيس السابق دونالد ترامب أنه في ظل حكمه، ما كان من الممكن أن ينشأ مثل هذا الصراع على الإطلاق بين القوات الروسية والأوكرانية ومن خلفهم الصينيون والأوروبيون، لكن مثل هؤلاء المنتقدين في الولايات المتحدة الأمريكية، من أمثال ترامب ما زالوا يشكلون أقلية واضحة، نظراً لأن الأمريكيين يريدون مالاً بأي شكل من الأشكال، ولا يوجد حالياً مصدر لكسب الأموال أفضل من ساحة الصراع في أوكرانيا بين القوات الروسية والأوكرانية.
هذا التوجه والتعامل الأمريكي مع السياسة الخارجية، وبالذات فيما يتعلق بملف العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، قد دفع بملف الصراع في أوكرانيا ليتجاوز إطار المواجهة الثنائية، ليصبح بالأحرى مواجهة بين روسيا الإتحادية والغرب، ليس فقط على الصعيد السياسي والدبلوماسي ولكن أيضاً في البعد العسكري والإستخباراتي، أي بشكل أو بآخر خرج من أيدي واشنطن ولربما حتى من يد موسكو هي الأخرى.
ما هو الموقف الحقيقي لقادة الدول الأوروبية من الصراع الروسي الأوكراني وما هي الأثمان الباهظة التي ستدفعها أوروبا خلافاً للولايات المتحدة الأمريكية؟
مع كل هذا الضجيج والكر والفر الذي تشهده العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، لم يقتنع قادة الدول الأوروبية حتى الآن أن الولايات المتحدة الأمريكية تقع على بعد 5 أو 6 آلاف كيلومتر من أوكرانيا، خلافاً لدولهم الأوروبية المجاورة والقريبة من أوكرانيا والقريبة من ساحات الصراع والدماء، ولم يتفهموا حتى الآن أن هذا سيفرض عليهم أن يكونوا أكثر حساسية لما يحدث، وهو الأمر الذي سيؤدي في المستقبل القريب لولادة الكثير من الخلافات في الرأي بين الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الغربية وبالذات في مسائل المواجهة مع روسيا الإتحادية.
فمنذ أن بدأت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، بدأ رجال الكرملين الروسي يدركون بأن الصراع في أوكرانيا سيساهم في توطيد العلاقات بين الدول الغربية التي ستسخدم عداوتها ضدَّ روسيا الإتحادية لتتوحد مع بعضها البعض في موقفها السياسي والذي سينعكس على القرارات العسكرية والأمنية لتلك الدول، وهو ما سيزيل كل الحديث عن “الإستقلال الإستراتيجي” لدول أوروبا عن الولايات المتحدة الأمريكية، فضلاً عن إدراك الأوروبيون أنفسهم بأن هذا النزاع قد أعطى دفعة لتعزيز تأثير وسيطرة حلف الناتو. فمثلاً – يشير التحول الدراماتيكي في السياسة الألمانية بشكل خاص إلى أحد أوجه الدول الغربية التي كانت تتمتع بعلاقات سياسية وإقتصادية ممتازة مع روسيا الإتحادية، حيث تعهدت ألمانيا بتقديم 100 مليار دولار إضافية للإحتياجات الدفاعية لحلف الناتو، وبغض النظر عن جميع الإحتمالات، فإن المعلومات التي تتلقفها أجهزة الأمن الروسية تؤكد بأن مبدأ “إحياء” حلف شمال الأطلسي سيتم طرحه في قمة مدريد المقبلة للكتلة العسكرية الأطلسية الناتو، وذلك خلال شهر يونيو، هناك أي في العاصمة الإسبانية مدريد سيكون من المتوقع أن تتم الموافقة على المفهوم الإستراتيجي الجديد لحلف شمال الأطلسي – الناتو.
