موسكو – (رياليست عربي): في عالم يتسم بالتغيرات الجيوسياسية المتسارعة، تشهد روسيا تحولاً استراتيجياً في توجهها نحو الشرق، مع إعادة تقييم علاقاتها مع الدول الأوروبية في إطار نظام أمني أوراسي جديد. وفقاً لمقال نشرته “إزفيستيا”، تبحث موسكو إمكانية إشراك الدول الأوروبية في هيكل أمني بديل يتجاوز الناتو، مما يعكس رؤية جديدة للتعاون الأمني في القارة. تشير التصريحات الروسية الأخيرة إلى رغبة في إقامة نظام أمني يشمل كلاً من أوروبا وآسيا، مع التركيز على مبادئ المساواة في السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. هذا النظام المقترح يأتي كرد فعل على توسع حلف الناتو شرقاً وما يراه الروس كتهديد لأمنهم القومي.
الخبراء يرون أن هذا التحول يعكس إدراكاً روسياً بأن المستقبل الجيوسياسي يتجه نحو آسيا، مع تزايد أهمية لاعبين مثل الصين والهند. ومع ذلك، تبقى روسيا حريصة على الحفاظ على قنوات اتصال مع أوروبا، خاصة مع الدول التي تبدي استعداداً لحوار أكثر توازناً بعيداً عن الهيمنة الأمريكية. يواجه هذا المقترح الروسي عدة تحديات، أبرزها تشكيك الدول الأوروبية في النوايا الروسية خاصة بعد الأزمة الأوكرانية، واعتماد معظم الدول الأوروبية بشكل كبير على الهيكل الأمني للحلف الأطلسي، بالإضافة إلى الضغوط الأمريكية التي تمارس تأثيراً كبيراً على حلفائها الأوروبيين لتجنب أي تعاون أمني مستقل مع موسكو.
ومع ذلك، توجد فرص لهذا المقترح في حال تزايد الاستياء الأوروبي من السياسات الأمريكية، أو ظهور رغبة لدى بعض الدول في علاقات اقتصادية وأمنية أكثر توازناً مع روسيا، أو نجاح المبادرات الاقتصادية الأوراسية مثل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي. لا يمكن فصل الجانب الأمني عن الاقتصادي في هذا التحول، حيث تشهد التجارة بين روسيا ودول آسيا نمواً مطرداً، مع زيادة الاعتماد على العملات المحلية في المبادلات التجارية بعيداً عن الدولار. هذا التحول المالي يشكل ركيزة مهمة لأي نظام أمني بديل، حيث أن الاستقلال الاقتصادي هو شرط أساسي للاستقلال السياسي والأمني.
تتفاوت ردود الفعل الدولية على هذه الرؤية الروسية، حيث تبدي الصين تفهماً للطرح الروسي مع حرصها على عدم تصادمه مع مبادراتها الإقليمية، بينما تبدي الهند اهتماماً بتعددية قطبية لكنها حذرة من أي تحالفات قد تثير حفيظة واشنطن. من جهة أخرى ترفض الدول الأوروبية الشرقية الفكرة جملة وتفصيلاً، بينما تبدي بعض الدول الغربية مثل فرنسا وألمانيا اهتماماً محدوداً بالحوار مع موسكو. يبدو أن التحول الروسي نحو الشرق وإعادة تصور النظام الأمني الأوروبي هو استجابة لتغير موازين القوى العالمية. بينما تواجه هذه الرؤية عقبات كبيرة، إلا أنها تعكس واقعاً جيوسياسياً جديداً حيث لم تعد الهيمنة الغربية مطلقة.
مستقبل الأمن في أوراسيا سيعتمد على قدرة الأطراف المختلفة على إيجاد أرضية مشتركة تحفظ مصالح الجميع في نظام متعدد الأقطاب، في النهاية، فإن نجاح أي نظام أمني أوراسي جديد سيتطلب أكثر من مجرد رغبات روسية، بل إرادة سياسية من جميع الأطراف المعنية، ووعياً بأن التحديات الأمنية المعاصرة مثل الإرهاب والجريمة المنظمة والأزمات البيئية تتطلب تعاوناً إقليمياً وعالمياً يتجاوز التحالفات الضيقة، التحول الجيوسياسي الحالي يشير إلى أن العالم يتجه نحو نظام أكثر تعقيداً وتعددية، حيث سيكون للشرق وزن متزايد في المعادلات الأمنية والاقتصادية العالمية.
