القاهرة – (رياليست عربي): عقب الكلمة التي ألقاها الزعيم الإيراني “علي خامنئي” هذا العام بمناسبة عيد النيروز أو بداية السنة الشمسية الجديدة (1 فَروَردین 1401ش/ 21 مارس 2022م)، بث التلفزيون الإيراني لأول مرة أغنية مصورة بعنوان “سلام فرمانده” أي “تحية للقائد”، وقد لاقت الأغنية ترحيباً كبيراً من قبل التيار الأصولي في البلاد، ووصفتها وسائل الإعلام الحكومية بـ “أغنية القرن”.
وبعد إطلاق فيديو كليب سلام فرمانده، نظمت المؤسسات والهيئات الدعائية والدينية التابعة للحكومة الإيرانية خلال الشهرين الماضيين محافل في عدد من المدن الكُبرى مثل طهران، وشيراز، وإصفهان، وهمدان، وبندر عباس، شارك فيها جموع من الأطفال والناشئين، وأنشدوا الأغنية بشكل جماعي في ميادين هذه المدن وشوارعها الرئيسة. وكان أضخم محفل إنشادي للأغنية قد أُقيم في استاد “آزادی” بمشاركة عدد كبير من الأطفال الإيرانيين وأسرهم، حيث يعد هذا الاستاد أكبر ملعب لكرة القدم في طهران، فيتسع إلى ما يقرب من 80 ألف متفرج.

وقد أطلقت وسائل الإعلام الحكومية حملة دعاية واسعة لهذه الأغنية، وكثفت تغطيتها الإعلامية للمحافل التي أُنشدت فيها، وذكر “سعيد نعمتي” المنتج المنفذ للأغنية ومدير فرقة إنشاد “ملت امام حسين (ماح): أمة الإمام الحسن”، أن شعبية سلام فرمانده قد تخطت حدود إيران، ووصلت إلى عدد من الدول العربية والغربية، وتلقى فريق العمل طلبات عديدة لترجمتها إلى اللغات الأجنبية.
و”سلام فرمانده” هي أغنية دينية “شيعية” ذات طابع سياسي؛ تحمل مضامين الإيثار والفداء والشجاعة والدفاع عن العقيدة الثورية والنظام الإيراني، وتخاطب في مجملها الإمام الثاني عشر لدى الشيعة الاثني عشرية “محمد بن الحسن بن علي المهدي”، الملقب بـ “الإمام الغائب”، و”إمام الزمان”، كما تمجد الزعيم الإيراني “على خامنئي”، والقائد السابق لفيلق القدس بالحرس الثوري اللواء “قاسم سليماني”. الأغنية من أشعار “مهدي بني هاشم”، وألحان “مَهيار طالبي”، وغناء المداح “أبو ذر روحي”. وقد قامت فرقة إنشاد ماح بغنائها، وشارك في تصويرها 313 طفلاً وطفلةً من مدينة جيلان، و313 طفلاً وطفلةً من مدينة قُم، وهم يؤدون التحية العسكرية، وصورت الأغنية في ساحة مسجد “جمكران” بقُم، وأخرجت الفيديو كليب “مهرانة به نهاد”، وانتجته شبكة “باران” التابعة لمركز الإذاعة والتليفزيون الجيلاني، وهو أحد مراكز هيئة الإذاعة والتليفزيون الإيرانية.

ويرجع اختيار مسجد جمكران لتصوير الأغنية إلى مكانته الدينية الرفيعة لدى الشيعة، وارتباطه الوثيق بالإمام الغائب، فطبقاً للراوية الشيعية أن الشيخ “حسن بن مثلة الجمكراني” قد رأى في منامه أنه ذهب إلى لقاء الإمام الغائب في البقعة التي شُيد بها المسجد، فأخبره المهدي أن هذه البقعة مباركة، وكل من يصلي فيها كأنه صلى في الكعبة، فكلفه ببناء المسجد. أما عن ظهور 313 طفلاً في الأغنية، فطبقاً للرواية الشيعية أيضاً أن عدد أصحاب الإمام الغائب ومعاونيه وقت ظهوره يبلغ 313 فرداً. وعلى هذا النحو صُورت الأغنية في أجواء بصرية وروحية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمذهب الشيعي.

تحليل الأغنية
تضمنت سلام فرمانده عدداً من الإشارات المتعلقة بالمذهب الشيعي المصاغة في إطار السياسية الإيرانية، فعلى الرغم من أن الأغنية قد تبدو ظاهريًا موجهة إلى الإمام الغائب، إلا أن على خامنئي وقاسم سليماني قد ورد ذكرهما في سياقها، فضلاً عن استدعاء 3 شخصيات من التاريخ الإيراني، وهم: علي بن مَهزيار، وميرزا كوچك خان، ومحمد تقي بهجت فومني.
