القاهرة – (رياليست عربي): شجرة “السرو” في الثقافة الإيرانية هي رمز إيران القومي؛ تُشير إلى الحرية، والخلود، والصمود، والمقاومة، والشموخ، والسمو. يوصف بها رب الأسرة، أو البطل القومي، أو المحبوبة ممشوقة القوام، ويتجسد فيها معنى “الوطن الخالد”.
و”السمكة الصغيرة السوداء: ماهى سياه كوچولو” ترمز إلى جيل الشباب الباحث عن الحرية، والحالم بالتغيير، والساعي إلى التحرر من قيود المجتمع والنظام؛ عنون بها القاص الإيراني آذري الأصل “صمد بهرنجي” واحدةً من أروع قصص الأطفال في تاريخ إيران المعاصر قبل الثورة.
و”البجعة” في أغلب الثقافات الغربية ترمز إلى الحب والوفاء. زوج البجع يظلان وافيين لبعضهما مدى الحياة، وإذا مات أحد الشريكين لا يقترن الآخر بغيره. هذه الصورة البديعة عبَّر عنها الشاعر الإيراني “مهدي حميدي الشيرازي” في غزله الشهير “مرگ قو: موت بجعة”.
أما “تاسيان” فهي اسم مجموعة شعرية مشهورة للشاعر الإيراني الكبير “هوشنج ابتهاج”، وتعني “الشجا” باللهجة الجيلاكية “گیلکی” الشائعة بين أهالي محافظة “جيلان”، وتعبِّر في مدلولها عن مشاعر الضيق والحزن والأسى التي تختلج صدر الإنسان أوقات الغروب والرحيل وفقدان الأحباب.
بينما تحترق شجرة السرو نجد أن ظلالها تعكس على الأرض سمكة سوداء نافقة، كأنها تقول لنا إن الشباب يضحون بأنفسهم في سبيل بقاء الوطن قائمًا، وما بين الحياة والموت قصة تهفو في الروح هفيفًا شجيًا.
بتلك الرموز المستلهمة من الثقافة الإيرانية والأدب الفاسي الثريين، يأخذنا مسلسل “تاسيان؛ روزى روزكارى ايران: الشجا؛ في يوم من أيام إيران” إلى عالم جميل يعانق فيه الماضي الحاضر، وينتقد ما مال من أحوال في بلاد السرو السامق، بدءًا من بوستر دعائي تظهر فيه سروة يعكس ظلها سمكة سوداء نافقة، مرورًا بتتر مصمم على نمط الرسوم المتحركة، تظهر فيه سروة تحترق، وسمكة صغيرة سوداء تحاول ولوج البحر، ختامًا بتحليق زوج بجع إلى الفضاء السرمدي بلا رجعة!!

يعد مسلسل “تاسيان” أحدث عمل درامي عُرض في إيران مؤخرًا، وصاحبه لغطًا طويلًا طوال عرضه وبعد انتهائه بين الجهور والنقاد، كما وُجهت له انتقادات عديدة من قبل الحكومة الإيرانية ووسائل الإعلام التابعة لها.
يروي المسلسل قصة حب جارف بين فتاة ثرية وشاب فقير تدور مجرياتها على أعتاب الثورة الإيرانية، وهو من إنتاج “عليّ أسد زاده”، وتأليف وإخراج “تينا باكرڤان”، وبطولة كل من: هوتن شَكيبا (في دور أمير خسرو يوسفي نيا)، بابك حميديان (في دور جمشيد نجات)، مهسا حجازي (في دور شيرين نجات)، صابر أبر (في دور سعيد)، بانتيا باناهيها (في دور هُما نجات)، نازنين بياتي (في دور مريم سامان). پانتهآ پناهیها
بدأ عرض المسلسل على منصة العرض الرقمية “فيليمو” بشكل أسبوعي، اعتبارًا من مساء الجمعة 7 فبراير 2025م، لكن بعد إذاعة ثلاث حلقات منه، توقف بث المسلسل وفقًا لحكم قضائي بسبب عدم الحصول على تصريح العرض ووجود بعض التجاوزات بالعمل ينبغي معالجتها.
هذا فضلًا عن إرسال خطاب من قبل “هيئة تنظيم معايير الإعلام السمعي والبصري الشامل في الفضاء الإلكتروني: سازمان تنظیم مقررات رسانههای صوت و تصویر فراگیر در فضای مجازی” المعروفة اختصارًا باسم ” ساترا ” إلى المدير التنفيذي لمنصة فيليمو “محمد جواد شكوري مقدم” قبل عرض المسلسل بعدة أيام، يفيد بأن “وضع الحماية” الخاص بالسيدة “تينا باکرڤان” مخرجة مسلسل “تاسيان” مبهم، لذا لا يمكن مناقشة المسلسل المذكور في مجلس العرض، ولا يجوز بثه عبر الشبكات الاجتماعية وسائر المنصات الرقمية مطلقًا.
والمقصود بـ “وضع الحماية” هنا هو التأكد من أن سلوك المخرجة الإيرانية ونشاطها وتصريحاتها في الفضاء الإلكتروني لا يتعارض مع توجهات النظام الإيراني.

