باريس – (رياليست عربي): كشف رئيس الوزراء الفرنسي ” فرانسوا بايرو” الثلاثاء الماضي، عن مشروع موازنة العام 2025/2026، وصفت بالتقشفية، واضعا نصب عينيه هدف خفض العجز والدين العام وسط أزمة اقتصادية حادة، لكن الخطة، التي تقوم على تقليص واسع في النفقات وإلغاء عطلتين رسميتين، فجرت موجة من الغضب في الأوساط السياسية والنقابية، كما أثارت تهديدات بحجب الثقة عن الحكومة.
ومع اقتراب موعد مناقشة المشروع في البرلمان، يبدو أن فرنسا تتجه نحو خريف سياسي ساخن جدا وحامي الوطيس .
بعد أن عرض رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا بايرو، الثلاثاء، الخطوط العريضة لمشروع موازنة العام 2026، والتي ينتظر أن يناقشها البرلمان فور انعقاده عقب العطلة الصيفية، وبالأمس وفي تصريح مدهش وغريب صرح رئيس وزراء فرنسا فرنسوا بايرو أن ديون فرنسا تزيد 5000 يورو كل ثانية .
حيث توالت ردود الفعل من مختلف القوى السياسية والنقابات العمالية وممثلي قطاع الأعمال والأشغال، وقد غلبت نبرة التشاؤم على تعليقات العديد من الشخصيات السياسية، ولا سيما من المعارضة.
ومن ناحية أخرى، هددت عدة أطراف ومنظمات، خصوصا من معسكر اليسار، بالتصويت على حجب الثقة عن الحكومة الحالية إذا لم تعيد النظر في مضمون وثيقة الموازنة قبل تقديمها وطرحها أمام الجمعية الوطنية بصيغتها النهائية.
هذا وقد كشف بايرو عن خطة لتوفير ما لا يقل عن 43.8 مليار يورو خلال العام 2026، بهدف خفض العجز المالي وتقليص حجم الدين العام الذي تجاوز 3000 مليار يورو. ولتحقيق هذه الأهداف، تعول الحكومة على تقليص كبير في النفقات العامة، بما يشمل قطاعات الصحة، والتعليم، والتقاعد، والوظائف العامة، والضمان الاجتماعي، إضافة إلى إلغاء عطلتين رسميتين هما “اثنين الفصح” و”الثامن من مايو” (عيد النصر على النازية)، علما بأن العطل الرسمية في فرنسا تبلغ 11 يوما سنوياً مدفوعة الأجر، وبذلك سيصبح عددها 9 أيام.
هذا، و عقب أن خطابه مباشرة، دعا زعيم حزب “فرنسا الأبية” (أقصى اليسار)، جان لوك ميلنشوه، إلى رحيل بايرو، فيما حذرت زعيمة حزب “التجمع الوطني” اليميني المتطرف مارين لوبان من أن “عدم التراجع عن هذه المقترحات سيدفعها وكتلتها البرلمانية إلى التقدم بمذكرة حجب الثقة”.
وقال ميلنشوه : “هذا تدمير منهجي للدولة والخدمات العامة لصالح السوق، وجعل الأغلبية تدفع الثمن لحماية ثروات الأغنياء الكبار. إنه سباق نحو الهاوية المالية والاجتماعية، وعلينا إيقاف ومنع ذلك فورا”.
من جانبها رفضت النقابات العمالية وحذرت و اعتبرت مشروع خطة موازنة، بايرو تزيد من أعباء الطبقة العاملة وتجنب الشركات الكبرى تحمل نصيبها من الأزمة.
وقالت صوفي بينيه، الأمينة العامة للاتحاد العام للعمل (CGT) Confédération Générale du Travail: “لسنا أمام مسألة ثانوية. إلغاء يوم 8 مايو، الذي يرمز إلى الانتصار على النازية، أمر خطير جدا، خصوصا في وقت يقترب فيه اليمين المتطرف من السلطة”.
أما الاتحاد الفرنسي الديمقراطي للعمل (CFDT) Confédération française démocratique du travail : فقد رفض ما وصفه “السنة البيضاء”، محذرا من انعكاساتها السلبية على الفئات الهشة. وأعلن الاتحاد عن نيته دعوة مختلف النقابات ومنظمات أرباب العمل لاجتماع في مطلع سبتمبر المقبل، لبحث الأولويات الفعلية لعالم العمل .
التحليل والتعليق:
نود أن نشير إلي فرنسا زادت من حصتها في ميزانية الدفاع لحلف الناتو بقيمة 4 مليار دولار أمريكي على الأقل، وذلك وفقا لما تم الاتفاق علية في اجتماع زعماء وقادة أعضاء الحلف الاخير، والذي عقد بمدينة لاهاي الهولندية خلال الفترة من 25-26 من شهر يونيو الماضي .
أولاً: على من الصعوبات التي تواجهها قطاع الفلاحة والصناعة والتكنولوجيا في فرنسا والتضخم والبطالة، وضعف القدرة الشرائية.