الأغنية في إطارها العام تخاطب الإمام الغائب، وتؤكد على محبة الأجيال الجديدة له، واستعدادهم لمؤازرته ونصرته، ولكن في هذا الإطار تتضمن الأغنية مقاطع ممهورة بالتوجهات الإيرانية المغرضة؛ وهي على النحو التالي:
- يا حبيب روحي، يا إمام زماني
- الدنيا من غيرك بلا معنى
- يا حبيب أيامي في وجودك ربيع حياتي
- تحية لك أيها القائد (يا إمام زماني) من هذا الجيل الشجاع الصامد
- فالسيد علي (خامنئي) قد استدعى أبناءه (مواليد عام 2011)
- أنا لك مثل علي بن مهزيار
- وعلى الرغم من سني الصغيرة؛ فأنا من قادتك
- لا تنظر إلى سني الصغيرة؛ فأنا سأنجز المهمة مثل ميرزا كوچك
- لا تنظر إلى سني الصغيرة؛ فأنا أبعث إليك السلام من لواء 313
- أتعهد بأن أكون لك مثل الحاج قاسم (سليماني)
- أتعهد بأن أكون خادمك مثل (تقي الله) بهجت، والجنود المجهولين
- أتعهد بأن أظل خادمًا لهذا النظام (الجمهورية الإسلامية)
- فليتني أكون في عينيك مثل الحاج قاسم (سليماني)
- العالم (الشيعي) بأسره منذ أكثر من 1100 سنة يبحث عن المهدي
- فلا تحزن يا سيدي على جندك، فجنودك يبلغون 1400 شخص (مواليد عام 2022)
إذا بدأنا بتحليل هذه المقاطع، سنجد أنها تحمل مغازي شديدة الخصوصية، تخدم في المقام الأول مصالح النظام الإيراني، وترسخ دعائم الحكومة الثيوقراطية القائمة في البلاد وفقًا للعقيدة الشيعية. تبدأ الأغنية بإلقاء السلام على الإمام الغائب من قبل الجيل الجديد؛ جيل العقد الحالي، وهو جيل شجاع وصامد أمام التحديات المحيطة بالوطن، وعلى الرغم من صغر سن هذا الجيل، إلا أنه يتعهد بأن يخدم النظام، ويدافع عنه، فقد لبى نداء قائده على خامنئي لما دعاه.
بعد ذلك تذكر الأغنية عدداً من الشخصيات البارزة في التاريخ الإيراني، لعبت أدوارًا دينية وسياسية مهمة، فتمنى الأطفال أن يحذوا حذوها. أول هذه الشخصيات “علي بن مهزيار الأهوازي”، وهو من فقهاء القرن الثالث الهجري، ومن أصحاب الأئمة “علي بن موسى الرضا”، و”محمد بن علي الجواد”، و”علي بن محمد الهادي”، و”الحسن بن علي العسكري”، وهم بالترتيب الإمام الثامن، والتاسع، والعاشر، والحادي عشر لدي الشيعة. وقد تلقى ابن مهزيار أحكام الفقه الشيعي على أيدي هؤلاء الأئمة، وروى عنهم العديد من الأحاديث، وقيل في بعض الروايات الشيعية إنه وكيل الإمام الهادي.
والشخصية الثانية “يونس” الشهير بـ “ميرزا کوچك خان (1877: 1921)”، وهو مناضل إيراني، وأحد زعماء الثورة الدستورية. وكان کوچك خان مؤمناً بالفكر الاشتراكي، ومعارضاً للتدخل العسكري الأنجلو – سوفيتي في الأراضي الإيرانية خلال الحرب العالمية الأولى، فثار على الحكومة المركزية في طهران تحت قيادة “أحمد شاه” آخر الملوك القاجاريين، متزعماً حركة الغابة (جنبش جنگلی)، وحارب الحكومة القاجارية، واستطاع الاستقلال بمحافظة جيلان الواقعة شمالي إيران، وأسس هناك (جمهورية إيران الاشتراكية)، لكن بسبب نقص الموارد المالية، والاختلافات الداخلية في حكومته، وهجوم القوات القاجارية بقيادة “رضا خان” قائد لواء القوزاق – مؤسس الأسرة البهلوية فيما بعد – والقوات البريطانية، منيّ بالهزيمة، ولقي مصرعه بسبب البرودة القارسة في جيلان، وعُثر على جثته متجمدة وسط ثلوج، وكان حينها يبلغ من العمر 44 عاماً.