ظهور الفنانات دون حجاب معتمرات القبعات الإفرنجية ومرتديات الملابس الأوروبية، استعراض مظاهر الحياة الإيرانية أيام الشاه “محمد رضا بهلوي” كالرقص والغناء والاختلاط بين الجنسين ومعاقرة المشروبات الكُحيلة وارتياد المحافل الأدبية والثقافية والفنية والنوادي الليلية، تصوير حياة الطبقة الراقية المتحررة؛ كلها أمور أثارت انتقادات لاذعة من قبل عدد من المسؤولين الإيرانيين ونقاد الفن الأصوليين ووسائل الإعلام الحكومية، أدت إلى وقف عرض مسلسل “تاسيان”.
بعد الحصول على تصريح العرض وإجراء التعديلات المطلوبة، اُستؤنف بث المسلسل مرة أخرى في 7 مارس، وتوالى عرض حلقاته تباعًا حتى الحلقة الأخيرة مساء الجمعة 25 يوليو 2025م، حيث بلغ عدد حلقات المسلسل 23 حلقة.


تاسيان: كان ياما كان في يوم من أيام إيران
“أمير خُسرو يوسفي نيا (هوتن شكيبا)” شاب ينحدر من عائلة فقيرة متدينة تمثل غالبية الشعب الإيراني في زمن الشاه “محمد رضا بهلوي”. يعمل أمير في مطبعة، ويهتم بالآداب والثقافة والفنون. أما “شيرين نجات (مهسا حجازي)” فهي طالبة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة طهران، تنحدر من عائلة ثرية، متحررة، مثقفة، تمثل الطبقة الراقية في زمن الشاه. تهوى رسم اللوحات وحضور الندوات الأدبية والفنية، وتقوم بأعمال خيرية مع ابنة عمتها “مريم سامان (نازنين بياتي)” في مركز التنمية الفكرية للأطفال واليافعين. أبوها “جَمشيد نجات (بابك حميديان)” رجل وطني حسن السمعة يمتلك مصنعًا.
تلتقي شيرين أميرًا صدفةً عندما تذهب إلى المطبعة لتعيد تجليد كتاب بالٍ، حيث تنتسج خيوط الحب الأولى في قلبيها بعد هذا اللقاء.
من أجل التقرب إلى شيرين والتلاحم مع طبقتها الأرستقراطية، يلتحق “أمير” بالعمل في “منظمة الاستخبارات والأمن القومي الإيراني: سازمان اطلاعات و امنيت کشور” المسماة اختصارًا “الساڤاك” كعميل سري، بمساعدة صديقه الحميم “سعيد (صابر أبر)” العميل بهذا الجهاز الأمني.
بينما تتأجج نار العشق بين شيرين وأمير، تحتدم وتيرة الأحداث السياسية خلال عامي 1977م و1978م منذرةً باندلاع الثورة الإيرانية، حيث نشاهد الخلافات الدائرة بين الجماعات اليسارية والليبرالية والإسلامية، ونشاط الطلاب السياسي، ودور الساڤاك في تحجيم تحركات هذه الجماعات والسيطرة على الاضطرابات الداخلية.
على الرغم من اعتراض والد شيرين “جمشيد نجات” على زواجها من أمير، وإصراره على زواجها من شخص آخر يدعى “شهرام سالار (محمد رضا غفاري)”، تستمر العلاقة بينهما.

بعد مرور فترة من الوقت، يكتشف أمير أن صديقه الحميم سعيد يهوى شيرين، وأنه كتب رسالةً لها يشرح فيها حقيقة أمير وكيفية انضمامه إلى الساڤاك كي يتقرب منها. ينشب شجار بين الصديقين، ويشهر سعيد السلاح في وجه أمير، لكن أمير يدفعه بقوة، فيسقط سعيد على طاولة زجاجية ويلقى مصرعه.
مع بدء المظاهرات الإيرانية، تكتشف شيرين حقيقة أمير دون أن تعلمه. يتوجه أمير إلى مصنع جمشيد نجات، ويثير العمال ذوي التوجهات “الشيوعية” ضده، ويخبرهم بأن صاحب المصنع على وشك الهروب وعليهم أن يمنعوه. يضرم العمال النيران في المصنع، ويهجمون على سيارة نجات، لكنه ينجح في الفرار منهم، ويتوجه إلى الفيلا. يلحق أمير بنجات، ويشهر المسدس في وجهه مهددًا إياه بالقتل.
في تلك الأثناء يصل رئيس العمال “محسن (شهرام قائدي)” ومعه بعض زملائه الأوفياء للسيد نجات. ينشب شجار بين محسن وأمير، ويحاول محسن أن يُغرِق أمير في حمام السباحة. بينما تستجدي شيرين عاملًا آخر بألا يقتلوا أمير، يدفعها العامل بيده، فتسقط على حافة حمام السباحة، وترتطم رأسها بقوة، وتلقى حتفها.
عندما يتفاجأ العاملان بموت شيرين يلوذان بالفرار. يستسلم أمير إلى الغرق بعدما رأى حبيبته تلفظ أنفاسها الأخيرة، حيث ينسدل الستار على قصة حبهما المفعمة بالأسى.

