الناظر للسياسة الخارجية المصرية يجدها تنطلق من عدة مرتكزات جزء منها يتعلق باستدعاء التاريخ لدور اقليمي تعتقد القاهرة أنه مفقود في حلقة ترتيب المشهد الجيوسياسي، وهي نظرة مقارنة بالوضع الحالي للقاهرة قفزة في هاوية لان اعباء المنطقة اليوم كبيرة بخلاف ما تعتقد القاهرة واهما البعد الاقتصادي الذي تفتقده قدرات الدولة المصرية.
أما المرتكز الثاني وفيه تنطلق القاهرة من حسابات المصلحة الاستراتيجية، وهنا تقديراتها للأحداث تنبع من موقع الصراع الذى يشكل حدث وقربها منه، ومن هم الفاعلين فيه ودرجة تقاطع مصالحهم مع القاهرة، واعتقد ان هذا المرتكز هو الذى يرتب اغلب تحركات القاهرة اليوم.
وبالركون للحالة الليبية نجد ان القاهرة كانت فاعل رئيس في أهم الأحداث المتعلقة بليبيا سوى كان من حيث حربها المعلنة تجاه الإرهاب، او من خلال الأحداث التي تعاورت المشهد الداخلي الليبي بعد ثورة فبراير وإلى اليوم، لم يكن للقاهرة سياسة ثابته تجاه ليبيا؛ بل كانت متفاوته بين المتردد في دخول الصراع، وبين الدخول مع ممارسة الحذر الشديد، بيد انها وجدت وفي مرات عديده دواعى ظروف تستدرجها للصراع الليبي، أما من خلال تهديد مصالها والمتعلقه بإيجاد حليف عسكري قوى يكون حامى للبوابة الغربية لحدودها، وهي الخطة المعلنة كما هو في الحالة التي يمثلها خليفة حفتر، أو من خلال تموضع قوى سياسية جديدة غير مرغوب فيها وهنا تنطلق من بوابة الأمن القومي المصري والعربي للحشد والتأييد ضد هذه القوة كما في الحالة التركية.. وبالتالي هذين عاملين يحددان عمل القاهرة وتحركاتها في هذا الإتجاه بمعية حلفاء أقوياء في عدد من قضايا المنطقة.
جاءت تطورات المشهد العسكري والسياسي في ليبيا عقب إعلان سقوط مدينة ترهونة الإستراتيجية الواقعة على بعد 95كم من العاصمة طرابلس باتجاه الجنوب الشرقي، وتأتي أهميتها من كونها المعقل الأخير لخليفة حفتر في غرب البلاد وهي الحلقة التي ظلت عصية على حكومة الوفاق، وشكلت ضغطاً كبيراً عليها في استخدامها مركز انطلاق للعمليات وحصار طرابلس لما يقارب العام، و بسقوطها تغيرت موازين القوى الجيوسياسية للمتصارعين في ليبيا.
هذا التحول على الأرض تذوقت طعمه حكومة الوفاق المعترف بها دولياً برئاسة فايز السراج وحليفتها تركيا. وبالتالي هذا التحول الكبير قرأته القاهرة بعدة زوايا هي:
1. ان الحرب رسمياً انتقلت من الغرب الي الشرق حيث حدودها وهذا لم يحدث على مدى أعوام منذ بداية الحرب في ليبيا.
2. تموضع جديد لم تكن القاهرة تضعه في حسبانها وهو دخول تركيا وتغيير المعادلة الي صالح حكومة الوفاق.
3. طموح القاهرة ظل ولوقت طويل باتجاه حقول النفط والغاز الليبي في الشرق، فاستمرار هذا التوجد يعني كسب الشركات التركية لإمتيازات العمل واتفاقيات جديدة للتنقيب هذا آخر ما تتوقعه القاهرة.
لكل الاعتبارات أعلاه خرجت القاهرة عن صمتها وطرحت مبادرة سياسية بصورة عاجلة بعد وصول قائد الجيش الوطني خليفة حفتر، ورئيس البرلمان عقيلة صالح، وأسمتها ب”إعلان القاهرة” والمتمثلة في (وقف اطلاق النار، وخروج جميع المرتزقة والمليشيات الأجنبية من ليبيا، والعودة إلى مخرجات مؤتمر برلين، والإلتزام بإعلان دستور ليبي، والعودة الي المسار السياسي لحل الازمة الليبية)، كما اعطت المبادرة مهلة 48 ساعة للرد عليها من طرف حكومة الوفاق، ثم حشدت القاهرة عبراتصالاتها بأصدقاءها وحلفاءها وطلب السند السياسي الإقليمي والدولي لدعم عملية التسوية السياسية في ليبيا.
وفي أول تعليق لحكومة طرابلس طرحت رداً قاسياً على إعلان القاهرة، وهو رفضها للمبادرة وعزمها في مواصلة وتحرير كل المدن الليبية، وأشترطت في أي مبادرة قادمة ابعاد حفتر من التسوية السياسية مشيرة إلى أنه لا يرغب في الحل السياسي.