أما الشخصية الثالثة فهي “محمد تقي بهجت فومني (1916: 2009)”، وهو من كبار الفقهاء ومراجع التقليد الشيعية. وكان يؤمن بالإسلام السياسي، وذكر أن إقامة دولة إسلامية أمر واجب، وأن الفقهاء الإيرانيين لديهم القدرة على إدارة البلاد. كما دعا إلى استمرار الحياة السياسية للشيعة في زمن الغيبة على عكس مَن كانوا يرون تعليقها حتى ظهور الإمام الغائب، لذا وجب على شخص ما أو جماعة ما تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية وقيادة الشيعة في زمن الغيبة، وهي الفكرة الرئيسة التي بلورها “الخميني” خلال رؤيته لنظرية “ولاية الفقيه”، حيث يقول في كتابه “الحكومة الإسلامية”: “إذا نهض فقيه عالم عادل بأمر تشكيل الحكومة، فإنه يتولى من أمور المجتمع ما كان يتولاه النبي محمد (ص)، ووجب على الناس أن يستمعوا إليه ويطيعوا أوامره”، وبهذا خوّل الخميني لنفسه ومَن يأتون بعده ما كان للنبي من سلطات وصلاحيات.
وأخيراً نأتي إلى “قاسم سليماني (1957: 2020)” القائد السابق لفيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني، والشخصية الأبرز في تاريخ إيران العسكري خلال العقود الخمسة الأخيرة. لقي سليماني مصرعه أوائل عام 2020 خلال غارة أمريكية بطائرة مسيرة على مطار بغداد الدولي، على إثر توتر العلاقات بين طهران وواشنطن. وكان سليماني باعتباره قائد فيلق القدس يُعرف على الصعيد الدولي بأنه المسؤول عن حماية المصالح الإيرانية خارج إيران، بما في ذلك اغتيال شخصيات إيرانية معارضة للنظام، أو دعم الميليشيات الموالية لإيران في المنطقة مالياً وعسكرياً، أو تنفيذ عمليات استخباراتية وعسكرية تخدم المصالح والأهداف الإيرانية في المنطقة سواء على الصعيد الديني المتمثل في نشر المذهب الشيعي، أو على الصعيد السياسي المتمثل في مد النفوذ وتصدير الثورة.
وفيلق القدس هو أحد الوحدات العسكرية التابعة للحرس الثوري، تم تأسيسه أثناء الحرب الإيرانية – العراقية (1980: 1988)، وكان الهدف منه تنفيذ عمليات عسكرية داخل الأراضي العراقية. وتقوم مهمة فيلق القدس حاليًا على تنظيم الثورات “الإسلامية”، ورعايتها، ودعمها، والاستثمار فيها. كما يتولى مسؤولية صياغة السياسات الخارجية للنظام الإيراني، وتنفيذ عملياته العسكرية في الخارج. وطبقًا لما يذكره خبير العلاقات الدولية “فريبرز صارمي” أن فيلق القدس له نفوذ كبير في لبنان، وسوريا، والعراق، واليمن، حيث يدعم الجماعات الشيعية المسلحة في تلك الدول.
وقد ورد بالأغنية عددان لهما دلالة مهمة في المعتقد الشيعي؛ العدد الأول لواء 313، والمقصود به أصحاب الإمام الغائب كما ذكرت آنفاً، أما العدد الثاني فهو 1400؛ عدد جنود المهدي كما ورد بالأغنية، والعدد إشارة إلى عام 1400 بالتقويم الشمسي الموافق 2022 بالتقويم الميلادي، أي أن كل من ولدوا وسيولدون في هذا العام من الإيرانيين هم جنود المهدي، فالأجيال تتعهد بأن تسلم الراية لبعضها بعضاً حتى يظهر المهدي ويقودهم نحو النصر.
ويعتقد الشيعة أن للمهدي غيبتين؛ الغيبة الصغرى، وتبدأ من عام 260هـ/ 874م حتى 329 هـ/ 940م، وخلالها كان المهدي يعين نائباً له، يتحدث باسمه، ويبلغ الناس عنه، وهم 4 نواب، تم إرسالهم بالترتيب كالتالي: عثمان بن سعيد العَمري، ثم ابنه محمد بن عثمان بن سعيد العَمري، ثم أبو القاسم الحسين بن روح النوبختي، ثم علي بن محمد السمري. أما الغيبة الكبرى فهي فترة انقطاع الإنابة إلى أن يظهر المهدي، وتبدأ بوفاة النائب الرابع عام 329 هـ/ 940م.