العشق بين تجميل الساڤاك وتحريف تاريخ الثورة
بعد الانتهاء من عرض المسلسل مباشرة، شنت معظم وكالات الأنباء والصحف الإيرانية المقربة من الحكومة؛ مثل كيهان، تسنيم، مشرق نيوز، وطن امروز “الوطن اليوم”، وهمشهري “المواطن”، حملةً شعواءً ضد المسلسل، واعتبرته يسعى إلى تبييض وجه الساڤاك “سيء السمعة” وتلميع “النظام الشاهنشاهي” وتحريف تاريخ “الثورة الإسلامية”، مع أن مخرجة العمل “تينا باكرڤان” قد صرحت في وسائل الإعلام عقب وقف المسلسل بأنه لا يروي تاريخ الثورة الإسلامية، بل يروي قصة حب في قالب تاريخي.
وفقًا لما ذكرته صحيفة “آگاه: اطلاع”؛ أن وجه الساڤاك في مسلسل “تاسيان” أصبح ناصع البياض رغم سمعته السيئة، فقد صور صُنَّاع العمل عملاء الساڤاك في غاية الود والعطف، لا يصفعون أحدًا، ولا يلجؤون إلى العنف، متناسين أن الإدارة العامة الثالثة (إدارة الأمن الداخلي) بالساڤاك المسؤولة عن قمع المعارضة، لم تكن واحدةً من أعنف الجهات الأمنية في العالم وأكثرها وحشية، وفقًا لتقارير اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
بالإضافة إلى ذلك عملية توظيف “أمير” في الساڤاك واستقالته منه وعلاقته برؤسائه في هذا المنظمة تثير العديد من التساؤلات وتتنافى مع الواقع، فكيف يستطيع شخص الانضمام إلى جهاز أمني شديد الحساسية والاستقالة منه بهذه السهولة دون البحث في شأنه والتحري عنه؟

تحليل المسلسل: العناصر الفنية
الحب المستحيل: حبكة ناجحة
على الرغم من اللغط طويل الذي أثاره مسلسل “تاسيان” أثناء عرضه، استطاع أن يجذب إليه قطاعًا كبيرًا من الجمهور الإيراني، وحقق نسب مشاهدة عالية على منصة “فيليمو”، حيث تضافرت به أغلب عوامل النجاح من تأليف وإخراج محكم، وتمثيل متقن، وتصوير وإضاءة وديكور خلاب، وموسيقى تصويرية تشنف لها الآذان.
العصر البهلوي فترة دقيقة في تاريخ إيران المعاصر ماجت بالتحولات السياسية، قلما تطرق إليها صُنَّاع الدراما والسينما الإيرانية، خوفًا من مقص الرقابة وشبح المنع من العرض، لكن المخرجة “تينا باكرڤان” استطاعت أن تتحايل على الرقابة من خلال سرد هذه الفترة التاريخية في قالب “قصة حب شيرين وأمير”.
الحب المستحيل إحدى أشهر الحبكات الدرامية مضمونة النجاح الجماهيري في كل زمان ومكان، كونها تمس الوجدان وتجعل الإنسان يتعاطف مع أبطالها، لذا طالما يلجأ صُنَّاع الأعمال الفنية إلى هذه الحبكة في إطار تقديم أعمالٍ سياسيةٍ أو تاريخيةٍ، يرصدون خلالها ما يطرأ على بُلدانهم من تحولات وتغيُرات اجتماعية محمودة أو مذمومة.
ثم أن هذه النوعية من الأعمال تجذب شريحتين عريضتين من الجماهير، فمن يهوى متابعة الأعمال الرومانسية سيجد متعته الخاصة في مشاهدة قصة تداعب أوتار قلبه وتدغدغ مشاعره، تأخذه إلى عالمٍ حالمٍ وتخرجه من عالمٍ ماديٍ بات يفتقر إلى الحس والشعور. أما من يهوى الأعمال التاريخية، فسيجد ضلته في مشاهدة وقائع طالعها على صفحات الكتب مجسدةً صوتًا وصورةً أمام ناظريه، يقارن مصداقيتها بين الواقع التاريخي والخيال الدرامي.

الممثلون: أداء بيوميكانيكي رشيق
ضم مسلسل “تاسيان” عددًا كبيرًا من نجوم السينما والتلفزيون الإيرانيين، تألقوا في تقديم أدوارهم بالمسلسل. هوتن شكيبا، بابك حميديان، مهسا حجازي، صابر أبر، وسائر أبطال العمل، جميعهم فنانين أثبتوا موهبتهم في أدوار متنوعة سابقًا، لكن ما يميز الأداء في “تاسيان” عن الكثير من الأعمال المشابهة له هو أسلوب تمثيل الممثلين ولغة أجسادهم.
اتبع ممثلو المسلسل المنهج “البيوميكانيكي” Biomechanics في تقديم أدوارهم، ويرجع ذلك إلى أن أغلبهم من ممثلي المسرح؛ فكل حوار وكل حركة قد صممت لتؤثر في الجمهور بشكل كبير، حيث يبتعد أداء الممثلين عن المعايير السينمائية، ويتجه نحو الأداء المسرحي “المبالغ فيه”، لذا يلعب الوجه والجسد والصوت دورًا مهمًا في نقل الإحساس إلى المشاهدين على حد سواء. قد يبدو هذا الأسلوب غير تقليدي في البداية، لكنه يتناسب مع الإطار البصري والسردي في المسلسل تمامًا، مما يخلق أجواء فريدة له.
التحكم في المبالغة والسيطرة على التعبير الجسدي من قبل الممثلين من أهم جوانب القوة في الأسلوب التمثيلي، أبرزته ألوان الباستيل “الهادئة والناعمة” والمؤثرات البصرية في صورة مبهرة على الشاشة.
إلى جانب لغة الجسد، تعد قدرة الممثلين على التعبير جانبًا قويًا آخر في الأسلوب التمثيلي. كل حوار يُلقى بدقة، وكل موقف يجسده الممثلون بتعابير الوجه وحركات الجسد بطريقة أبلغ من الكلمات. هذه الحِنكة في الأداء جعلت المسلسل يتجاوز القوالب النمطية الشائعة في التمثيل التلفزيوني، ويلتف الانتباه بين نظائره في الدراما الإيرانية.
بشكل عام، لقد وفقت المخرجة “تينا باكرڤان” في اختيار طاقم الممثلين وتوجيههم، وخلقت تناغم في الأداء بينهم.
“هوتن شكيبا” في دور “أمير”، قدم شخصيةً صعبةً ومركبةً، تحمل مشاعر متناقضة، وتمر بصراعات داخلية وتحولات مختلفة؛ من شخص فقير، متدين، قانع، هادئ إلى شخص متطلع، متمرد، ناقم، عنيف.
“صابر أبر” في دور “سعيد” جسد شخصية عميل “الساڤاك” باحترافية شديدة. الوجه الجامد، نظرات الشك والريبة الدائمة، نبرة الصوت الحادة، حركات الجسد الواثقة؛ كلها تفاصيل تشير إلى رجل يعمل في مكان حساس له طبيعة خاصة.