ومع ذلك، فإن استدامة “الوحدة الغربية” المكتشفة حديثاً سيبقى موضع تساؤل لدى الكرملين الروسي حول مدى مصداقيتها وقوتها، حتى فصلي الخريف والشتاء القادمين، أي عندما ستحتاج هذه الوحدة للغاز الروسي، وسيكون واضحاً ما هو مقدار تماسكها وثباتها أمام الحاجة الماسة لروسيا الإتحادية.
كما أن الكرملين الروسي نفسه يدرك جيداً أن هناك وجهات نظر مختلفة في الغرب حول كيفية المضي في العلاقات مع موسكو، ناهيك عن غيرها من قضايا العلاقات الدولية الأخرى مثل اختلاف علاقات هذه الدول الغربية مع جمهورية الصين الشعبية. وعلاوة على ذلك، فإن الدول الأوروبية نفسها تريد أن تثبت نفسها بإيصال رسالة إلى كل من روسيا الإتحادية والولايات المتحدة الأمريكية نفسها، بأن أي خطوط ترسيم جديدة قد ترسم حالياً بعد الحرب في أوكرانيا، لا يجب عليها أن تمر فقط بين قيادات واشنطن وموسكو، ولكنها يجب أن تمر أيضاً داخل دول القارة الأوروبية.
وخير مثال على عدم تجانس المشاعر في دول القارة الأوروبية، هي تلك الإنتخابات الأخيرة التي شهدتها جمهوريتي المجر (هنغاريا) وصربيا، حيث يمكن للمرء أن يحكم مع مرور الوقت بأن هذا التباين سيصبح ملحوظاً وواضحاً أكثر مع مرور الوقت.
ولهذا السبب على ما يبدو، أكد المتحدث الرسمي للرئاسة الروسية، دميتري بيسكوف، إن علاقات روسيا الإتحادية مع الدول الغربية ستصبح بناءة، ولكن ليس في القريب العاجل، ولكن في الوقت الحالي، يسود ما يمكن تسميته برهاب روسيا الإتحادية في الغرب، والذي تغذيه جميع أنواع أخبار التزييف والتلفيق ضد روسيا الإتحادية، وضدَّ تقدم قواتها المسلحة المتواجدة في أوكرانيا.
وعليه يرى العديد من المسؤولين الروس وجود ضرورة ماسة حالياً لتحسين جودة العمل المعلوماتي من قبل وسائل الإعلام الروسية والأجهزة الأمنية الروسية المسؤولة عنها، لتعمل بشكل جديد مع مختلف الجماهير الأوروبية المستهدفة في الغرب، عبر إستخدام أوسع لتكنولوجيا المعلومات والإتصالات الحديثة لتطوير أدوات “القوة الناعمة”.
كيف يمكن لروسيا الإتحادية أن تعالج وأن تتصدى لهذا التشويه الإعلامي الغربي الذي يعمل على شحن المجتمع الغربي بالضغينة والحقد ضدَّ روسيا الإتحادية؟
بطبيعة الحال، كلما أسرعت موسكو بإنهاء العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، زادت فرص الجانب الروسي في مقاومة الرهاب السياسي الروسي اليومي الذي تحاول أجهزة الأمن الغربية تغذيته بشتى الوسائل. ولكن، ولطالما أن العملية العسكرية الروسية الخاصة ما زالت مستمرة، فعندها سيستمر ملئ مجال المعلومات بمجموعة متنوعة من المحتويات المعادية لروسيا الإتحادية، وهو الأمر الذي سيخلق لدي أي شخص في الغرب عدم وضوح والتباس كبير بشأن التفاصيل الحقيقية للوضع العسكري والأمني على الأرض في أوكرانيا، وبشأن سير العملية العسكرية الروسية في ذلك البلد.