وإذا دققنا النظر في الشخصيات الواردة بالأغنية، سيتضح لنا أنها ذُكرت عمداً باعتبارها تمثل الأركان الرئيسة للثورة الإيرانية عام 1979، فعلي بن مهزيار صاحب ثلاثة من أئمة الشيعة، وبهذا يمثل البعد الديني في الثورة. وميرزا كوچك خان شاب ثائر مؤمن بالفكر الاشتراكي، ومناهض للحكم الملكي، وبهذا يمثل الشباب الحر الذي شارك في الثورة عن قناعة شخصية ودون أي تحريض أو توجيه داخلي أو خارجي، إيمانًا منه بحتمية التغيير، لكنه سقط في براثن الإسلاميين الذين اختطفوا الثورة. أما تقي الله بهجت فهو انعكاس لشخصية الخميني قائد الثورة، فكلاهما كان يؤمن بنظرية ولاية الفقيه. وأخيراً ركنا السلطة الحالية؛ على خامنئي الامتداد الفكري والديني للخميني، وقاسم سليماني حارس الثورة وساعدها القوي في الداخل والخارج. هذه الشخصيات تمثل ثالوث الثورة الإيرانية؛ العقيدة، والفكر، والمحرك، ويسعى النظام الإيراني من خلال الأغنية في ظل ما يواجه من مشاكل وأزمات إلى إحياء هذا الثالوث؛ العقيدة الدينية المتجسدة في شخصية المهدي، الفكر الثوري المتمثل في النظام القائم على أساس نظرية ولاية الفقيه، محرك الثورة المتمثل في الجيل الجديد من الإيرانيين.
الرسائل الموجهة في الأغنية
حملت الأغنية عددًا من الرسائل الموجهة التي توضح أيديولوجيات النظام الإيراني، ومن الممكن إجمالها فيما يلي:
- النظام الإيراني راسخ وله ملايين المؤيدين من الجيل الجديد.
- تربية جيل جديد على مبادئ الثورة، وتجييشه لخدمة النظام.
- الدعاية للحرس الثوري باعتباره حامي النظام في الداخل والخارج من حركات التمرد والمؤامرات والتدخلات الأجنبية.
- إضفاء هالة من القداسة على رجالات القيادة الإيرانية باعتبارهم وكلاء الإمام الغائب.
- تأصيل مبدأ ولاية الفقيه الذي أرساه الخميني عقب الثورة.
- استمالة قلوب الإيرانيين عن طريق الضرب على وتر حساس يمس عقيدتهم مسًا مباشرًا، ألا وهو الإمام الغائب.
جدل وانتقاد
أحدثت أغنية سلام فرمانده جدلاً واسعاً على مواقع التواصل الاجتماعي، واستخدم رواد هذه المواقع مضمون الأغنية وفقاً لآرائهم السياسية المختلفة، فتداولوا على صفحاتهم الشخصية صور عدد من رؤساء العالم وقادته السابقين والحاليين مثل: محمد رضا شاه بهلوي، وعلى خامنئي، ومعمر القذافي، وصدام حسين، وموسوليني، وهتلر، وزعيم كوريا الشمالية، وكان العنوان المشترك تحت كل هذه الصور “سلام فرمانده”، حيث استخدم رواد مواقع التواصل الاجتماعي عنوان الأغنية للتعبير عن وجهات نظرهم المتباينة ما بين مؤيدين لهؤلاء الحكام ومعارضين لهم، فالبعض مجدهم، والبعض الآخر ذمهم، وفريق ثالث أشار إلى سوء خاتمتهم، وفريق رابع تنبَّأ ببئس مصيرهم. كما شارك عدد من رواد مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع مصورة، تم تركيبها على كليب الأغنية، تسخر من علي خامنئي وتصفه بألفاظ نابية بسبب الأوضاع الاقتصادية المتردية التي تمر بها إيران حالياً.
ويرى فريق عمل الأغنية ومحبوها من التيار الأصولي في إيران أن سلام فرمانده جاءت رداً على الشعبية الكبيرة لأغاني مطرب الراب الإيراني “ساسان حيدرى يافته” المعروف فنياً باسم “ساسي مانكان” بين التلاميذ والطلاب الإيرانيين، خاصة أغنيته الشهيرة “جنتلمان” في عام 2019 التي حققت حتى الآن أكثر من 20 مليون مشاهدة على موقع اليوتيوب، فخلال السنوات الأخيرة تغنى التلاميذ في العديد من المدارس بأغاني مانكان، وشاركوا على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع مصورة لهم وهم يتغنون بكلمات هذه الأغاني ويرقصون على نغماتها في سعادة وانطلاق.