وفي ضوء الموازنة التي تبلغ تقريبا 155 مليار يورو، والتي تعاني من عجز يبلغ تقريباً 5,5% هي الأعلى بين دول الإتحاد الأوروبي، حيث أن الحد المسموح به هو 3%، وتستهدف الحكومة الفرنسية بخفض هذا العجز بمقدار 4%، بالإضافة إلي تسجيل نسب تخارج كثير من الشركات من السوق، خاصة الشركات الصغيرة (من 3 أفراد فأقل) وكذلك اعداد العاطلين عن العمل والذين بلغ عددهم مؤخرا 2 مليون ونصف بنسبة 7,5 % تقريبا، انخفض معدل التضخم ليسجل 0,7% .
ثانياً: رغم ما ذكر بفعالية ، فإن الاقتصاد الفرنسي يمتلك نقاط قوة كثيرة: تتمثل في قوة قطاع الفلاحة (الزراعة) حيث تعد فرنسا من أوائل الدول المنتجة المصدرة للقمح، وقوة قطاع الصناعة خاصة السلاح والمعدات العسكرية والطيران، وكذلك قطاع السياحة، حيث تعد فرنسا أول الدول عالميا في استقبال الأفواج والليالي الفندقية، حيث يفد إليها ما يزيد عن 89 مليون سائح سنوياً، كما أن الصادرات الفرنسية بلغت مؤخرا ما يقرب من 50 مليار يورو.
ثالثاً: أن الصعوبات والتحديات والمشاكل التي يواجهها الاقتصاد الفرنسي، هناك القدرة في التغلب عليها والعبور بتلك الفترة الصعبة، والتي نتجت عن جائحة كورونا، والصراع العسكري الروسي الأوكرانية، واليوم صراع الرسوم الجمركية مع الولايات المتحدة الأمريكية.
وأخيرا فإن اخطر تهديد للاقتصاد الفرنسي هو الصراع السياسي والذي يلقي بتبعاته وظلالة القاتمة علي الاقتصاد والحياة الاجتماعية في فرنسا .
ودلائل ذلك هو صعود وزيادة مؤيدي أقصى اليمين ويمثله RN والذي يناهض الهجرة والمهاجرين، وهو ما يقلق الساسة والحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ويجدر بالذكر أن السياسة الفرنسية في استقبال واستقطاب المهاجرين لم تكن صحيحة سليمة، وانما اتسمت بالعشوائية، والاعتبارات السياسية، ففي مرحلة تاريخية سابقة فتحت أبواب الهجرة على مصراعيها ودون نظرة مستقبلية ثاقبة، ولم تسير على سياسة صحيحة (وهو نفس الحال في الولايات المتحدة الأمريكية حاليا) ولم تتبع سياسة هجرة رشيدة قائمة علي أساس استقطاب وجذب الكفاءات المتميزة والفريدة، كما فعلت دول أخرى مثل: كندا واستراليا ونيوزيلندا، فاليوم فرنسا تعاني وتشتكي من سياسات وحسابات خاطئة بشأن الهجرة والمهاجرين.
والكتلة الاشتراكية، والتي تحظى بأكبر تمثيل في الجمعية الوطنية، وينتظر أن تكون لها الأغلبية في الجولات الانتخابية القادمة، خاصة أن المتابع للحياة السياسية في فرنسا في أصل تتبع اقتصاد اشتراكي من حيث أنظمة العمل والضمان والتأمين الاجتماعي والعمل، والعلاقة بين صاحب العمل والعمال (وهو من أفضل أنظمة التي تتمتع بالعدالة الاجتماعية في العالم)، و النظام الرأس مالي والاقتصاد الحر القائم على المنافسة، وحرية التملك الخاص للمواطن والأجنبي للأرض وعوامل وعناصر الإنتاج.
ومن غرائب وعجائب الوضع والصراع السياسي في فرنسا، أن المهاجرين يلعبون دورا هاما في كل عملية انتخابية وخاصة المسلمين منهم، حيث يخسرهم اليمين المتطرف نتيجة هجومه على مسلمي فرنسا رفضاً لتأثيرها علي الهوية والثقافة الفرنسية، كما يروجون، وعلى الجانب الآخر يستقطبهم الحزب الاشتراكي، والذي يتبني حقوق المهاجرين ويدافع عن الإسلام فوبيا Islamophobie حيث حصل على نسبة 70% من أصواتهم في الانتخابات المحلية الأخيرة .
فالوضع السياسي في فرنسا يشهد صراع محتدم بين كافة أطيافه، وما يزيد الموقف صعوبة هو أحجام وابتعاد المواطن الفرنسي عن المشاركة في عملية الانتخابات سواء محليات أو رئاسية، والتي بلغت نسبة 51% في الجولة الأولى من الانتخابات المحلية الأخيرة، وهو ما يعكس حالة من فقدان الثقة و الملل في الانتخابات ونتائجها.
وهو الوضع التي تتسم به أغلب الانتخابات في كثير من بلدان العالم، لذا، علينا الانتظار لما سوف تسفر عنه الأيام القادمة.
خاص وكالة رياليست – د. خالد عمر – خبير اقتصادي – فرنسا.