أين تكمن المشكلة الروسية الحقيقية في الغرب والتي رصدها الكرملين الروسي حالياً وكيف سيتغلب عليها بالتزامن مع سير العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا؟
تكمن المشكلة الروسية الحقيقية في الغرب، والتي رصدها الكرملين الروسي حالياً، وأوعز إلى وزارة الخارجية الروسية لبدء العمل من أجل معالجتها، هي أن الجانب الروسي اليوم في الغرب يُعتبر بأنه هو الجاني في الصراع الحالي، وأن الجانب الأوكراني هو ضحية بريئة لما يفترضه الغرب ويعتبره بأنه عدوان روسي على أوكرانيا.
وقد تم تشكيل هذا التصور القبيح والمجحف بحق روسيا الإتحادية في عام 2014 نظراً لعدم معرفة معظم الغربيين بالتاريخ الحقيقي لشبه جزيرة القرم الروسية والتي انتقلت لتكون تحت سلطات جمهورية أوكرانيا فقط خلال فترة حكم الزعيم السوفييتي نيكيتا خورتشوف والذي لربما يكون قد أخطأ كثيراً عندما نقل سلطات شبه جزيرة القرم الروسية في الأصل لتصبح تحت إدارة القيادة السوفييتية في أوكرانيا في ذلك الوقت.
وليس بالصدفة أن يكون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد بدأ خطابه التاريخي بالتزامن مع العملية العسكرية الروسية في أوكرنيا بعرض لتاريخ شبه جزيرة القرم، والأمر الأكثر صعوبةً بالنسبة للكرملين الروسي هو أن صورة روسيا الإتحادية كبلد معتدي على أوكرانيا قد ترسخت بشكل ظالم وغير عادل مع بداية العملية العسكرية الروسية الخاصة حيث أخفت وسائل الإعلام الغربية حقيقة رفض القيادة الأوكرانية لمطالب الكرملين الروسي من أجل عدم السماح لحلف الناتو باستخدام الأراضي الأوكرانية كقاعدة للهجوم على روسيا الإتحادية، خاصةً بعد أن طلبت موسكو من كييف بأن لا يكون هناك أي تواجد لصواريخ الناتو فوق الأراضي الأوكرانية.
ومن ثم استغلت أجهزة الإعلام والدعاية الغربية الوعي العام الغربي لتجسيد هذه الصورة بدعم كبير من أجهزة المخابرات الغربية، وخاصةً في الدول التي تعتبر نفسها رأس حربةٍ في هذه الحرب ضدَّ روسيا الإتحادية مثل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وبولندا وجمهورية التشيك وجمهورية سلوفاكيا وجمهورية سلوفينيا ومعهم رومانيا ومن خلفهم دول البلطيق الثلاثة أي إستونيا ولاتفيا وليتوانيا وبشكل موازي لهم الدول الإسكندينافية (الدنمارك والسويد والنرويج وفنلدا)، وبشكل أقل حدة من هؤلاء يأتي الثلاثي العملاق الذي كانت لديه أفضل العلاقات مع روسيا الإتحادية، أي إسبانيا وفرنسا وألمانيا.
وأسوأ ما يميز سياسات هذه الدول الأوروبية مجتمعة، هو أنها تعتبر أوكرانيا بأنها هي الضحية التي يجب أن يُغفر لها كل شيء تقريباً، بدءاً من عدم التزامها باتفاقيات مينسك وعدم احترامها لحقوق المواطنين الروس في جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك في حوض (دونباس)، وصولاً إلى سعي كييف لتلقي هذا الكم الهائل من السلاح الغربي والذي بات منتشراً في جميع المدن الأوكرانية تقريباً، خاصةً في مدن الغرب الأوكراني.
وقد أغلقت الأعين عن تجاوزات الجانب الأوكراني هذه في الغرب، حيث تمَّ تجاهلها وكتمها وتبريرها في بعض الأحيان، نظراً لأن هذه التجاوزات الأوكرانية تسير في طريق الحرب والصراع ضدَّ روسيا الإتحادية، خلافاً للإجراءات الروسية التي سيبحثون دائماً فيها عن علامات لانتهاك بنود القانون الدولي.