ويُذكر أن مسألة انتشار مقاطع مصورة للتلاميذ الإيرانيين على مواقع التواصل الاجتماعي، وهم يغنون أغنية جنتلمان ويرقصون عليها قد أثارت حفيظة المسؤولين الإيرانيين، وبلغ بهم الأمر أن السلطات الأمنية قد لاحقت العديد من هؤلاء التلاميذ، في واقعة ليست بجديدة في إيران، فقد أثارت قضية رقص فتيات صغيرات على خشبة المسرح خلال الاحتفال بيوم المرأة في طهران في مارس عام 2018 حفيظة المدعي العام، وطالب بمعاقبة منظمي الحفل. كما أجبرت السلطات الإيرانية فتاة تدعى “مائدة حجابري” في سبتمبر 2014 على الاعتذار عبر شاشات التليفزيون الحكومي، لمشاركتها فيديوهات وهي ترقص على صفحتها الشخصية بموقع “إنستجرام”. وتم كذلك الحكم على 4 من الشباب الإيراني فى طهران بالجلد والسجن، بسبب رقصهم في مقطع فيديو على أنغام الأغنية الشهيرة Happy للمغني الأمريكي “فاريل ويليام” Pharrell Williams.
وموضوع انتشار مقاطع مصورة على مواقع التواصل الاجتماعي لأطفال أو شباب سواء في إيران أو غيرها من البلدان وهم يغنون أو يرقصون أو يقدمون محتوى تمثيلي ساخر، هو نوع من التسلية والتفريح عن النفس، وبعض من هؤلاء الشباب أصبحوا حالياً شخصيات عامة، ولهم العديد من المحبين والمتابعين، لكن في بعض المجتمعات المنغلقة أو الأصولية كإيران تعتبر هذه التصرفات المرحة والبريئة نوعًا من الانفلات الأخلاقي، ويتم التعامل معها ببطش شديد. وصناعة المحتوى المرئي بمفهومه العام على شبكة المعلومات الدولية أصبح اليوم أحد المهن الجديدة، وقد تدر أموالاً ضخمةً كاليوتيوبر Youtuber، والإنفلونسر Influencer، والبلوجر Blogger.
واستكمالاً لحملة الإشادة بأغنية سلام فرمانده، قال “أبو ذر روحي” مداح فرقة ماح، ومنشد الأغنية: “إن سلام فرمانده قد أثمرت عن تصالح العديد من أطفال الثورة – من الجيل الحالي – مع الثورة والنظام، لأنها عمل روحي شبيه بمعجزة أمام الزمان”.
واعتبر اللواء “حسين سلامي” القائد العام للحرس الثوري سلام فرمانده أغنية ربانية، وقال: “ستظل هذه الأغنية خالدة في تاريخ البلاد لأنها عمل ثقافي رائع”.
وكتبت وكالة الأنباء الحكومية (إيرنا) في 17 مايو في تعليق على مقاطع مصورة لهذه الأغنية من مختلف المدن الإيرانية، أن سلام فرمانده قد نجحت في خلق تلاحم مجتمعي. وقال “محمد رستم بور” رئيس جامعة “آزاد اسلامی” فرع مدينة آباده بمحافظة فارس، في هذا التعليق: “لا نستطيع انكار أن سلام فرمانده باصطلاح وسائل الإعلام حالياً (ترند)، وتؤكد قدرة المقاومة الثقافية على مواجهة الأعمال المبتذلة كأغاني ساسي مانكن التي استهدفت الجيل الجديد بشكل ممنهج.

وعلى الرغم من حملة التأييد والمباركة التي قادها فريق عمل الأغنية، والمسؤولون، والإعلام الحكومي، فقد واجهت الأغنية أيضاً انتقادات عديدة من قبل علماء الدين والصحفيين الإيرانيين أنفسهم، وكان معظم هذه الانتقادات منصباً على أن نص الأغنية لا يتناسب بأي حال من الأحوال مع إدراك الأطفال الصغار وأعمارهم. فكتب “علي مقدسي بور” باحث الشؤون الدينية في مجلة “معرفت” أن إدراك الطفل واستيعابه للمفاهيم الدينية يختلف عن إدراك الكبار لهذه المفاهيم، فإذا لم تقدم المفاهيم الدينية للتلاميذ في المرحلة الابتدائية بشكل مدروس، من الممكن أن يسفر ذلك عن تبعات مضرة.
واعتبر “محمد رضا زائري” عالم الدين ورئيس تحرير مجلة “خيمه” أن سلام فرمانده تجربة ناجحة، لكنه يعتقد أن تأثير مثل هذه الأعمال مؤقت بسبب “بنتيها الضعيفة”، وتساءل: “ألن تؤدي الدعاية الواسعة للأغنية إلى نتائج عكسية؟”..
وكتب “سیاوش باك دامن” الناشط الإعلامي ساخراً من محبي سلام فرمانده، والمتحدثين عن جيل الثورة الجديد، حيث يقول: “من الأفضل أن يبحثوا عن جيل الخميني حتى يعلموا أين هو الآن، فبالأمس رأيتُ أبي في المنام مرة أخرى”..