“بابك حميديان” في دور “جمشيد نجات”، جسد شخصية الرجل الثري صاحب المصنع ببراعة فائقة. نجات شخصية وطنية يعشق بلده، يمثل نموذجًا إيجابيًا للطبقة الأرستقراطية في زمن الشاه على عكس الصورة السلبية التي عمَّمها النظام الإيراني بعد الثورة على جميع الأثرياء باعتبارهم منتفعين وفاسدين وخائنين.
عدد كبير من هذه الطبقة كان عصاميًا، بنى نفسه بنفسه، لم يكن فاسدًا أو خائنًا، وكان جرمه الوحيد امتلاك حفنة من الأموال أو بعض الممتلكات المادية. أصبح هؤلاء الأشخاص أعداءً لعامة الشعب الفقير، وانعكاسًا لنظام الشاه حتى لو كانوا معارضين له، فاُستُبِحت دمائهم ونُهبت أملاكهم.
يُحسب للممثل الإيراني “حميديان” موافقته على تقديم شخصية رجل في العقد الخامس من العمر وأب لفتاة شابة، وهو في الحقيقة يبلغ 44 عامًا.
الشبة الكبير بين شخصية “جمشيد نجات”، وشخصية “جمشيد آموزجار” المعاصرة له من حيث المظهر والمكياج والسمات الشخصية لم يكن محض الصدفة، بل تعمد مقصود من قبل صُنَّاع العمل.
يعتبر “آموزجار” رجل الاقتصاد ورئيس الوزراء الأسبق في فترة السبعينيات ممثلًا للقوى التكنوقراطية إبان حركة التحديث في إيران، لكنها تهمشت في خضم الحراك السياسي قبل الثورة رغم من توجهاتها الوطنية.


“مهسا حجازي” في دور “شيرين” مفاجأة المسلسل. حجازي ذات وجه ملائكي، هادئ الملامح والجمال يجذب القلب إليه؛ استطاعت أن تجسد مشاعر فتاة رقية نقية السريرة، ساقتها الأقدار إلى نهاية مأساوية لم تكن تتخيلها. حجازي ممثلة شابة بزغ نجمها في فيلم “جنگ جهانی سوم: الحرب العالمية الثالثة” للمخرج “هُوِمن سيدي” عام 2022م، ويعد “تاسيان” ثاني عمل تلفزيوني تقوم ببطولة بعد مسلسل “افعى تهران: الأفعى الطهرانية” للمخرج “سامان مقدم” مع النجم الإيراني اللامع “بيمان معادي” عام 2024م.

المكياج: بطل خلف الكاميرا وأمامها
يعتبر المكياج أحد العناصر المهمة في مسلسل “تاسيان”؛ فقد ساهم في تطوير الشخصيات وتجسيد شخصيات تاريخية بشكل فعال، ونَمَّ عن براعة الماكيير “بابك إسكندري” في استخدام أدوات التجميل. نادرًا ما نجد أعمال درامية إيرانية تقدم مكياجًا مدروسًا وواقعيًا بهذا القدر من الإتقان.
الممثل “بابك حميديان” في شخصية “جمشيد نجات”، مثال واضح على نجاح المكياج في هذا المسلسل، فقد ساهم مكياجه، من حيث إعادة تشكيل الوجه وملامحه البادية أكبر من عمره الحقيقي في خلق جوًا عامًا يتناسب مع الفترة التاريخية وشخصياتها الحقيقية، مما جعل الكثيرون يرون شبهًا كبيرًا بين “نجات” ورئيس الوزراء الأسبق “جمشيد آموزجار” كما أسلفتُ القول.
بالإضافة إلى ذلك، يعد تجسيد شخصيات حقيقية مثل المخرجين “بهرام بيضايي”، و”مسعود کیمیایی” و”عباس كيارستمي” إنجازًا مذهلًا، فقد بدا “بيضايي” في مشهد إلقاء خطبة في إحدى “أمسيات جوته شعرية” شخصيةً فريدةً من نوعها؛ من حيث الهيئة الشكلية والنبرة الصوتية والحركات الجسدية. هذه الدقة في إعادة خلق الشخصيات الحقيقية على الشاشة يتطلب بحثًا عميقًا وتنفيذًا فنيًا محترفًا من قبل الماكيير والممثل والمخرج.