وقد أكد هذا التعامل الغربي مع ملف الأزمة الأوكرانية لتأكيد وجهة الفريق الرئاسي الروسي في الكرملين، بأن هناك سياسة أوروبية ذات معايير مزدوجة في التعامل مع الملف الأوكراني، والأسوأ من هذا وذاك، أن هذه السياسة الأوروبية بات من الصعب للغاية على كافة عواصم الغرب أن تغيير فيها شيئاً لكثرة “المعايير المزدوجة” فيها رغم ضرورة وجود محاولات لذلك التغيير الذي سيفرض نفسه مستقبلاً مع روسيا الإتحادية. كما كشفت العملية العسكرية الروسية حقيقة أن الغرب لم يكن متجانساً ولا يريد أن يكون متجاسناً سوى في وحدته ضدَّ روسيا الإتحادية، وذلك خدمةً لمصالح واشنطن التي تستعمل تاريخ صراعات العواصم الأوروبية ضدَّ موسكو لتستثمره كما حصل مع كييف وكما يمكن له أن يعدي مستقبلاً عواصم أوروبية أخرى مثل وارسو البولندية وعواصم البلطيق تالين وريغا وفيلنوس.
وعندما بدأت العملية العسكرية الروسية بدا تحذير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين واضحاً منذ خطابه الأول الذي ألقاه بالتزامن مع بدء العملية العسكرية الروسية حيث كان واضحاً للقاصي والداني أن عواصم دول القارة الأوروبية باتت على مفترق طرق، فإما أن تختار دعم التوجه الروسي الذي سيتصادم مع توجه حلف الناتو في أوروبا، وإما أن تمارس هذه العواصم الغربية عملية المجاملة السياسية لواشنطن وبروكسل على حساب مصالح موسكو، وهو الأمر الذي لن يتسامح معه الكرملين أبداً.
أين تقع قضية الأسلحة والصواريخ النووية في الصراع الحالي بين الغرب الذي تمثله أوكرانيا ومعها الولايات المتحدة الأمريكية والشرق الذي تمثله روسيا الإتحادية؟
رغم اختلاف السياستين الروسية والغربية، إلا أن كلا الجانبين مدرك لضرورة وجود الآلية القانونية الدولية الرئيسية لمواجهة انتشار الأسلحة النووية في جميع أنحاء الكوكب، أي ضرورة احترام معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (NPT) التي وافقت عليها الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة في عام 1968.
وتكمن أهمية تلك المعاهدة أنها تلزم جميع الدول غير النووية التي انضمت إلى تلك المعاهدة (وهنا المقصود فيها جميع دول العالم تقريباً) بعدم تطوير أو إنتاج أو حيازة أي أسلحة نووية، وبأي شكل من الأشكال.
ويعتقد الخبراء الروس أنه يوجد في العالم اليوم من أربعين إلى خمسين دولة قادرة من حيث المبدأ على صنع أسلحة نووية بشكل مستقل، ولذلك كان يجب أن تتعهد كل دولة غير نووية بأنها ستكون طرفاً في معاهدة حظر الإنتشار النووي بالتوقيع على اتفاقية حكومية خاصةً بتلك الدولة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، حيث ستنص تلك الإتفاقيات على إجراء عمليات تفتيش منتظمة للمنشآت النووية المدنية في تلك الدول، لأن عمليات تفتيش الوكالة الدولية للطاقة الذرية هي الآلية الرئيسية لضمان عدم وجود دول نووية أخرى، وهو الأمر الذي استعمل مؤخراً في العديد من دول العالم، والتي كانت على وشك أن تمتلك أسلحة نووية، كما هو الحال مع إيران والعراق أو مع الدول التي امتلكتها بالفعل مثل الهند وباكستان ومن قبلهم كوريا الشمالية.