ما هي دلالة التوقيت لإعلان القاهرة؟
جاء إعلان القاهرة بعد هزيمة مني بها حليف السيسي حفتر، واستنفاد كل الخيارات لدى القاهرة وانتقال عنصر القوة لدى حكومة الوفاق، ذات التوجهات الإسلامية وهو ما يهدد عرش السيسي وحلفائه في المنطقة.
ومن حيث الدلالات:
يرتبط إعلان القاهرة بتقديرات الأوضاع على الصعيدين الداخلي والخارجي؛ فداخلياً: تعاني البلاد منذ شهور من أزمات معيشية خانقة، وفساد وتكبيل للحريات، الأمر الذى جعلها تنادى بسقوط النظام، لكن سرعان ما عادة للتهدئة، لكن تراجعت شعبية النظام الحاكم.
خارجياً وترتبط بعدة أبعاد
أولاً: الصراع الإقليمي في البحر المتوسط حول الغاز بينها و كل من إسرائيل وتركيا وقبرص واليونان، وكذلك ترتبط المبادرة بصراع آخر يتعلق بالمكانة الإقليمية، بعد تراجع دوار المملكة العربية السعودية، وباتت الساحة أمام تركيا، باعتبار أنها أكبر كتلة سنية، وتمتلك فائض من القوة الاقتصادية يجعله مؤهلة أكثر من مصر للعب هذا الدور بإحترافية.
ثانياً: هناك ملف سد النهضة؛ خاصة بعد وصول الأطراف إلى طريق مسدود، وما زالت اللجان التنسيقة تنعقد على مستوى وزراء الري والسدود للدول الثلاث في محاولة لإحداث إختراق في الملفات المختلف عليها، إلا أن تصريح رئيس وزراء اثيوبيا في يوم 8 يونيو/حزيران أمام البرلمان الفدرالي والذى قال فيه أن بلاده عازمة في بدء تخزين 4,9 مليار متر مكعب من المياه خلف السد، وهو ما يشكل صدمة وخطراً كبيراً لدى القاهرة والخرطوم، وهذا الموقف خلط أوراق القاهرة مع ملف الأزمات الأخرى.
لكل الاعتبارات والظروف أعلاه كان التوقيت مهماً وحاسما للقاهرة لطرح مبادرتها ومناورة جيدة للخروج من التسوية الليبية بأقل الخسائر، لتعيد ترتيب صفوفها للمواجهات قادمة أكثر أهمية ومنها المسألة المائية وهذا أولاً.
ثانياً: هناك خطة الضم التى تروج لها الحكومة الإسرائيلية هذه الأيام والمدعومة من واشنطن، ورغم أن الولايات المتحدة طالبت نتنياهو بتأجيل خطة الضم لبعض الوقت إلا أن الأمر أعتقد ربما لا يتعلق بتطورات الأحداث في الشرق الأوسط؛ بقدر ما يتعلق بالداخل الأمريكي وهي الأحداث التي حدثت على خلفية قتل المواطن الأمريكي من الأصول السوداء جورج فلويد، ومع أعقبها من أعمال تخريب وتطورات بالداخل، كما أن دونالد ترمب نفسه في حاجه لطرح هذه الخطة في سباقه الرئاسي القادم لكسب التأيد والدعم المالي من اللوبي اليهودي ومنظمات المجتمع المدني اليهودية وهذا مهم لترامب.
وعليه بهذه الحسابات فإن مصر ستكون في قلب هذه التطورات، خاصة بالوضع الذى يلحق بالفلسطينيين؛ بالتالي هذا ما يجعل مصر تستعجل إنهاء التسوية الليبية.
ردود الفعل العربية والعالمية لإعلان القاهرة
رحبت كل من الإمارات والسعودية والأردن والبحرين وروسيا والإتحاد الأوروبي وأمريكا إلى جانب الجامعة العربية والأمم المتحدة بإعلان القاهرة، وثمنت جهودها تجاه احتواء الازمة الليبية، وتفاوتت بيانات الإدانة بين هذه الدول والتكتلات لكنها اتفقت كل مطالبها بضرورة الحل السياسي ووقف إطلاق النار.
تأييد المبادرة أو رفضها لا يعنى للقاهرة شيئاً فتطورات الأحداث على الأرض وقدرة القاهرة رغبتها فئ إنهاء الصراع على عجل، تظهرمن خلال الفترة الزمنية التي منحتها لحكومة الوفاق والمتمثلة في (48)ساعة، هذا يعني ان القاهرة لديها حساب دقيق جداً للوقت ولا ترغب بأن تحصد حكومة الوفاق وتركيا تقدم عسكري يؤدي لتواجد تركي في جوارها، وهذا يعنى الاستعداد للتواجد على حدودها الغربية لمنع تقدم العملية العسكرية إلى داخل أراضيها، وهو ما يؤكده اجتماع مجلس الأمن القومي المصري قبل يومين.