من الأمور الجديرة بالملاحظة أيضًا؛ الاختلاف الواضح بين نمط مكياج الممثلات في مسلسل “تاسيان” مقارنة بالعديد من الأعمال الدرامية المعروضة على التلفزيون الإيراني أو المنصات الرقمية.
على عكس الصورة النمطية الشائعة في أغلب المسلسلات، حيث تظهر وجوه الممثلات مغطاة بمساحيق التجميل الثقيلة حتى في المشاهد المصورة داخل البيوت وسياقات الحياة اليومية العادية، اتبع مسلسل “تاسيان” نهجًا واقعيًا في هذا الصدد باستثناء بعض المناسبات العامة مثل الاحتفالات والتجمعات الرسمية. يتميز مكياج الممثلات بالبساطة والطبيعية والمصداقية كما هو متوقع من الشخصيات الحقيقية في مساحتها الخاصة.
على سبيل المثال، يعتبر مكياج “مهسا حجازي” في دور “شيرين” نموذجًا أنيقًا في فن تجميل الوجه. يتسم مكياج الشخصية في معظم المشاهد ببساطة تتناسب مع مواقف القصة، مما عزز مصداقية الممثلة في نقل المشاعر والأحاسيس المتباينة إلى المشاهدين من خلال إبراز تعابير وجهها بوضوح لا يحجبه مكياج ثقيل.

الهُوية البصرية: عبق السبعينيات الآسر
- الديكور وأماكن التصوير
من أبرز نقاط القوة في مسلسل “تاسيان” وأقواها على الإطلاق هو الديكور الداخلي ودقة تصميمه وحسن اختيار مواقع التصوير الخارجية، حيث يرجع الفضل في هذا الأمر إلى مصمم الديكور المحترف “إيرج رامين فر”.
أغلب مشاهد المسلسل الخارجية صُورِّت في أماكن حقيقية أُنشِئَت إبان العصر البهلوي، وترتبط ارتباطًا وثيقًا به، حيث تأسس أغلبها باقتراح زوجة الشاه الشهبانو “فرح ديبا” ودعمها، مما منح العمل هُويةً بصريًا تتسق مع الحقبة التاريخية.
يأخذنا المسلسل إلى قلب العاصمة الإيرانية “طهران البهلوية”؛ من مدخل “جامعة طهران” الشهير ودرجاته وحرم “كلية الآداب والعلوم الإنسانية” إلى “مركز التنمية الفكرية للأطفال واليافعين”، ومن “متحف الفنون المعاصرة” و”مسرح المدينة” إلى أمسيات الكُتاب والشعراء الإيرانيين المشهورة باسم “أمسيات جوته الشعرية”، ومن مقهى نادري “خاتشيك ماديكيانس” Khachik Madikians إلى مناطقة طهران الراقية. جميع هذه الأماكن أرجعت المشاهد إلى حقبة السبعينيات مع تأصيل تصاميمها.

لكن ما يلفت انتباه المشاهد أكثر هو اختلاف ديكورات بيوت الشخصيات الرئيسية في المسلسل عن الديكورات النمطية الشائعة في الأعمال التاريخية.
في أغلب المسلسلات والأفلام الإيرانية الجاري أحداثها في العصر البهلوي، تُصوَّر بيوت الطبقة الأرستقراطية بديكور ملكي كلاسيكي؛ أثاث مذهب وستائر مخملية سميكة، وثُريَّات بلورية، أما في “تاسيان” فنرى أجواءً مختلفةً تمامًا؛ فيلا “جمشيد نجات” مصممة على الطراز النيوكلاسيكي، تحوي أثاثًا يجمع بين الأناقة والبساطة وألوان الباستيل. للوهلة الأولى قد يبدو هذا الطراز غير واقعي لجمهور معتاد على السرديات البصرية النمطية عن هذا العصر، لكنه في الواقع إعادة تصحيح مفاهيم خاطئة، روَّج لها النظام الإيراني بعد الثورة عن حياة الطبقة الأرستقراطية في العصر البهلوي. البذخ وترف العيش والثراء الفاحش والتبذير فئة قليلة من هذه الطبقة حظيت به، فتعمم على الفئة الكثيرة.

- تصميم الأزياء واختيار الألوان
مثلما أحييت الديكورات ومواقع التصوير أجواء السبعينيات، اتبعت مصممة الأزياء الشابة الموهبة “إلهام مُعين” النهج نفسه في استكمال الصورة.
الفساتين الملفوفة السادة والمزركشة، السترات والتنانير القصيرة، الجمبسوت والسالوبيت، المعاطف الكشميرية، السراويل ذات الأرجل الواسعة، القمصان الكاروه والمنقوشة، الحُلل الرجالية ذات الألوان الزاهية، الأحذية ذات النعل السميك والعنق الطويل، أوشحة الرقبة الملونة، قبعات الرأس المتنوعة (فيدورا، بيريه، دلو)، النظارات الشمسية الكبيرة؛ كلها أزياء ارتداها الممثلون على مدار المسلسل، اتسقت مع الأجواء الزمكانية، وأضفت على الصورة حيوية وجاذبية.
بالإضافة إلى ذلك؛ لقد استخدمت المخرجة “تينا باكرڤان” الأزياء كعنصر سردي في المسلسل؛ فعلى سبيل المثال، غالبًا ما نرى “شيرين” ترتدي ألوان هادئة وزاهية خاصة الأزرق، وهو لون لا يضفي على الصورة جوًا حيويًا وممتعًا فحسب، بل يمثل عنصرًا متكررًا في أحداث القصة، فقد صُممت حُجرة “شيرين” بتدرجات اللون الأزرق. هذا التناغم البصري يؤثر على مشاعر الجمهور تلقائيًا. ثم أن اختيار اللون الأزرق كلون تفضله “شيرين” في بيتها وملابسها وخياراتها الشخصية له صلة مباشرة بسيكولوجية الشخصية، فاللون الأزرق يرادف معاني الهدوء والسلام والصفاء، وكلها صفات تتجلى في شخصية “شيرين”.