وحتى الآن، يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية، وحتى في ظل الظروف الحالية، فهي لا تريد أن تتحول أوكرانيا إلى دولة تمتلك أسلحة نووية، ولو عدنا إلى عملية التفاوض الجارية حالياً بين الجانبين الروسي والأوكراني، لرأينا كيف حددت القيادة الروسية عدداً من النقاط المهمة بشكل أساسي فيها، فبالإضافة إلى ضرورة أن تبقى كلاً من شبه جزيرة القرم ومنطقة حوض (دونباس) وأراضي جمهورية أوكرانيا كاملةً، خالية من الأسلحة النووية، وهو ما يندرج ضمن الهدف والمهمة الرئيسية للعملية العسكرية الروسية الخاصة ذاتها أي (ضمان نزع السلاح ووضع أوكرانيا المحايد)، فإن الوضع الحالي يفرض على أوكرانيا خيارين إثنين، لا ثالث لهما بلا أدنى شك:
الخيار الأول، وهو خيار الوضع المحايد، فإذا تخلت أوكرانيا عن رغبتها بالإنضمام إلى حلف الناتو، فيمكنها حينئذٍ اختيار أحد النماذج العديدة التي لا تنتمي إلى الكتلة مثل النمسا، والسويد، وفنلندا، وسويسرا، وإيرلندا، وهي نماذج مختلفة ومتباينة، فضلاً عن هذا وذاك، فإن كل نموذج من هذه النماذج مستقل بحد ذاته، ويختلف عن خيار الحياد الأوكراني الذي سيحتاج إلى الضمانات الخارجية للأمن، وتكمن المشكلة المستعصية حالياً بين المفاوضين من الروس ومن الأوكران، أن هذه الضمانات التي تطالب بها كييف من قبل موسكو يجب أن تكون قابلة للمقارنة مع تلك التي يمكن أن تتلقاها أوكرانيا من خلال انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي.
وهنا سيكون من غير السهل وصف مثل هذه الضمانات بالتفصيل، بل إن إضفاء الطابع الرسمي عليها وتوثيقها سيكون أكثر صعوبة، إلى درجة أنه سيكون من الممكن أن يتطلب توفير مثل هذه الضمانات الأمنية لأوكرانيا عملية تصديق بعض برلمانات الدول الضامنة، وهي عملية معقدة للغاية وربما تكون بطيئة التقدم. وحتى الآن، ليس من الواضح تماماً أي الدول يمكن أن تكون بمثابة دولة ضامنة للوضع في أوكرانيا من الناحية الأمنية، لأن هذه الدول ستكون أمام مسؤولية كبيرة أمنياً وعسكرياً، وبالذات أمام روسيا الإتحادية التي لن تتسامح مع أي خرق أو مع تجاوزات يمكن أن تحصل بعد أي إتفاق أو تفاهم أمني قد يتم التوصل إليه.
ففي أغلب الأحيان، يتم ذكر الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أي (الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا العظمى وفرنسا وجمهورية الصين الشعبية) ولكن في بعض الأحيان تتم إضافة تركيا وبولندا والهند وحتى البرازيل إلى هذه القائمة، لكونها الدول التي يمكن أن تلعب دوراً مهماً في ضمان عدم الإخلال بشروط الإتفاقات التي يسعى الجانبين الروسي والأوكراني للتوصل إليها. وهنا سيكون من السهل الإستنتاج أنه كلما زاد عدد الدول الضامنة، ستزداد بالتالي صعوبة الإتفاق على صيغ الفهم المشترك للضمانات الأمنية والعسكرية، ولكن، وفي حال نجاح المفاوضين الروس والأوكران بحل مهمة إنشاء ضمانات أمنية وعسكرية خارجية فعالة لأوكرانيا، وهذا على ما يبدو صعباً للغاية، إن لم يكن مستحيلاً، عندها فقط فستكون هذه الخطوة أولى المهام في بناء نظام أمني جديد متعدد الأطراف في القارة الأوروبية.
