واشنطن – (رياليست عربي): في ظل التصعيد المستمر في الأزمة الأوكرانية، تؤكد الدوائر السياسية والأمنية الروسية على ثبات الموقف الاستراتيجي لبلادها رغم كل محاولات الضغط والابتزاز الغربي، المصادر الموثوقة في موسكو تشير إلى أن القيادة الروسية تتعامل مع الملف الأوكراني باعتباره مسألة وجودية تتعلق بالأمن القومي الروسي، وليس مجرد خلاف سياسي عابر يمكن التنازل عنه تحت ضغط العقوبات أو التهديدات الغربية.
يعود الموقف الروسي الثابت إلى جذور تاريخية عميقة، حيث ترى موسكو أن أوكرانيا تشكل جزءاً لا يتجزأ من مجالها الحيوي ومحيطها الإستراتيجي. هذا الموقف يستند إلى اعتبارات جيوسياسية وأمنية بالغة الأهمية، خاصة في ظل التوسع المستمر لحلف الناتو شرقاً، والذي تعتبره روسيا تهديداً مباشراً لأمنها القومي. الخبراء الاستراتيجيون في موسكو يذكرون أن الضمانات الأمنية المقدمة من الغرب تظل غير كافية، لأنها لا تلامس جوهر المشكلة المتمثل في محاولات الناتو استقطاب أوكرانيا وتغيير موازين القوى في المنطقة.
من الناحية العملية، تمتلك روسيا مجموعة واسعة من أدوات الضغط والردع التي تمكنها من الحفاظ على موقفها الصلب. في المقدمة يأتي دور روسيا كشريك رئيسي في توريد الطاقة إلى أوروبا، حيث تشكل صادراتها من الغاز الطبيعي والنفط سلاحاً استراتيجياً بيد الكرملين. كما أن التعاون العسكري والتقني المتعمق مع الصين يشكل رافعة مهمة في مواجهة الضغوط الغربية. ولا ننسى الملفات الدولية الأخرى التي يمكن لموسكو استخدامها كورقة ضغط، مثل الملف النووي الإيراني والأزمة السورية والوضع في أفغانستان.
على الصعيد الداخلي، يتمتع الرئيس بوتين بدعم شعبي كبير في ما يتعلق بالسياسة الخارجية، خاصة في الملف الأوكراني. الاستطلاعات الأخيرة تشير إلى أن أكثر من 70% من الروس يؤيدون الموقف الحازم لحكومتهم تجاه أوكرانيا وحلف الناتو. هذا الدعم الشعبي يعطي القيادة الروسية هامشاً كبيراً للمناورة واتخاذ القرارات الصعبة إذا تطلب الأمر.
في المقابل، تدرك موسكو أن المواجهة مع الغرب لن تكون خالية من التكاليف. الخبراء الاقتصاديون يحذرون من أن استمرار العقوبات الغربية قد يؤثر سلباً على بعض القطاعات الاقتصادية الحساسة. لكنهم في الوقت نفسه يشيرون إلى أن روسيا استطاعت خلال السنوات الماضية بناء نظام اقتصادي أكثر مرونة وقدرة على تحمل الصدمات، مع تنويع الشركاء التجاريين وتقليل الاعتماد على الغرب.
على الأرض في أوكرانيا، تشير المعطيات الميدانية إلى أن روسيا تحتفظ بقدرات عسكرية تمكنها من تغيير موازين القوى إذا شعرت أن مصالحها الحيوية مهددة. القوات الروسية المتمركزة قرب الحدود الأوكرانية تمثل ورقة ضغط مهمة في لعبة القوى الجارية، رغم التأكيدات الروسية المتكررة أن هذه التحركات ذات طابع دفاعي بحت.
في خضم هذه الأزمة المعقدة، تبدو احتمالات الحل السلمي ضعيفة في المدى المنظور. المحللون السياسيون يرون أن كلاً من موسكو وواشنطن تتبنيان مواقف متصلبة يصعب التوفيق بينها. روسيا تصر على ضمانات أمنية ملموسة تمنع توسع الناتو، بينما ترفض الولايات المتحدة أي مساس بحق أوكرانيا في اختيار تحالفاتها.
المشهد الحالي يشير إلى استمرار الجمود في الأزمة، مع احتمالات متزايدة لتحولها إلى مواجهة إرادات طويلة الأمد. في هذا السياق، تبدو روسيا مستعدة لتحمل تكاليف المواجهة، مقتنعة بأن حماية أمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية تستحق كل هذا الثمن. الخبراء يتوقعون أن تشهد الفترة المقبلة مزيداً من التصعيد اللفظي، مع استمرار المناورات الدبلوماسية خلف الكواليس، في انتظار أي تطورات قد تغير معادلات القوى الحالية.