القاهرة – (رياليست عربي): بعيدًا عن أسباب الهجوم الإسرائيلي على إيران في هذا التوقيت تحديدًا، وتحوله إلى ضربات متبادلة بالصواريخ والمسيرات بين الطرفين، وبعيدًا عما يتشدق به الغرب عن مساعي طهران إلى امتلاك قنبلة ذرية، يأتي هذا الهجوم في إطار خطة ممنهجة بدأتها إسرائيل عقب عدوانها الغاشم على قطاع غزة في أكتوبر 2023، ردًا على هجوم حركة حماس الفلسطينية على إسرائيل واقتياد ما يقرب من 250 رهينة إسرائيلية إلى القطاع.
بحجة تحرير الرهائن والقضاء على فصائل المقاومة الفلسطينية، راحت إسرائيل تتخلص من أعدائها في المنطقة واحدًا تلو الآخر، فقامت بتصفية زعماء حركة حماس الفلسطينية، وحزب الله اللبناني، وحركة حزب الله اليمنية (الحوثيين) أو ما يمكن اختزاله في اسم “محور المقاومة” المنضوية تحت لوائه إيران أيضًا.
مع سقوط نظام “بشار الأسد” في سوريا نهاية العام الماضي، أصبحت إيران آخر عضو له ثقله في محور المقاومة، تحاول إسرائيل تحجيم دوره أو بالأحرى تعمل على تدميره نهائيًا.
عمدت إسرائيل خلال هجومها السافر على إيران فجر الجمعة 13 يونيو 2025، إستراتيجية محددة الأهداف، متعددة المسارات، تهدف في مجملها إلى ضرب أركان النظام الإيراني الرئيسية، وتقويضه من الداخل، وشل حركة الدولة.
على مدار ما يقرب من أسبوع، استطاعت إيران خلال ردها على الهجوم الإسرائيلي المباغت، أن تكبد تل أبيب خسائر فادحة لم تعدها منذ نصر أكتوبر المجيد 1973م، طالت جهات أمنية ومؤسسات حيوية كمبني الأمن العام (الشاباك)، وجهاز المخابرات (الموساد)، ومصفاة حيفا، ومعهد “وايزمان” للعلوم، وغيرها، فضلًا عن قصف عمق تل أبيب وعدد من المدن الإسرائيلية عدة مرات، مما أسفر عن تدمير بنايات كاملة، لكن على الجانب الأخر، كانت الهجمات الإسرائيلية على إيران ممنهجة ودقيقة، حيث شملت قيادات عسكرية رفيعة المستوى في الحرس الثوري والقوات المسلحة الإيرانية، وعلماء نوويين بارزين، ومقار عسكرية وأمنية، ومنشآت إستراتيجية، فضلًا عن ضرب مناطق حيوية كثيرة في العاصمة طهران وبعض المحافظات والمدن الرئيسية.
اختيار هذه الأهداف وتسلسلها وترتيبها جنبًا إلى جنب كقطع البازل، يجعلنا ندرك بوضوح هدف إسرائيل السياسي والعسكري من مهاجمة إيران على هذه الصورة السافرة، ألا وهو انهيار النظام.
الأهداف الإسرائيلية في إيران
اغتيال قادة الصف الأول في المؤسسة العسكرية
اللواء “محمد باقري” رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة، والعميد “أمير عليّ حاجي زاده” قائد القوات الجوفضائية بالحرس الثوري، والعميد “غلام رضا محرابي” نائب رئيس هيئة الأركان العامة للمخابرات، والعميد “مهدي رباني” نائب رئيس هيئة الأركان العامة للعمليات، كانوا من بين القادة العسكريين الذين تم تصفيتهم في الهجمات الإسرائيلية. أثناء قصف بيوت هؤلاء القادة في المناطق السكانية، لقي عدد كبير من المدنيين من بينهم نساء وأطفال وشيوخ مصرعهم، كما اُستهدفت مراكز القيادة التابعة للقوات المسلحة والجوفضائية غربي طهران.
تعتبر هذه الحملة ثاني أكبر حملة اغتيالات في تاريخ الجمهورية الإسلامية تطول قيادات عسكرية رفيعة المستوى، بعد تفجير مكتب رئيس الوزراء الإيراني سنة 1981 على يد “مسعود كشميري” عضو منظمة “مجاهدي خلق”. راح ضحية ذلك التفجير وقتها رئيس الجمهورية “محمد علي رجائي”، ورئيس الوزراء “محمد جواد باهنر”، وأُصيب عدد كبير من رجالات الدولة وقيادات الحرس الثوري.
العلماء النووية والمنشآت النووية
اُغتيل ما لا يقل عن 14 علماء إيرانيين في مجالات الفيزياء والهندسة النووية المختلفة، من بينهم أعضاء في مشروع “آماد (عماد)” الخاص بتطوير السلاح النووي الإيراني.