الخيار الثاني، يتجسد بوجود جمهورية أوكرانيا المنزوعة السلاح، فعندما يتعلق الأمر بنزع السلاح سواءً في أوكرانيا، أو في غيرها من الدول التي تحاول التمدد في القارة الأوروبية، وخير مثال على ذلك هو بولندا مثلاً وليس فقط أوكرانيا، فسيكون من الواضح بشكل عام أن هذا المصطلح يشير إلى بعض القيود على حجم وتكوين القوات المسلحة الأوكرانية، أي بالضبط سيتناول هذا الملف تحديد الحجم الأقصى للجيش الأوكراني، وأي نوع من أنظمة الأسلحة الدفاعية والهجومية ستكون في أوكرانيا، وتحديد هل ستكون هذه الأسلحة تحت تصرف القوات المسلحة الأوكرانية من عدمه، وهل يتوجب على روسيا الإتحادية أن تتحمل التزامات متبادلة فيما يتعلق بقواتها المسلحة على الحدود الروسية الأوكرانية، وكذلك كيف يمكن التحقق من تنفيذ أوكرانيا وربما روسيا الإتحادية للإتفاقات التي ستبرم.
والأهم من هذا وذاك ضمن الخيار الثاني، هو السؤال، هل سيكون هناك قوات دولية مثلاً قد تطالب بها أوكرانيا بحجة حمايتها من أي هجوم روسي مباغت مستقبلاً، وهل ستقبل روسيا الإتحادية أصلاً بوجود أي قوات عسكرية في أوكرانيا، أم أن القوات الروسية نفسها ستفرض نفسها في أوكرانيا كقواتٍ لحفظ السلام في ذلك البلد؟
هنا يؤكد العديد من الخبراء والمحللين في مجال العلاقات الدولية والذين يعملون كمستشارين غير مقيمين لدى وزارة الخارجية الروسية أن كل هذه النقاط مجتمعة هي النقاط التي ما زالت حتى الآن، تحول بدون التوصل إلى إتفاق حقيقي جدي بين المفاوضين الروس والأوكران لوقف النزاع الحالي في أوكرانيا، خاصةً لوجود وجهات نظر مختلفة في موسكو وكييف. ومع ذلك ما زال المفاوضون الروس يسعون لإيجاد قاسم مشترك مع نظرائهم الأوكران في عملية المفاوضات بما يناسب كلا الجانبين (رغم استمرار العملية العسكرية الروسية في جميع المدن الأوكرانية تقريباً بعد توقفها) لأن عدم إيجاد نقاط مشتركة بين الجانبين الروسي والأوكراني سيؤدي لاحقاً إلى تجدد القتال في جميع المدن الأوكرانية بدون توقف.
وكذلك الأمر، فإن فشل المفاوضات الروسية الأوكرانية إلى ما لا عودة فيه إلى الوراء سيؤدي إلى المزيد من الدمار والضحايا وهو الأمر الذي تسعى إليه الدول الغربية بشدة وتصب الزيت على النار بإرسالها المزيد والمزيد من السلاح لأوكرانيا، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، وذلك من أجل استمرار الحرب والقتال ضدَّ موسكو واستنزاف كافة القدرات العسكرية للجيش الروسي والذي على ما يبدو سيبقى مصمماً على استئصال النازيين من أوكارهم في غرب أوكرانيا هذه المرة بلا هوادة تماماً كما فعل الجيش الأحمر السوفييتي في عام 1945 ليفتح صفحة جديدة في تاريخ العلاقات الدولية المعاصرة، كما يتم الآن فتح صفحة جديدة أيضاً، سواءً من تاريخ روسيا الإتحادية أو تاريخ غيرها من دول العالم.
خاص وكالة رياليست – حسام الدين سلوم – دكتوراه في تاريخ العلاقات الدولية، خبير في العلاقات الدولية الروسية.