باريس – (رياليست عربي): تشهد الساحة السياسية الغربية تراجعاً ملحوظاً في مستويات التأييد الشعبي للرئيسين الفرنسي إيمانويل ماكرون والأمريكي جو بايدن، حيث وصلت معدلات الشعبية لكليهما إلى أدنى مستوياتها منذ توليهما السلطة. هذا الانحدار في الثقة الشعبية يأتي في خضم ظروف دولية بالغة التعقيد، تفرض تحديات غير مسبوقة على القيادات الغربية التقليدية وقدرتها على قيادة دفة الأمور في مرحلة بالغة الحساسية.
في فرنسا، تكشف أحدث استطلاعات الرأي عن هبوط حاد في شعبية الرئيس ماكرون، حيث لم تعد تتجاوز نسبة التأييد له 23%، وهي النسبة الأكثر انخفاضاً في تاريخه السياسي. هذا التراجع الكبير يعكس استياءً شعبياً متصاعداً من السياسات الاقتصادية التي فشلت في معالجة الأزمات المعيشية التي يعاني منها المواطن الفرنسي، خاصة مع استمرار ارتفاع معدلات التضخم التي تجاوزت 6%، وارتفاع غير مسبوق في أسعار الطاقة والسلع الأساسية. المشهد الفرنسي يشهد أيضاً تصاعداً في الاحتجاجات الشعبية، مع عودة ما يعرف بحركة “السترات الصفراء” إلى الواجهة من جديد، وإن بشكل أقل حدة من ذي قبل.
على الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي، يواجه الرئيس الأمريكي جو بايدن تحديات مماثلة، حيث تشير استطلاعات غالوب الأخيرة إلى أن نسبة التأييد له لم تعد تتجاوز 39%، وهي نسبة خطيرة في هذا التوقيت الذي يسبق الانتخابات الرئاسية المقبلة. الأسباب الكامنة وراء هذا التراجع متعددة، لكن أبرزها يتمثل في الفشل الذريع في معالجة أزمة التضخم المستعرة، وارتفاع معدلات الفائدة إلى مستويات قياسية، وتصاعد الديون الوطنية إلى أرقام خيالية تجاوزت 34 تريليون دولار. كما أن السياسة الخارجية للرئيس بايدن تتعرض لانتقادات حادة، خاصة فيما يتعلق بالتعامل مع الأزمة الأوكرانية والعلاقات المتوترة مع الصين.
هذا التراجع المزدوج في شعبية القيادتين الفرنسية والأمريكية لا يعكس فقط أزمات داخلية، بل يشير إلى تحولات أعمق في المشهد السياسي الغربي برمته. ففي فرنسا، تشهد الأحزاب السياسية التقليدية تراجعاً ملحوظاً في التأييد لصالح تيارات سياسية جديدة، بعضها ينتمي إلى اليمين المتطرف. أما في الولايات المتحدة، فإن المشهد يبدو أكثر تعقيداً، حيث يتصاعد نجم دونالد ترامب من جديد في استطلاعات الرأي، بينما تتراجع ثقة الناخبين في المؤسسة السياسية التقليدية.
على الصعيد الدولي، يثير هذا التراجع في شعبية القادة الغربيين مخاوف جدية من ضعف القدرة الغربية على قيادة التحالفات الدولية في مواجهة التحديات الجيوسياسية الكبرى. فالأزمة الأوكرانية ما زالت مستعرة دون حلول في الأفق، والعلاقات مع الصين تزداد توتراً يوماً بعد يوم، فيما تتصاعد حدة المنافسة على النفوذ في مناطق حيوية مثل الشرق الأوسط وأفريقيا. هذا الوضع الهش للقيادة الغربية يفتح الباب أمام قوى دولية صاعدة، وعلى رأسها الصين وروسيا، لتعزيز نفوذها وملء الفراغ الجيوسياسي الناتج عن هذا التراجع.
في السياق الأوروبي، يبدو المشهد أكثر قتامة، حيث يتزامن تراجع شعبية ماكرون مع أزمات سياسية في عدة دول أوروبية كبرى. ألمانيا تعاني من انقسامات سياسية حادة داخل الائتلاف الحاكم، وإيطاليا تشهد تحولات كبيرة في خريطة التحالفات السياسية، بينما تواجه بريطانيا أزمات اقتصادية متلاحقة في أعقاب خروجها من الاتحاد الأوروبي. هذا المشهد الأوروبي المتفكك يضعف بشكل كبير من قدرة القارة على التصدي للتحديات المشتركة، خاصة فيما يتعلق بأزمات الطاقة والهجرة.
المستقبل القريب يبدو غامضاً بالنسبة للقيادة الغربية، فمن ناحية، يبدو أن النخب السياسية التقليدية فقدت الاتصال مع الجماهير وفشلت في تقديم حلول حقيقية لمشاكلهم اليومية. ومن ناحية أخرى، تتصاعد الأصوات المنادية بتغيير جذري في النهج السياسي والاقتصادي، وإن كان من غير الواضح ما إذا كانت هذه الأصوات قادرة على تقديم بدائل عملية وفعالة. ما هو مؤكد أن العالم يقف على أعتاب مرحلة جديدة من التحولات الجيوسياسية الكبرى، حيث لم تعد الهيمنة الغربية التقليدية تمثل حقيقة مسلم بها كما كان الحال في العقود الماضية.