نستطيع القول إن المكياج والملابس والديكور الداخلي ومواقع التصوير الخارجية في مسلسل “تاسيان” قدمت لنا صورة تنبض بالحياة الإيرانية خلال حقبة السبعينيات، حيث الحراك الأدبي، والثقافي والتقدم الاجتماعي، والتحرر الفكري والنسوي، في مشهد لا يختلف كثيرًا عن نمط الحياة المصرية خلال الحقبة الزمنية نفسها.
كل هذه العناصر جذبت الإيرانيين إلى متابعة المسلسل بشغف كبير، وأحدثت عندهم نوعًا من “النوستالجيا” إلى ماضٍ لا يزال عالقًا في أذهان المخضرمين منهم، وهم يرون زمنًا يتوقون إليه، لا يُمنع فيه شيء ولا يُحرَّم، يستطيع المواطن أن يمارس فيه أبسط حقوقه في الحياة دون قيد أو شرط؛ يرتدي ما يشاء، ويفعل ما يريد، ويعيش الحب في وضح النهار لا في جُنح الليل، ومن ثم مثَّل المسلسل نقدًا غير مباشر إلى النظام الإيراني الحالي المتشدد في أغلب مناحي الحياة.
الموسيقي التصويرية: الكمان الشاجي
الموسيقى التصويرية هي عتبة أي عمل فني؛ من خلالها يروي صُنَّاع العمل قصتهم، ويُدخِّلون المشاهد إلى عالمهم، لذا قد يتحول تتر الفيلم أو المسلسل إلى عنصرٍ جاذب أو نافر ما لم يُصغ بشكل بحس تشنف له الآذان ويطرب الوجدان وتتراقص على وقعه الأفراح أو تنزف على وقعه الجراح.
وضع الموسيقي الشاب “سُروش اِنتظامي” نجل الموسيقار الكبير “مجيد انتظامي” الموسيقى التصويرية لمسلسل “تاسيان” بحس مرهف وعذب، عبَّر عن حالة الشجوى المهيمنة على أحداث القصة بدقة بالغة. صاغ “انتظامي” موسيقى التتر في جملة موسيقية واحدة يتكرر عزفها مرتين بالتوزيع نفسه؛ المرة الأولى استخدم فيها مجموعة “عائلة الكمان” مجمعة، والمرة الثانية استخدم فيها آلة “الكونترباس” منفردة.
وتر الكمان الحزين له صوت عميق ومؤثر، قادر على التعبير عن فيض واسع من المشاعر الجياشة في نفس الإنسان، حيث يعكس حالات الشوق والحنين والحزن واليأس والألم، وكلها أحاسيس تعصف بوجدان المشاهد عند سماعه موسيقى التتر.

الرموز: السروة والسمكة والبجعة وتاسيان
منذ بدايته؛ يصحبنا مسلسل “تاسيان” إلى رحلة شائقة في تاريخ إيران وأدبها وثقافتها، نطالع فيها رموزًا يكمن فيها مدلولات ظاهرية وأخرى خفية، تدفعنا إلى التفكر بها والتأمل حتى ندرك مغزاها.
عمدت المخرجة “تینا باكرڤان” إلى الاستعانة برموز من الثقافة الإيرانية والأدب الفارسي متوائمة مع مجريات الأحداث، وتعبر عنها في صورة استعارية فلسفية.
- شجرة السرو
“شجرة السرو” أول ما نبصره في المسلسل وآخره. تبدأ الأحداث بمشهد ليلي يظهر فيه “جمشيد نجات” برفقة شقيقته وزوجها وهم يحاولون دفن جثة ملفوفة بملاءة بيضاء في حديقة الفيلا؟! تستيقظ ابنته “شيرين” على صوت جلبة الحديقة، وتظن أنهم ارتكبوا جريمة قتل، لكنها تكتشف أن الجثة هي شجرة سرو، أحضرها أبوها هدية لها بمناسبة عيد ميلادها، حيث يقول نجات لابنته: “لم أكنُ أريد أن تري الشجرة مسطحة على الأرض، فهي تثير الشجن على هذا النحو. كنتُ أريد أن تبصري شجرة آمالكَ حين تفتحين عينيكِ. إن الشجرة المنتصبة جميلة، هيا اُنفخِي في سروتكِ كي تعيشي مئة سنة”.
تنتهي أحداث المسلسل جوار هذه الشجرة أيضًا، حيث ترقد “شيرين” جثة هامدة يجاورها أبوها في حسرة وأسى، كأن الشجرة في بداية المسلسل كانت تجسد مستقبل “شيرين” مثلما ظنتها جثة قتيل.
شجرة “السرو” في الثقافة الإيرانية هي رمز إيران القومي، تُشير إلى الحرية، والخلود، والصمود، والمقاومة، والشموخ، والسمو، يوصف بها رب الأسرة، أو البطل القومي، أو المحبوبة ممشوقة القوام. يتجسد فيها معنى “الوطن الخالد” المتمثل في شخصية “شيرين” الفتاة الجميلة البريئة الحالمة المفعمة بالحياة والأمل، لكنها راحت ضحية حبها، واستلقت جثتها جنب “شجرة السرو” رمز الصمود والخلود الأبدي.