وقارن “جواد شاملو” الصحفي في صحيفة “رسالت” بين كليب “مدادرنگی: قلم ألوان” للمداح عبد الرضا هلالي، وكليب “سلام فرمانده”؛ ففي الكليب الأول يظهر الأطفال في غرفة رسم يرسمون بالأقلام الملونة، ويمرحون، ويقومون بأمور طفولية، على عكس الأطفال في الكليب الثاني، حيث يظهورن في ساحة مسجد وهم يؤدون التحية العسكرية كأنهم جيش منظم ومتحد، مما جعل شاملو يصفهم بـ “جيش ضخم من الأطفال المساكين”. واعتبر شاملو أن كليب مدادرنگی أكثر حداثةً وأطول بقاءً من كليب سلام فرمانده، والسبب في انتشار الكلیب الثاني أنه يثير حماسة محزنة تقوم على مدح الإمام الغائب، وهي نقطة ضعف في نفوس الإيرانيين، وتمس ركناً أصيلاً في عقيدتهم الدينية.
وثمة فرق كبير بين كليبي مدادرنگی وسلام فرمانده من حيث الشكل والمضمون، فالكليب الأول يتناسب مع عقلية الطفل، فهو مصور في غرفة رسم، وتتحدث الأغنية عن محبة الحسين بكلمات بسيطة وسلسة لا تحمل أي مناحي سياسية، أما الكليب الثاني فلا يتناسب نهائياً مع عقلية الطفل، حيث يصطف أطفال أبرياء لم يبلغون بعد 11 سنة في ساحة مسجد كجنود في جبهة حرب، وتتسم كلمات الأغنية بالتعقيد والتكلف بشكل يصعب فهمه عليهم، فضلًا عما تحمله من معاني مغرضة.
ويذكر “مراد ويسي” الصحفي وخبير العلوم السياسية خلال حواره مع شبكة “إيران إنترناشيونال” أن هذه الأغنية دعاية للنظام الإيراني، وتذكرنا بالدعاية للحكم النازي، وذكر أن الهدف من إطلاق حملة دعائية واسعة لها هو التغطية على احتجاجات الغلاء في إيران، وصرف أنظار الرأي العام عنها.
كما أدان العديد من نشطاء حقوق الإنسان في إيران وخارجها استغلال الأطفال لصالح الدعاية للنظام، خاصة أن الحكومة الإيرانية قد ألزمت التلاميذ بإنشاد الأغنية في المدارس قسراً. وفي هذا الصدد تذكر الصحيفة الإلكترونية البريطانية “ذا إندبندنت” في نسختها الفارسية أن هذه الأغنية “خطة لتجنيد الأطفال وتربية أطفال مجندين أيديولوجيًا” يخدمون مصالح النظام الإيراني.
وقضية تجنيد الأطفال ليست قضية جديدة في إيران، ففي عام 2019 صرح وزير التربية والتعليم الإيراني السابق “محمد بطحائي”، عقب تبادل طهران وواشنطن تصريحات نارية تُنذر بشوب حرب بين البلدين بسبب انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، أن هناك 14 مليون تلميذ إيراني على استعداد لخوض الحرب. وطبقاً لما تداولته وسائل الإعلام الإيرانية وقتها أن بطحائي قد قال: “لدينا في الوقت الراهن 14 مليون تلميذ، ولو لزم الأمر، سيكونون في ساحة القتال، وسيضحون بأرواحهم مثلما حدث في الحرب الإيرانية – العراقية”.
وقد قوبلت تصريحات وزير التربية والتعليم وقتها بانتقادات شديدة من قبل منظمات المجتمع المدني وحقوق الأطفال في إيران نفسها، فقالت “منظمة حقوق الطفل الإيرانية” في طهران: “إن وزارة التربية والتعليم ووزيرها لا يستطيعان الإعلان عن استعداد 14 مليون تلاميذ للحرب نيابة عنهم”. كما أثارت تصريحات الوزير موجة من الاعتراضات الواسعة من قبل رواد مواقع التواصل الاجتماعي، فذكر البعض موضوع إيفاد الأطفال الإيرانيين إلى جبهة القتال طوال فترة الحرب الإيرانية – العراقية، وأشار البعض الآخر متهكمًا على تصريحات الوزير إلى ضرورة إيفاد ابنه وأبناء سائر المسؤولين الإيرانيين إلى جبهة القتال أولاً.