دُشن هذا المشروع عام 1989م وتوقف عام 2003م، وفقًا لما صرحت به الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لكن لا تزال إسرائيل متشككة في استمرار أنشطته خفيةً.
من أبرز العلماء الذين اُغتيلوا في هذه الهجمات: محمد مهدي طهرانجي رئيس جامعة آزاد الإسلامية، فريدون عباسي دَفاني الرئيس الأسبق لهيئة الطاقة الذرية الإيرانية، أكبر مطلبي زاده عضو الهيئة العلمية بجامعة الشهيد بهشتي، عبد الحميد مينوتشهر رئيس كلية الهندسة النووية بجامعة الشهيد بهشتي. أحمد رضا ذو الفقاري داریاني عضو الهيئة العلمية بجامعة الشهيد بهشتي، أمير حسين فقهي عضو الهيئة العلمية بجامعة الشهيد بهشتي.
وقد شملت الضربات كذلك قصف منشآت نووية في موقعي نطنز وفوردو. وتجدر الإشارة هنا إلى أن تدمير البرنامج النووي الإيراني كما هو معلن من قبل إسرائيل والولايات المتحدة ليس بالسهولة المتداولة في الإعلام الدولي أو الداخل الإسرائيلي، لأن أجهزة الطرد المركزي وتخصيب اليورانيوم الإيرانية موجودة على عمق نصف ميل تحت الأرض، أي ما يزيد عن 800 متر، ويتم الوصول إليها عن طريق أنفاق ملتوية ومتشابكة أشبه بالشبكة العنكبوتية، وبالتالي كل الهجمات الإسرائيلية حتى الآن أحدثت ضررًا بالمنشآت المشيدة فوق الأرض فحسب.
على سبيل المثال، تعرض موقع نطنز النووي إلى مجموعة من الضربات وعمليات التخريب الخارجية على مدار السنوات الأخيرة، ومع ذلك لم تتضرر منشآته العميقة أو يحدث تسرب إشعاعي بها.
منصات القصف الصاروخي وأنظمة الدفاع الجوي
اُستهدفت منصات إطلاق الصواريخ الثابتة والمتحركة، وأنظمة الدفاع الجوي في شمال غربي إيران ووسطها، وقد استعان الموساد بعملائه داخل القواعد العسكرية السرية من أجل تنفيذ هذه العمليات.
القواعد الجوية
مجموعة من القواعد الجوية المهمة في النقاط المركزية بإيران وغربها دمرتها إسرائيل، ومنها قاعدة همدان “الشهيد نوجيه (نُوژه)”، وقاعدة تبريز “قاعدة القنص الثانية”، وعدد من القواعد الجوية الأخرى.
حقول النفط والغاز الطبيعي
استهدفت إسرائيل (المرحلة 14) من حقل النفط والغاز الطبيعي “بارس الجنوبي”. يقع هذا الحقل على الخليج العربي في المياه الإقليمية المشتركة بين إيران وقطر، حيث تتقاسمه البلدان معًا، ويعد أكبر حقل غاز في العالم.
وفقًا لإحصائيات “وكالة الطاقة الدولية”؛ يحتوي الحقل على قرابة 51 تريليون متر مكعب من الغاز الطبيعي، إضافة إلى 50 مليار برميل (7.9 مليار متر مكعب) من مكثفات الغاز.
كما ضربت إسرائيل مستودع نفط “شهران”، ومصافي النفط المركزية والبنية التحتية الاقتصادية في أنحاء متفرقة من البلاد.
المنشآت الأمنية والحيوية
مبني وزارة الاستخبارات، مقر القوات الشرطية (قيادة القوات التأديبية)، وزارة النفط، المؤسسات الحكومية بطهران والمحافظات الكُبرى، كلها كانت من بين الأهداف الإسرائيلية في إيران.
المناطق السكينة
نفذت إسرائيل عددًا من الهجمات في المناطق الراقية والمكتظة بالسكان والمجمعات التجارية والميادين والشوارع الحيوية بطهران، مثل حيي نارمك وطهران بارس، وميداني الثورة (انقلاب) وولي عصر.
هيئة الإذاعة والتلفزيون وجامعة الإمام الحسين وشبكة البنوك
في رابع أيام الحرب، استهدفت إسرائيل مبنى هيئة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية، وقصفت مقر شبكة (خبر) التلفزيونية أثناء البث المباشر على مرأى ومسمع من العالم أجمع.
وفي اليوم الخامس، استهدفت إسرائيل جامعة “الإمام الحسين” أحد أهم الجامعات التابعة للحرس الثوري، حيث تتكون من قسمين؛ القسم الأول “جامعة الإمام الحسين الشاملة”، والقسم الثاني “كلية الضباط وإعداد الحرس الثوري”. لا يستطيع أحد الالتحاق بهذه الجامعة سوى مَن يجتاز اختبار الحرس الثوري الداخلي. أي أن إسرائيل ضربت مركز تأهيل ضباط الحرس الثوري في مختلف المجالات العلمية والتكنولوجية.