“إن أهم ما يشكل دوافع نظام السيسي في الصراع الليبي هي معضلة مواجهة الإسلام السياسي، وصناعة البديل الذى يتشكل عسكرياً على غراره، ويكون النظام الجديد في ليبيا مسانداً وداعماً لنظام حكمه وتأمين لجبهته الغربية، وهي ذات المحاولات التى تجرى الآن مع بعض عسكر السودان، وبهذه المؤشرات يصبح حلم السيسي متبط بحفتر ولا أعتقد سيتخلى عنه السيسي قريباً.”
المعادلة التركية وقلب الموازين
جاءت التدخلات التركية في ليبيا لهدفين: الأولى تتعلق بتأكيد وتعزيز الحضور التركي في مياه المتوسط، والذى تسعى من خلاله، أنقرة لتأمين إمدادتها الطاقوية، والهدف الثاني هو ما سمى بحماية الوجود التركماني في ليبيا، وهذه نفس السياسة(الأقليات) التى تستخدمها أنقرة اليوم مع دول البلقان وآسيا الوسطى، وهو أسمته بالوجود التركماني والأزري، وتعتقد أنقرة أن هذا كافي وسيعفها ويقلل من حرجها أمام المجتمع الدولي.
ربما أنقرة تحاول أن تعوض هزائم موسكو لها في سوريا في الساحة الليبية، فروسيا متقدمه على تركيا في سوريا، وتسيطر على المشهد الجيوسياسي هناك وتناور بورقة حفتر إلى جانب مصر، بينما تركيا تتحالف مع السراج، وبالتالي ما متوقع أن تستأسد الدولتين بالمشهد السياسي في ليبيا، بينما تتنازل عن هامش ورة حفتر لمصر.
إنحياز مبادرة القاهرة الصارخ باتجاه حفتر يجعل السراج وحليفه التركي لا يبديان اي تنازل، ويستمران في تقدمهما عسكرياً ولعبة الحرب المنتصرين فيها هم من يطرحون شروط السلام، وبالتالي ربما اذا استمر الحال كذلك ستضيق خيارات التسوية السياسية لدى القاهرة.
فقد سعت مصر في وقت سابق وخلال عدد من المنابر بضرورة التدخل الدولي بل ذهبت لابعد من ذلك عندما اوعزت لحكومة طبرق نيتها في عقد معاهدة دفاع مشترك يجعل خيارات التدخل العسكري باتجاه طرابلس أمرا ضروريا وحاسما للصراع في ليبيا وبضمان التسوية لصالحها… لكن كانت دائماً تفاجئ بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2174 والذي يمنع اي عملية عسكرية في ليبيا.
ما هي خيارات المواجهة الروسية التركية والمصرية التركية في القريب خاصة بعد انتقال الصراع نحو الشرق! ؟
وبقراءة محدات البيئة الإقليمية والدولية للقاهرة؛ فإن خيار الحوار والحل السياسي هو الأنجح ويجنبها الوقوع في مشكلات كبرى تحملها إلتزامات في حرب بالوكالة ستبدد مواردها وتستنزف قدراتها، ولن تكون الحرب المباشرة في ليبيا مجرد مرتزقة وانما دول وجيوش كبرى لدول تقع علي الاف الكيلومترات من ليبيا ومصر، هي تريد نقل حربها مع تركيا وروسيا الي جنوب المتوسط.
أما أنقرة فتبدوا أنها بنت تقديراتها على توقع احتمالية اختلال ميزان القوى في ليبيا ربما بحرق ورقة حفتر، مع توقع حشد مصر لحلفاءها وهنا يصبح سيصعب على تركيا تشكيل حلف يستطيع مواجهة روسيا، مصر، اليونان، السعودية، الامارات، فرنسا.
كما أن التقارب الروسي قد ظهر إحضاره في قوات طرابلس وطبرق إلى طاولة المفاوضات في سيناريو ربما يؤدي لإستبعاد حفتر، وبالتالي استبعاد الإمارات ومصر وفرنسا من اللعبة. ويمكن اعتبار صالح الذي تتجه أنظار موسكو عليه، مقبولاً إلى حد ما لأنقرة أيضاً.
ومع ذلك، سواء التزمت الأطراف المتناحرة في ليبيا بوقف إطلاق النار أم لا، فهي ستواجه السيناريوهات التالية:
أولاً:
سيناريو استمرار الحرب وتحرير سرت الليبية من قبل حكومة الوفاق وتركيا، وهنا ربما نشهد مواجهة تركية روسية أو مصرية تركية، أو الاثنين معاً.
ثانياً:
سيناريو التهدئة واطلاق تسوية جديدة برعاية روسية تركية وربما ستلحق بهم فرنسا.
ثالثاً:
سيناريو قبول إعلان القاهرة والعودة إلى المفاوضات مخرجات مؤتمر برلين تحت رعاية الأمم المتحدة، وأعتقد هذا السيناريو سيكون أوفر حظاً.
أبو بكر عبدالرحمن، باحث سياسي. خاص “رياليست”