شهد السودان في نهار 14 ديسمبر من العام 2018 خروج أول احتجاجات في مدينة الدمازين حاضرة ولاية النيل الأزرق إثر تردى الأوضاع الاقتصادية والسياسية في البلاد، ثم تحولت بعد ذلك إلى عطبرة وبورتسودان وبقية مدن السودان، وفي 25 ديسمبر استقر قطارها في العاصمة الخرطوم بعد أن تبناها تجمع المهنين السودانيين، ثم أستمر فيما بعد لأربعة أشهر استخدمت فيها الأجهزة الأمنية السودانية العديد من الانتهاكات وأساليب القمع إلى ان سقط النظام في نهار 11 ابريل 2019.
بالأمس مرت الذكرى الثانية للثورة ولكن المتتبع للشارع والمشهد السياسي السوداني المحتقن لا يزال الطريق وعراً ومعبد بالمصاعب، فالأزمات التى كانت سبب في الخروج على النظام السابق ما زالت ماثلة أمامه وربما زادت حدتها أكثر؛ ولكن هذه المرة بإستثمار داخلي من أحد أطراف المرحلة الإنتقالية، والحق فأن الطبيعة التي تعود عليها السودانيون دائماً من الفترات الانتقالية السابقة، هو أنها لا تعالج جذور المطالب الجماهيرية ووتبنى قيادتها أنصاف الحلول، وبالتالى لا تؤسس لعمل مستقبلي متراكم، مما يجعل الألتفاف عليها ووأدها مسألة وقت فقط من العسكر؛ بعد ان تتوفر لديهم عوامل أخرى كتدهور الوضع الأمني والاقتصادي الذى ظل شماعة إمتطاء للكل في وأده للتجارب الديموقراطية في السودان، فالمطالب العادلة والمتعلقة بالدستور الدائم، والإجابة على أسئلة الهوية، وعلاقة الدين بالدولة هي نفس القضايا القومية التى ينظر لها السودانيون من زاوية وسطية، ولا يحدث حولها أجماع، وهي لا تقبل ذلك ابداً، ولكن ما يميز هذه الثورة عن سابقاتها أنها ما زالت حية وتجدد مطالبها عاماً بعد عام، وهذا يعني ربما ستتحقق بعد رؤاها الطموحة في المستقبل البعيد وليس الآن، إذا ما توفرت لها هذه الإرادة.
ان التشرزم السياسي الذى يعترى القوى السياسية، وضعف تركيبة المجتمع المدني، والاختلاف حول القضايا الآنية كان عنوان للمرحلة الماضية، وحمدوك كان الخيار الأوحد وسيظل كذلك في ظل غياب الإجماع الشامل حول شخصية وطنية مستقبلاً، فبعد ان تفرغت السبل بحاضنته السياسية وغياب الانسجام فيما بينها، ضف إلى ذلك نواياها غير الصادقة، كل ذلك أضعف تحركات الحكومة في عدد من القضايا، وبالمقابل أكسب المكون العسكري هامش للمناورة وإعادة ترويج الشعارات القديمة حتى بتنا نسمع في الشهر حدوث أكثر من ثلاث إلي اربعه انقلاب.
نجاح خارجي واخفاق داخلي
بعد مجيء الحكومة الجديدة في السودان، طرقت عدداً من الأبواب وألتمست ملفات كثيرة وكان أبرزها ملف العلاقات مع واشنطن والغرب واسرائيل، وقد شهدنا زيارات عديدة لمسؤوليين غربين أبرزهم وزراء خارجية كل من فرنسا والمانيا والولايات المتحدة، ولقاء سري جمع بين رئيس مجلس السيادة ونتياهو برعاية الرئيس الأوغندي موسفيني في عنتبي، والتى وصلت للموافقة على إقامة علاقات تجارية وتعاون زراعي وعلى مستوى الطيران، وإلى جانب ملفات أخرى، ولكن شريطة أن يتم المصادقة على سريان هذا الاتفاق من قبل البرلمان، وأما فيما يتعلق بواشنطن فقد استطاعت ان تكلل الجهود معها برفع اسم السودان من لائحة الدول الراعية للإرهاب، وهذا لم يكن ليكون ممكناً لولا ان هناك جهود كبيرة بزلت لأجله، هذا إذا تجاوزنا أرقام الدعم التى قدمتها هذه الدول للسودان على مدى عام، ومنها المؤتمر الاقتصادي لشركاء السودان الذى نظم في المانيا عبر تقنية الفيديوكونفرس، إلى جانب الدعومات المتعلقة بجائحة كورونا، فضلا عن انسياب العلاقات مع المحيط الاقليمي من الدول العربية والافريقية، وبالتالى أمام السودان فرص واعدة لتشبيك علاقات سياسية واقتصادية.
وفي ذات الوقت اخفقت الحكومة في مسارات داخلية ومنها: فشلها في الإنتصار لشهداء فض الاعتصام ولزويهم، إذا لا تزال لجنة أديب تمارس تشتيت الانتباه، ولم تتقدم أي خطوات في حسم هذا الملف بل عجزت عن استجواب القادة العسكريين الذين تشير إليهم بعض اصابع الإتهام المباشرة بضلوعهم في الحدث، وفيما يتعلق بقضايا الفساد والحريات العامة، فلا زالت هناك ملفات كبرى خاصة بالشركات الامنية لم يسمح للحكومة بالوصول لحساباتها، بينما ابلت الحكومة بلاءاً حسناً في قضية الحريات العامة، ولكن لا تزال الاعتقالات والتضيق على بعض الأقلام يطارد بعض الصحفين والسياسين والنشطاء، هذا مع انفراج في الحريات الدينية، وإذا ما قارنا وضع الدول الافريقية والعربية خاصة في الجوار سنجد أن السودان يعد الأفضل من بينها في الاقليم.