كما شنت إسرائيل هجمة سيبرانية واسعة النطاق على هيئة الإذاعة والتلفزيون وشبكة المصارف الإيرانية، استهدفت خلالها اثنين من أكبر البنوك في البلاد “سيباه (سپه)”، و”باسارجاد (پاسارگاد)”، لكن الهجمة باءت بالفشل.
سقوط النظام الإيراني
إستراتيجية الهجمات الاسرائيلية على إيران تؤكد أنها لا تسعى إلى تحجيم البرنامج النووي الإيراني أو القضاء عليه أو حتى مجابهة التهديدات الإيرانية لها كما تزعم، لكنها تريد تقويض أركان النظام الإيراني كليةً، من خلال شل المؤسسات العسكرية والأمنية والاستخباراتية والحكومية والحيوية، مما يؤدي إلى انهيار الدولة من الداخل تدريجيًا.
مع استمرار إسرائيل في استهداف البنية التحتية العسكرية والأمنية في مختلف أنحاء إيران خاصة العاصمة طهران، سينجم عنه انفلات أمني في ظل وجود شبكة عملاء متجذرة في عمق الدولة الإيرانية، يديرها الموساد، وينفذ بواسطتها عمليات تخريبية وهجمات سيبرانية. نضيف إلى ذلك حالة السخط الشعبي من النظام الإيراني قرابة 20 سنة بسبب الأوضاع الاقتصادية المتردية، مما سيؤدي بدوره إلى فوضى عارمة تجتاح البلاد تحت مظلة “ثورة شعبية” قد تمتد إلى مدى قريب أو بعيد في مشهد أشبه بالمشهد السوري قبل سقوط نظام بشار الأسد.
وفقًا للمخططات الغريبة لمنطقة الشرق الأوسط، ترى إسرائيل وأمريكا أن استخدام آليات الإطاحة بالأنظمة العربية، أو أن تصعيد الأحداث إلى مرحلة يقودان فيها ضربة عسكرية مشتركة على إيران بذريعة الخوف من امتلاك سلاح نووي مثلما حدث مع العراق، سيؤتي ثماره مع النظام الإيراني.
اغتيال رءوس الدولة، انهيار الأجهزة الأمنية، اختلاق الفوضى، إشغال فتيل حرب أهلية بين مؤيدي النظام ومعارضيه، شن حروب إعلامية ونفسية، فبركة أخبار وتواترها، دعوات تقسيم البلد إلى “كانتونات عرقية ومذهبية”، كلها آليات باتت تلوح في الأفق مثلما اُستخدمت في الثورات العربية.
ربما يشهد النظام الإيراني الآن حالة من الالتفاف الشعبي “الحقيقي” حوله لم يرها منذ سنوات باعتباره يحارب عدوه القديم؛ قوى الاستكبار “إسرائيل وأمريكا”، لكن المراهنة على هذا الالتفاف على المدى البعيد مقامرة محفوفة بالخطر في ظل وجود شبكة تجسس تابعة للموساد، وتدمير البنية التحتية الإستراتيجية، والدعم الأمريكي اللامتناهي لإسرائيل، وشحن المعارضة الإيرانية في الداخل وأذنابها في الخارج، وعزوف حلفاء إيران في الكتلة الشرقية عن الدخول في الحرب ضمنيًا أو فعليًا.
دخول الولايات المتحدة على جبهة القتال مع إسرائيل، واستمرار حالة الصمت الدولي المخزي مثلما حدث مع غزة، سيجعل إيران خلال الأيام المقبلة أمام مسارين. المسار الأول؛ الاكتفاء بما حققته من مكاسب على الأرض بعد توجيه ضربات موجعة إلى عمق إسرائيل، والعودة إلى طاولة المفاوضات مع الجانب الأمريكي. أما المسار الثاني؛ فهو الاستمرار في حرب سرمدية مجهولة النتائج، تستنزف قدراتها العسكرية والمادية، وهو مسار وعر على الأصعدة كافة، لكن سبق وخطت فيه إيران وحدها عقب الثورة.
إن إيران هي خط الدفاع قبل الأخير أمام رُتُوع إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط، وسقوطها أو تداعي النظام فيها أو تغييره على هذه الشاكلة سيجر المنطقة بأسرها إلى حافة الهاوية، والجزء الأكبر من الخسائر الاقتصادية المترتبة على انهيار دولة تستحوذ على المركز الثالث في إنتاج النفط والغاز الطبيعي على مستوى العالم، لن يتكبدها العالم الغربي كما يُثار في الإعلام، لكن ستدفع ثمن هذه الخسائر دول الخليج مثلما دفعت تكلفة ما نشهده من حرب الآن.
خاص وكالة رياليست – د. محمد سيف الدين – دكتوراه في الأدب الشعبي الفارسي، وخبير في التاريخ والأدب الإيراني – مصر