- السمكة الصغيرة السوداء
صمم تتر المسلسل “شهاب نجفي” على شكل فيلم رسوم متحركة قصير، أعد قصته المصورة ونفذها “آرمان عليّ بور”. يبدأ التتر بمجموعة خطوط بيضاء وسوداء تشكل “سمكة صغيرة سوداء” تحاول الولوج إلى بحر مفتوح سرعان ما يتحول إلى شجرة سرو تنشب فيها النار، وتسري إلى جميع أرجاء المعمورة، ثم نجد السمكة الصغيرة نافقة في بركة من الدماء تفضي إلى بحر مفتوح يتبدى في أفقه قمر منير.
هذا الفيلم القصير يروى في عجلٍ وإيجازٍ قصة “السمكة الصغيرة السوداء: ماهی سیاه کوچولو” التي ألفها الكاتب والمترجم والفولكلوري الإيراني ذو الأصول الآذرية والتوجهات اليسارية “صمد بهرنجي” عام 196۷م، وصوَّرها الرسام “فرشيد مثقالي”، وأصدرها “مركز التنمية الفكرية للأطفال واليافعين” عام 1968م.
تعتبر هذه القصة من أحسن القصص في تاريخ أدب الطفل الإيراني المعاصر، فقد نالت شهرةً واسعةً، وحصدت العديد من الجوائز المحلية والعالمية، وتُرجمت إلى عددٍ كبيرٍ من اللغات الأجنبية؛ من بينها العربية والتركية والكُردية والإنجليزية والألمانية. كما اقتبسها الكثير من الشعراء والأدباء والرسامين والسينمائيين الإيرانيين والأجانب في أعمالهم.
تدور أحداث القصة حول رغبة سمكة صغيرة في الرحيل من جدول الماء الضيق والولوج إلى البحر الواسع أملًا في رؤية ضوء القمر مرة أخرى مثلما شاهدته ذات مرة من بيتها خلف الصخرة السوداء.
كانت تريد أن ترى العالم الخارجي والبحر المملوء بالأسرار والمخلوقات الفريدة. ضاقت ذرعًا بالجدول المحدود، وملَّت من حياة روتينية تتكرر كل يوم، لا جديد فيها ولا بارقة أمل تبدو من بعيد.
على الرغم من تحذيرات أمها من أخطار الطريق ومهالكه وهجوم الأسماك العجائز عليها خشيةً من إفساد صغارهن وإمراقهم، تحقق السمكة الصغيرة حلمها، وتدلف من الشلال إلى البحر، وتواجه المجهول وتهديداته بحيلة ودهاء، لكن ينقطع خبرها بعدما يبتلعها طائر مالك الحزين، بيد أنها مزقت أحشاءه بخنجرها!!
في ظاهرها، تدعو القصة إلى تعزيز قدرة الطفل على مواجهة مخاوفه والتغلب عليها، وتحقيق أحلامه مهما بدت عسيرة أو صاحبتها المتاعب والصعاب. أما في باطنها، فهي تحمل مغزىً سياسيًا يدعو إلى التمرد على الواقع الرتيب والتحرر من قيود المجتمع الرجعية، والسعي إلى تحريك المياه الراكدة. يرى العديد من نقاد الأدب أن “السمكة الصغيرة” ترمز إلى جيل الشباب المستنيرين الذين شاركوا في الثورة الإيرانية عام ١٩٧٩م، كما لا يزال يرى الكثيرون في جيل الشباب الحالي الذي يرفض “النظام الثيوقراطي” روح السمكة الصغيرة الحالمة بتغيير الواقع والتحرر من القيود.


تتمثل “السمكة السوداء” في شخصية “أمير” الشاب الفقير الذي تمرد على واقعه المزري وتحرر من قيود أسرته المتدينة، وطمح إلى حياة رغيدة متحررة. من أجل الوصول إلى حبه “شيرين”، فعل كل شيء يمكن تخيله حتى إنه قتل أعز أصدقائه “سعيد”، ثم انتحر في نهاية المطاف بعدما فقد حبيبته.
تتجلى العلاقة بين “شجرة السرو” رمز “الحبيبة والوطن” و”السمكة السوداء” رمز “الحبيب والشاب الثائر” في بوستر المسلسل الذي صممه في براعة مدهشة مصمم الجرافيك “مجيد كاشاني”.
تظهر في البوستر شجرة سرو منتصبة، ويعكس ظلها على الأرض سمكة سوداء نافقة. يجسد البوستر فحوى العلاقة بين “المحبوبة والمحبوب” أو “الوطن وأبنائه”. يضحي المحب بحياته من أجل حماية حبيبته والحفاظ عليها، وهذا أسمى معاني العشق، ويضحى أبناء الوطن الأوفياء بأرواحهم في سبيل شموخ الوطن وعزته، هذا أسمى معاني الفداء.
السروة والسمكة رمزا المسلسل الرئيسين؛ يتكرر ظهورهما في التتر وطيلة أحداث المسلسل بأكثر من مغزى. في التتر يتحول البحر إلى شجرة سرو تشتعل فيها النار وتسري إلى نواحي البلاد كافة، ثم نجد السمكة نافقة في بركة من الدماء. السروة هي إيران، والبحر هو الثورة، والسمكة هي ضحايا الثورة من الثوار.
تصميم البوستر والتتر يتسقان مع الفكرة المطروحة في المسلسل، ألا وهي “العشق”. العشق في صورته الأولية بين شخصين، والعشق في صورته السامية بين الشعب والوطن، لذا تظهر في بداية كل حلقة عبارة: “العشق يعني تخفيف معاناة البشر وسط كل هذه الفوضى والشر”.