رؤية عامة
أولاً: التلاعب بالحس الديني
إن أغنية “سلام فرمانده” محاولة مغرضة من الحكومة الإيرانية للتعتيم على المشاكل التي تعصف بالبلاد داخليًا وخارجيًا، من خلال إثارة العاطفة الدينية في قلوب الإيرانيين تجاه مبدأ أصيل في العقيدة الشيعية “الإمام الغائب”. فمع دخول البلاد في نفق متعدد الاتجاهات من الأزمات المتزامنة والمتعاقبة؛ كتردي الأوضاع الاقتصادية، وزيادة معدلات الفقر والبطالة، وتعثر مفاوضات الاتفاق النووي، ونقص الموارد المائية في عدد من المحافظات، والمظاهرات المستمرة بسبب الغلاء وسوء الأحوال المعيشية، والممارسات القمعية للحكومة ضد الأقليات الدينية والمعارضين للنظام، وفوق كل هذا حالة العداء اللامتناهية بين إيران والغرب، تسعى الحكومة إلى دفع أطفال أبرياء لم تتجاوز أعمارهم 11 عاماً، ولم تدرك عقولهم بعد ما يدور حولهم في هذا الزمن الصعب، إلى ترديد شعارات حماسية ودينية تدعو إلى التضحية بالنفس في سبيل الدفاع عن مبادئ الثورة والنظام.
وكما جرت العادة على مر التاريخ يستخدم الحكام الدين والعقيدة للسيطرة على الشعوب، وإلهائها عن واقعها المرير، ولعل إيران نموذج مثالي في هذا الصدد، فقد أقام الخميني دولته عقب الثورة على أساس نظرية ولاية الفقيه المطلقة في زمن الغيبة، وأغنية سلام فرمانده نموذج محدث للنظرية نفسها، تجعل من قادة إيران وكلاءً للإمام الغائب وأصحاب السلطة المطلقة. فإن كانت أغاني ساسي مانكان أو غيره من المغنيين الإيرانيين من وجهة نظر الحكومة الإيرانية غسيل لأدمغة الشباب تهدف إلى إفسادهم أخلاقيًا، فإن أغاني من نوعية سلام فرمانده هي نوع آخر من غسيل الأدمغة يهدف إلى تغييب عقول الناس عما يدور حولهم باسم الدين، بالإضافة إلى تربية جيل متطرف فكرياً وعقائدياً، يتخذ من شخصية اقترنت سيرتها بإراقة دماء الأبرياء كقاسم سليماني قدوة يحتذي بها.
ويُذكر أن النظام الإيراني ينفق كل عام مبالغ طائلة على الدعاية له وتجميل صورته داخلياً وخارجياً، فيشير تقرير الموازنة العامة للحكومة الإيرانية هذا العام إلى أن أكثر من 20 ألف مليار تومان قد خُصص للشؤون الثقافية، كما أن هيئة الدعاية الإسلامية، وهيئة الإذاعة والتلفزيون، والحوزات العلمية لها حصة كبيرة من هذه الميزانية.
ثانياً: تجنيد الأطفال
تجنيد الأطفال في إيران واستغلالهم لخدمة أهداف النظام أمر ليس جديداً على الحكومة الإيرانية، كما أن الأغاني الأيديولوجية والدعائية الموجهة للأطفال الإيرانيين لا تقتصر على زمن الحروب أو المنازعات المسلحة فحسب، ففي سبتمبر 2016 صدرت أغنية مصورة لا تختلف كثيراً عن سلام فرمانده بعنوان “أرغوان” لفرقة إنشاد “نسيم قدر”، يظهر فيها أطفال إيرانيون تتراوح أعمارهم ما بين 11 أو 15 سنة، وهم ينشدون: “أدافع عن المقدسات، وبأمر قائدي؛ أحمل دائمًا روحي فوق كفي”.
لن نقول إن كل الأطفال الذين ظهورا في هذا الكليب، قطعوا الآن مرحلة الطفولة، وشرعوا في مرحلة الشباب، وأصبحوا ركناً في حكومة ولاية الفقيه، لكن يكفي أن نقول إن المشاهدات الميدانية والتقارير الصحفية تشير إلى مشاركة الأطفال والناشئين من أعضاء قوات التعبئة المعروفة باسم “الباسيج (بَسيج)” في قمع احتجاجات الغلاء وسوء الإدارة الاقتصادية في ديسمبر 2017، واحتجاجات رفع أسعار البنزين في أكتوبر 2019، واحتجاجات نقص المياه في خوزستان وإصفهان واحتجاجات الغلاء في أبريل 2022.

