موسكو – (رياليست عربي): تشهد القارة الأوروبية في الآونة الأخيرة حالة من التصدع والانقسام لم تشهدها منذ عقود، حيث تتعمق الخلافات الاستراتيجية بين دول الاتحاد الأوروبي على خلفية سلسلة متشابكة من الأزمات الاقتصادية والسياسية والأمنية. هذا الانقسام المتعدد المستويات لم يعد مجرد خلافات ظرفية بين الحكومات الأوروبية، بل تحول إلى أزمة وجودية تهدد الأسس التي بني عليها مشروع التكامل الأوروبي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
في صلب هذه الأزمة، تبرز قضية الطاقة كأحد أخطر ملفات الخلاف بين الدول الأعضاء. فبعد الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022، وجدت أوروبا نفسها في مواجهة معضلة طاقية غير مسبوقة. البيانات الصادرة عن وكالة الطاقة الدولية تشير إلى أن الاتحاد الأوروبي خسر ما يقارب 80% من إمدادات الغاز الروسي التي كانت تغطي نحو 40% من احتياجاته قبل الأزمة. هذا التحول الجذري خلق انقسامات حادة بين الدول الأعضاء، حيث تبنت دول مثل ألمانيا وفرنسا سياسات تقشفية طموحة تتجه نحو تسريع التحول الطاقي واعتماد مصادر الطاقة المتجددة، بينما أصرت دول شرق أوروبا وعلى رأسها بولندا والمجر على ضرورة الحفاظ على إمدادات الطاقة التقليدية عبر خطوط الأنابيب المتبقية، معتبرة أن أي تسرع في عملية التحول الطاقي سيؤدي إلى كوارث اقتصادية واجتماعية.
هذا الانقسام في السياسات الطاقية لم يكن سوى انعكاس لخلافات أعمق تتعلق بالرؤى الجيوسياسية لمستقبل القارة. فبينما تنظر دول أوروبا الغربية إلى الأزمة الأوكرانية من زاوية الحفاظ على النظام الدولي القائم، ترى دول أوروبا الشرقية والبلطيق في الصراع تحدياً وجودياً يهدد أمنها القومي مباشرة. هذا الاختلاف في التصورات أدى إلى توترات واضحة في عملية صنع القرار داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي، حيث تشير التقارير الدبلوماسية إلى أن النقاشات حول حزم العقوبات على روسيا شهدت مواجهات غير مسبوقة بين ممثلي الدول الأعضاء.
ملف الهجرة يشكل بدوره أحد أبرز نقاط الخلاف التي تعمق الانقسام الأوروبي. فالدول الواقعة على الخطوط الأمامية للاتحاد مثل إيطاليا واليونان ومالطا تطالب منذ سنوات بنظام توزيع عادل للحاصلين على حق اللجوء، بينما تواصل دول أوروبا الوسطى والشرقية وعلى رأسها بولندا والمجر رفض أي محاولات لإجبارها على استقبال حصص من المهاجرين. الإحصاءات الصادرة عن المفوضية الأوروبية تشير إلى أن عدد طلبات اللجوء في الاتحاد الأوروبي وصل إلى أكثر من 960 ألف طلب في عام 2022 فقط، وهو أعلى مستوى منذ أزمة الهجرة في 2015-2016. هذا الضغط المتزايد يغذي الخطابات الشعبوية ويضعف التضامن الأوروبي في واحد من أكثر الملفات حساسية.
على المستوى الاقتصادي، تتعمق الفجوة بين الشمال والجنوب الأوروبي بشكل ينذر بعواقب خطيرة على مستقبل منطقة اليورو. التقارير الاقتصادية الصادرة عن البنك المركزي الأوروبي تشير إلى أن معدلات التضخم في دول الجنوب مثل إسبانيا والبرتغال تجاوزت بكثير نظيرتها في دول الشمال، بينما تواصل ديون بعض الدول مثل اليونان وإيطاليا الارتفاع إلى مستويات تنذر بعدم الاستدامة. هذه الاختلالات الهيكلية تعيد إلى الواجهة الجدل القديم حول ضرورة إصلاح قواعد الميزانية المشتركة وإعادة هيكلة سياسة التضامن المالي داخل الاتحاد.
في مواجهة هذه التحديات المتشابكة، تبدو آليات صنع القرار في الاتحاد الأوروبي عاجزة عن تقديم حلول جذرية. نظام الإجماع المتبع في العديد من الملفات الحساسة حول السياسة الخارجية والأمن والهجرة يحول دون اتخاذ قرارات حاسمة في الوقت المناسب. هذا الواقع دفع العديد من المراكز البحثية الأوروبية إلى الدعوة لإصلاحات جذرية في نظام الحوكمة الأوروبي، بما في ذلك إمكانية تبني نظام الأغلبية المؤهلة في الملفات الحساسة، أو تطوير نموذج “أوروبا متعددة السرعات” يسمح لمجموعة من الدول الراغبة بالمضي قدماً في التكامل بينما تحتفظ أخرى بوتيرة أبطأ.
التحدي الأكثر خطورة يتمثل في الصعود المطرد للتيارات الشعبوية في العديد من الدول الأعضاء. الانتخابات الأخيرة في إيطاليا والسويد وهولندا أظهرت أن هذه الحركات لم تعد قوى معارضة هامشية، بل تحولت إلى لاعبين رئيسيين في المشهد السياسي الأوروبي. تحليل نتائج الانتخابات الأوروبية الأخيرة يشير إلى أن التيارات الشعبوية والشكوكية تجاه المشروع الأوروبي تمكنت من تعزيز وجودها في البرلمان الأوروبي بنسبة تقارب 30% من المقاعد. هذه القوى السياسية تتبنى خطاباً معادياً للتكامل الأوروبي وتستغل السخط الشعبي المتزايد تجاه سياسات التقشف والهجرة لتعزيز نفوذها.
في هذا السياق المعقد، يبرز سؤال مصيري حول قدرة النخب السياسية الأوروبية على تجديد العقد الاجتماعي الذي يقوم عليه المشروع الأوروبي. الخبراء يشيرون إلى أن التحدي لا يقتصر على معالجة الأزمات الراهنة، بل يتعداه إلى ضرورة تطوير رؤية استراتيجية جديدة لمكانة أوروبا في عالم يتسم بتصاعد التنافس بين القوى الكبرى وتآكل النظام الدولي الليبرالي. بعض المحللين يرون أن الحل قد يكمن في تعميق التكامل في مجالات الأمن والدفاع والطاقة، بينما يرى آخرون أن إنقاذ المشروع الأوروبي يتطلب أولاً معالجة الفجوات الاقتصادية والاجتماعية بين الدول الأعضاء.
المستقبل الذي ينتظر القارة الأوروبية يبدو غامضاً أكثر من أي وقت مضى، فبينما تشير بعض المؤشرات إلى إمكانية تجاوز الأزمة الحالية عبر سلسلة من الإصلاحات الجذرية، فإن سيناريو التشرذم والتدهور التدريجي لم يعد مستبعداً أيضاً، الواضح أن السنوات القليلة المقبلة ستكون حاسمة في تحديد مصير أحد أهم مشاريع التكامل الإقليمي في التاريخ الحديث، في كل الأحوال، فإن أوروبا التي ستنبثق من هذه الأزمات لن تكون هي أوروبا ما قبل 2022، سواء من حيث بنيتها المؤسسية أو مكانتها في النظام الدولي أو حتى طبيعة العلاقات بين دولها الأعضاء.