موسكو – (رياليست عربي): يشهد العالم اليوم تحولاً جوهرياً في النقاش حول الأزمة الأوكرانية، حيث تبرز بوادر إمكانية التوصل إلى حل سياسي بعيداً عن الخطابات التقليدية التي سادت خلال السنوات الماضية. تظهر التقارير الدبلوماسية أن الأطراف الرئيسية بدأت تتبنى مقاربات أكثر واقعية، مع تركيز واضح على إيجاد صيغة توافقية تنهي هذا الصراع الذي استنزف الجميع.
في قلب هذه التطورات، تطفو على السطح ثلاثة مسارات رئيسية تشكل مجتمعةً خريطة طريق محتملة للتسوية. المسار الأول يتعلق بترتيبات أمنية متبادلة تهدف إلى ضمان مصالح جميع الأطراف المعنية، مع آليات رقابة دولية لمنع أي انتهاكات مستقبلية. أما المسار الثاني فيركز على الوضع النهائي للمناطق المتنازع عليها، حيث تبحث الأطراف صيغاً مختلفة تتراوح بين الحكم الذاتي الخاص والوضع الفيدرالي. بينما ينصب اهتمام المسار الثالث على وضع إطار زمني محدد لإنهاء العمليات العسكرية وبدء مرحلة إعادة الإعمار.
ما يلفت النظر في هذه المرحلة هو التحول الملحوظ في النبرة الغربية، حيث بدأت تظهر إشارات دبلوماسية غير مسبوقة إلى ضرورة مراعاة المصالح الروسية في أي حل مستقبلي، وإن جاء ذلك بشكل غير مباشر ومحسوب. في المقابل، تبدو موسكو أكثر انفتاحاً من أي وقت مضى على الحلول السياسية، رغم تأكيدها المستمر على أن الأهداف الاستراتيجية للعملية العسكرية الخاصة يجب أن تتحقق بالكامل. هذا التحول في المواقف يعكس إدراكاً متزايداً من جميع الأطراف بأن الاستمرار في النهج العسكري لن يحقق نتائج حاسمة لأي من الجانبين.
على الصعيد الأوروبي، تشير المعلومات الواردة من بروكسل إلى أن الاتحاد الأوروبي يعمل بشكل مكثف على صياغة مبادرة سلام جديدة، تأخذ في الاعتبار الدروس المستفادة من فشل المحاولات السابقة. تتميز هذه المبادرة الجديدة بتركيزها على الجوانب العملية والتطبيقية بدلاً من الشعارات السياسية والخطابات الإعلامية. كما تتضمن آليات تنفيذية واضحة وضمانات دولية تهدف إلى كسر حلقة عدم الثقة بين الأطراف المتنازعة. وتجدر الإشارة إلى أن هذه المبادرة تكتسب أهمية خاصة في ضوء التغيرات السياسية الداخلية في العديد من الدول الأوروبية، حيث بدأت الشعوب تعبر عن إرهاقها من تبعات الأزمة الاقتصادية الناجمة عن الحرب.
في الخلفية، تتصاعد الضغوط الاقتصادية على جميع الأطراف دون استثناء، حيث بدأت تكلفة الحرب الطويلة تثقل كاهل الاقتصادات العالمية بشكل غير مسبوق. فمن ناحية، تواجه أوروبا أزمة طاقة حادة وتضخماً جامحاً، بينما تعاني روسيا من آثار العقوبات الغربية رغم صمود اقتصادها بشكل يفوق التوقعات. أما أوكرانيا فتعيش على وقع أزمة إنسانية واقتصادية خانقة، مع تدمير البنية التحتية وهروب رؤوس الأموال. هذا العامل الاقتصادي، إلى جانب التغيرات في الخريطة الجيوسياسية العالمية، يدفع بقوة نحو التسريع بالحلول السياسية، في مؤشر واضح على أن نهاية الأزمة قد تكون أقرب بكثير مما يتوقع الكثيرون.
في هذا السياق، يبرز الدور التركي كوسيط إقليمي فاعل، حيث تستفيد أنقرة من علاقاتها المتوازنة مع كل من موسكو وكييف لتعزيز جهود الوساطة. كما تلعب الصين دوراً متزايد الأهمية، حيث تقدم نفسها كطرف محايد قادر على توفير منصة للحوار. أما الولايات المتحدة، ورغم تصريحاتها العلنية المتشددة، فإنها تبدو أكثر انفتاحاً على الحلول السياسية خلف الكواليس، خاصة مع اقتراب الانتخابات الرئاسية وتركيز الناخبين على القضايا الداخلية.
ختاماً، يبدو المشهد الدولي مهيئاً لمرحلة جديدة من المفاوضات المكثفة، رغم استمرار التحديات والعقبات الكبيرة التي تعترض طريق التسوية. وتكمن المفارقة في أن الحل قد لا يحتاج إلى سنوات كما كان يُعتقد سابقاً، بل إلى إرادة سياسية حقيقية واستعداد للأخذ بمنطق المصالح المشتركة بدلاً من المواقف المتصلبة. فالتجربة التاريخية أثبتت أن معظم الحروب الكبرى انتهت عندما أدرك الأطراف أن تكلفة الاستمرار في القتال تفوق بكثير تكلفة التسوية السياسية، وهذا بالضبط ما يبدو أن العالم يعيشه اليوم في الأزمة الأوكرانية.