وترجع نواة تجنيد الأطفال في إيران إلى بداية الحرب الإيرانية – العراقية، ففي 26 نوفمبر 1979 أمر الخميني بتشكيل قوات “التعبئة”، وهي قوات شبه عسكرية تتكون من المتطوعين المدنيين الذكور والإناث. وفي 6 يوليو 1980 صدق مجلس قيادة الثورة على تأسيس “هيئة التعبئة الوطنية” التي تولت إعداد المتطوعين وتدريبهم على مواجهة التهديدات الداخلية والخارجية. وفي ديسمبر من العام نفسه تغير اسم هيئة التعبئة الوطنية إلى “وحدة تعبئة المستضعفين (سازمان بسيج مستضعفين)”. ومع بداية الحرب تأسست مكاتب التعبئة في جميع مؤسسات الدولة، بما فيها المدارس، فتم استقطاب التلاميذ المؤهلين وتدريبهم وإيفادهم إلى جبهة القتال. وطوال سنوات الحرب، بلغ عدد التلاميذ المشاركين في جبهة القتال أكثر من 550 ألف تلميذ، ولقي أكثر من 36 ألف تلميذ مصرعه، وفُقد 2853 تلميذاً، هذا فضلًا عن سقوط المئات منهم أسرى. وقد استمر نشاط وحدة التعبئة تحت قيادة الحرس الثوري حتى عام 1990، وبعد استقرار الوحدة وبلورة هيكلها وقطاعاتها، تأسس “مكتب التعبئة الطلابية (دفتر بسيج دانشآموزى)” باعتباره قطاع مستقل في وحدة التعبئة.
وقد عملت الحكومة الإيرانية منذ اندلاع الحرب الإيرانية – العراقية وفيما بعد على تلقين الأطفال في المنازل والمدارس والمساجد مبادئ العنف والحرب والانتقام والقتل بأشكال متعددة، وشجعتهم على الالتحاق بالباسيج، وكل عام يُستقطب عدد كبير من الأطفال في الباسيج، وبعد بلوغ بعضهم سن 18 سنة يظلون في هذه المؤسسة العسكرية كأعضاء عاملين.
ويعد إعداد “الطفل المجند” جزءًا من مَهمة وحدة التعبئة الطلابية، وتتم هذه العملية في إطار تطوع الأطفال في الوحدة من أجل الدفاع الوطن. ووفقًا لما يذكره الباحث والناشط في حقوق الطفل “حامد فرمند”، أن الطفل الإيراني منذ المرحلة الابتدائية يستطيع التطوع في وحدة التعبئة، ويكون عضواً غير عامل من سن 11 سنة، وعضوًا عاملًا من سنة 15 سنة. وعلى الرغم من أن هذا التقسيم لا يُراعى عادة، إلا أن الأعضاء العاملين وغير العاملين يُلقنون أسس استخدام الأسلحة بأنواعها المختلفة، ويُسمح للأعضاء العاملين استخدام الأسلحة النارية. وبعيداً عن مسألة الأعضاء العاملين وغير العاملين، يشارك الأطفال بصفة عامة في العمليات المختلفة الخاصة بقمع الاحتجاجات أو الهجوم على تجمعات المواطنين التي تعتبر من وجهة نظر الحكومة الإيرانية مخالفة للقانون والقيم الدينية وأيديولوجيات النظام. وعلى الرغم من أنه ليس لدينا معلومات دقيقة عن عدد الأطفال المجندين في إيران، إلا أن بعض التقارير الرسمية المتعلقة بالسنوات السابقة تشير إلى عدد أعضاء وحدة التعبئة الطلابية يبلغ أكثر من 5 مليون طفل.
ويستخدم الحرس الثوري والباسيج مجموعة من السبل المعروفة لاستقطاب الأطفال في وحدة التعبئة الطلابية، ومن بين هذه السبل: تحفيز الطفل، وإثارة فضوله، واستغلال حاجته للتسلية، ورغبته في التشبه بالكبار واتخاذهم قدوة له، واستغلال العلاقة السلطوية في المجتمع الأبوي (الذكوري)، واستغلال نقاط ضعف الطفل.

إن أغنية “سلام فرمانده” تعكس توجهات النظام الإيراني، ومساعيه الممنهجة لتجنيد الأطفال، وهي مساع أسفرت للأسف الشديد عن نتائج فعلية، ووقع ضحيتها أطفال أبرياء غُسلت أدمغتهم بمفاهيم أيديولوجية خاطئة عن مقاومة الأعداء، والدفاع عن الوطن، وحمايته من التهديدات الداخلية والخارجية، وفوق كل هذا نُصرة الدين، فصور طلاب الباسيج الإيرانيين المتداولة في وسائل الإعلام لا تختلف كثيراً عن مشاهد الأطفال المجندين قسراً على يد جماعة داعش الإرهابية.
خاص وكالة رياليست – دراسة تاريخية – تحليلية – د. محمد عمر سيف الدين – مصر.