- البجعة
حملت آخر حلقات المسلسل اسم “پرواز قوها” أي “طيران البجع”. البجعة في أغلب الثقافات الغربية، ترمز إلى الحب والوفاء، حيث إن زوج البجع يظلان وافيين لبعضهما مدى الحياة، وإذا مات أحد الشريكين لا يقترن الآخر بغيره. هذه الصورة البديعة عبر عنها الشاعر الإيراني “مهدي حميدي الشيرازي” في قصيدة “مرگ قو: موت بجعة”، وجسدها صُنَّاع المسلسل في غنوة حملت عنوان الحلقة الأخيرة، وكانت مسك الختام لها. كتب الأغنية الشاعر الغنائي “حسين غياثي”، ولحنها “عليّ رضا أفكاري”، وتغنى بها “عليّ رضا قرباني”.
المقصود بطيران البجع هو موت “أمير وشيرين”، فبعدما شاهد أمير مصرع شيرين، يقرر التخلص من حياته، مثلما تخلصت البجعة الوحيدة من حياتها في قصيدة “مهدي الشيرازي”، ومثلما يتمنى الراحل الغريب أن يتخلص من غربته وعذابه ويحلق كالبجع حتى يصل إلى أحبابه ويجد السلام في شعر “حسين غياثي”.
- تاسيان: شجوى إيران
أثار اسم المسلسل “تاسيان” جدلًا واسعًا بين الجمهور الإيراني عقب عرض حلقاته الأولى، وتساءل الكثيرون عن معناه، خاصة الأشخاص غير المهتمين بدنيا الشعر والأدب.
“تاسيان” اسم مجموعة شعرية مشهورة للشاعر الإيراني الكبير “هوشنج ابتهاج”، وتعني “الشجا” باللهجة الجيلاكية الشائعة بين أهالي محافظة “جيلان”، وتعبر في مدلولها عن مشاعر الضيق والحزن والأسى التي تنتاب الإنسان أوقات الغروب والرحيل وفقدان الأحباب.
اختيار هذا الاسم من قبل المؤلفة والمخرجة “تينا باكرڤان” كان موفقًا جدًا، فقد لخص قصة المسلسل ومضمونها. نحن أمام “مشجاة” تستدعي الشجون. صراع سياسي، حراك شعبي، طوفان ثوري، تغير من النقيض إلى النقيض، موت ومصير ملطخ بالدماء؛ كلها مشاهد أبطالها شواجن في شجون.

كلمة أخيرة..
على الرغم من كل الجهد الذي بذله صُنَّاع مسلسل “تاسيان” من أجل خروجه على هذه الصورة التي تكاد تصل إلى حد الكمال، لم يخل المسلسل من بعض النقاط السلبية أضعفت من نقاطه القوية.
الحوارات المصطنعة والطويلة بعض الشيء في عدد من المشاهد، أحدث خللًا في أداء الممثلين، وجعلتهم أشبه بمَن يُلقي خطبة حفظها عن ظهر قلب. بدا هذا واضحًا في المشاهد الرومانسية ومشاهد التشويق والإثارة.
بطء الإيقاع في بعض الحلقات أحدث خللًا في تتابع الأحداث، مما أصاب المشاهد بالملل.
الرمزية المفرطة التي عمدت المخرجة “تينا باكرڤان” إلى استخدمها في البوستر والتتر “السروة والسمكة” حمَّلت العمل تأويلات عِدَّة، وأثرت على السرد القصصي، كما أنها لم تجذب شريحة كبيرة من جمهور لا تكترث بتحليل التفاصيل الصغيرة، ولا تعبأ إلا بمتابعة قصة الحب بين “شيرين وأمير”. أعتقدُ أن “باكرڤان” قد لجأت إلى الرمزية تحايلًا منها على الرقابة في سبيل تمرير أفكار معينة تدرك جيدًا أنها ستصل إلى الشريحة المثقفة من الجمهور.
من بين الجماعات السياسية قبل الثورة الإيرانية، لعب الشيوعيون دورًا بارزًا في الجامعة والشارع الإيراني خلال أحداث المسلسل، يليهم الإسلاميون، لكن الدور الشيوعي أمسى سلبيًا في النهاية. حرق المصانع والاحتجاجات العنيفة والاشتباكات الجسدية في فيلا “جمشيد نجات” أُلصقت كلها بالشيوعيين، وجُنب دور الإسلاميين في هذه الأحداث.
والحقيقة أن أغلب الأعمال السينمائية والتلفزيونية الإيرانية سواء المستقلة أو غير المستقلة التي تتناول أحداث ما قبل الثورة، تقع ضحية المبالغات والمغالطات في تصوير هذه السنوات بسبب الاعتبارات السياسية والرقابة المتشددة، حيث تضطر إلى تهميش دور الجماعات اليسارية والليبرالية في الثورة أو إظهارها بصورة سلبية أمام صورة الإسلاميين الإيجابية، فقلما نجد عملًا يتناول أحداث ما قبل الثورة يبرز دور كل تيار سياسي فيها بشكل منصف.
في النهاية نستطيع القول إن مسلسل “تاسيان” واحد من أروع الأعمال الدرامية التي أنتجتها إيران خلال السنوات الأخيرة، من حيث التأليف والإخراج والتمثيل والعناصر الفنية. أفعم قلب المشاهد الإيراني بعبق زمن جميل، وداعب وجدانه بوتر شجي، وأثار في قلبه فيضًا من الحنين إلى عصر مضى لا يزال عالقًا في ذاكرته.
تاسيان؛ قصة عشق يتواشج فيها تاريخ بلاد السرو وأدبها ثقافتها وفنها، يشجو بها الإيرانيون حالهم، وتشجو بها إيران حالها.

خاص وكالة رياليست – د. محمد سيف الدين – دكتوراه في الأدب الشعبي الفارسي، وخبير في التاريخ والأدب الإيراني – مصر