غياب البرلمان كان متعمداً؟
إن أكثر المطالب كانت من نصيب تشكيل البرلمان، وآخرها الاعتصام الذى حدث بالأمس أمام مبنى البرلمان القومي بأمدرمان، ووفق الوثيقة الدستورية يجب تشكيل المجلس التشريعي ليباشر مهامه في فترة لا تتجاوز(90) يوماً من تاريخ التوقيع على الاتفاق وبعضوية(300)مقعداً، كما تشير الوثيقة إلى ان هياكل الحكم في السودان تشمل (مجلس السيادة ومجلس الوزراء والمجلس التشريعي) ونفس الامر دعت إليه اتفاقية جوبا، ولكنها زادت على هياكل الحكم بتشكيلها لمجلس الشركاء الذى وجد لغطاً كبيراً في الأيام الماضية خاصة فيما يتعلق بالصلاحيات، وعلى أي حال فأن غياب البرلمان الذى كان يمكن أن يلعب دوراً كبيراً ويقوم بإسناد الحكومة في عملها طيلة الفترة الماضية، ظل وأده هو هدف طرفي المرحلة الانتقالية من المكون العسكري والمدني، وكان يمكن أن يؤدى إلى استقرار الحكومة ما خلال قيامه بأدوراه الرئيسية من الرقابة إلى سن التشريعات ألى غيرها، وهو ما ادى بالنهاية لجعل الفترة السابقة غير مستقره، وتقودها منظمات المجتمع المدني والنقابات ولجان المقاومة، وهي بالإضافة لانها ضعيفة وتفتقر لموارد ايضاً غير ناضجة سياسياً، وذلك بسبب الثلاث عقود التى دمر فيها النظام السابق هذه النقابات وأبعدها عن العمل السياسي، وبالتالى كل ذلك كان خصماً من المرحلة للطرفين، وحتى بعد اتفاق جوبا تظل نوايا تشكيل البرلمان ضعيفة ولن يلجأوا لها إلا في حال وصل أطراف العملية السياسية في السودان إلى مرحلة توازن الضعف.
ملف السلام
كانت اهم أولويات الحكومة هي الوصول لسلام دائماً في السودان، وفي سبيل ذلك خاضت مفاوضات مارثوانية مع الجبهة الثورية استمرات لعام في جوبا عاصمة جنوب السودان، أدت في المحصلة لتوافق سياسي للمشاركة في السلطة واقتسام الثروة، وهذا نجاح يحسب بصرف النظر عن ما تم التوافق عليه في الداخل من بنود للملمة الوضع الداخلي، بيد أن هذا الاتفاق نجاحه مرهون بمجموعة مطلوبات وأولها: مدى إمكانية تنزيل ما تم التوافق على ارض، خاصة في ظل المتغييرات السياسية المتسارعة على المستويين المحلي والاقليمي، والمطلوب الثاني وهو غاية في الاهمية والتحدى الأرز والخاص بالتمويل، وهو ما تسبب حتى اللحظة تأخر إعفاء الحكومة الحالية وتشكيل الحكومة الجديدة حسب وثيقة جوبا، والتحدى الثالث يتعلق بالمانحين من الدول الاقليمية والمنظمات الاقليمية والدولية التى رعت اتفاق جوبا، وعليه فإن استعجال تنفيذ بنود اتفاق جوبا مهم للغاية قبل أن يصبح هذا الإتفاق بلا قيمة ومن التاريخ، إذا ما حسب تعاطى الحكومة تجاهه؛ بأنها غير جادية في الوفاء بإلتزاماتها ومتماطلة.
وختاماً إن ما قدمته الثورة السودانية حتى اللحظة كدرس تجربة للمنطقة رغم الأخطاء؛ يظل عمل نبيل ومطلب حضاري لشعوب المنطقة ودول الإقليم التى تعج بالدكتاتوريات، والطامحة في إمتلاك إرادتها وعزتها ونيل الحرية والإستقلال، وعليه فإن التحديات الماثلة أمام الشعب السوداني من غياب الأجماع حول القضايا القومية: والمشكلات الاقتصادية والامنية والانقسام الداخلي وتأخر المصالحة الوطنية الشاملة، مع وجود مناخ إقليمي مشجع للإنقلابات وشهية للعسكر في الإنقضاض على المرحلة الانتقالية؛ تظل جميها هي أبرز التحديات التى ستواجه الحكومة الحالية والمستقبلية، كما أن تأخر الوصول لتسوية سياسية مع الحركات التى لم تكن ضمن منبر جوبا (عبد الواحد النور، عبدالعزيز الحلو) سيعقد من مسألة توحيد الجبهة الداخلية، ومخاطر ذلك ستكون عسيرة وستنعكس على جهود الدولة في تصفير عداد الصراع داخلياً، وتؤخر السودان من الاستفادة من فرصة الآنية للريادة محلياً واقليمياً.
ابوبكر عبدالرحمن، باحث في العلاقات الدولية- خاص “رياليست”