القاهرة – (رياليست عربي): وسط تصفيقٍ حادٍ اِمتدَّ عِدَّة دقائق مفعمًا بمشاعر جياشة من الحبور والفخر ودموع الفرح، هزَّت جدران قاعة “لويس لوميير الكُبرى” Le Grand Auditorium Louis Lumière بقصر المهرجانات والمؤتمرات Le Palais des festivals et des congrès de Cannes، ودفعت الحضور إلى النهوض، أعلنت الممثلة الفرنسية “جولييت بينوش” Juliette Binoche، رئيس لجنة تحكيم المسابقة الرسمية بمهرجان كان السينمائي الدولي في حُلته الـ 78، عن فوز المخرج الإيراني “جعفر بناهي” بجائزة “السعفة الذهبية” عن فيلم “حادثة بسيطة: یک تصادف ساده” كأفضل فيلم.
عقب صعود بناهي إلى خشبة المسرح برفقة صُنَّاع الفيلم، وتسلمه الجائزة من بينوش والممثلة الأسترالية “كيت بلانشيت” Cate Blanchett، ألقى كلمة موجزة خاطب فيها الشعب الإيراني، أثارت حماسة الحضور وعاطفتهم، وأفاضت دموع ممثلتي الفيلم “مريم أفشاري” و”حديث باك باطن”، حيث قال: “نَحُّوا كل الخلافات جانبًا، فإن وحدة بلادنا أمرٌ مهمٌ الآن على أمل أن ننول الحرية بأسرع وقت.. أن نصل إلى محلٍ لا يُملِي فيه أحدٌ علينا ما نرتديه وما لا نرتديه.. ما نفعله وما لا نفعله. إن السينما هي معشوقتنا.. هي ألا يُلقِّننا أحدٌ ما نصنعه وما لا نصنعه”.
هذه هي السعفة الذهبية الثانية في تاريخ السينما الإيرانية بعدما حصل عليها المخرج الراحل “عباس كيارُستَمي” عن فيلم “نكهة الكرز: طعم گیلاس”، مناصفةً مع المخرج الياباني “شوهيه إيمامورا” Shōhei Imamura عن فيلم “الأنقليس” The Eel “خلال الدورة الـ 50 من مهرجان كان عام 1997.
فيلم “حادثة بسيطة” من تأليف وإخراج “جعفر بناهي”، وإنتاجه بالاشتراك مع المنتج الفرنسي “فیلیب مارتن” Philippe Martin، صاحب شركة “أفلام بيلياس” Les Films Pelléas، وبطولة كل من: إبراهيم عزيزي، مجيد بناهي، وحيد مباشري، مريم أفشاري، حديث باك باطن.
تدور أحداث الفيلم حول حادث سير يجمع عددًا من الأشخاص الغرباء، تتشابك مصائرهم من خلال سلسلة من الأحداث المتتابعة الناجمة عن الحادث، تقوم في مجملها على صدف وشكوك هزلية.
الفيلم صُوِّر في إيران دون الحصول على تصريح من الرقابة، أو مراعاة قواعد الحجاب الإجباري الصارمة، لذا أضفى بناهي سريةً تامةً على مراحل إنتاج الفيلم وتصويره، حيث صرحت رئيسة مهرجان كان “إيريس نوبلوك” Iris Knobloch أثناء المؤتمر الصحفي الخاص بالإعلان عن أسماء الأفلام المشاركة في المسابقة الرسمية بأن السيد بناهي طلب عدم الإفصاح عن أية معلومات عن الفيلم أو مضمونه أو أبطاله، والاكتفاء بذكر نُبذة وجيزة عنه فحسب.
كان بناهي قد حضر مراسم عرض “حادثة بسيطة” في المهرجان مساء الثلاثاء 20 مايو، بصحبة زوجته “طاهرة سعيدي” وابنته الممثلة “سولماز”، وأبطال الفيلم وسط استقبال حار من قبل الجمهور والنقاد والسينمائيين الفرنسيين والأجانب. وفقًا لما ذكره بناهي في المؤتمر الصحفي المقام على هامش عرض الفيلم في اليوم التالي، أنه استلهم فكرة الفيلم جراء اعتقاله حوالي 7 أشهر في سجن “إيفين (اِوين)”.
هذه هي المرة الأولى التي يداعب فيها بناهي عدسات المصورين، ويحضر مراسم السجادة الحمراء في مهرجان دولي منذ ما يقرب من 15 سنة.
وكانت السلطات الإيرانية قد ألقت القبض على بناهي وأودعته السجن ومنعته من السفر خارج البلاد طيلة هذه السنوات بسبب دعم مظاهرات “الحركة الخضراء” المنددة بنتائج الانتخابات الرئاسية عام 2009، حيث اندلعت هذه المظاهرات بعدما أعلن المرشح الإصلاحي “مير حسين موسوي” بأن نتائج الانتخابات قد زُوِّرت لصالح مرشح التيار الأصولي “محمود أحمدي نِجَاد (نژاد)”.
“حادثة بسيطة” هي المشاركة الخامسة لبناهي في مهرجان كان بعد أفلام: المنطاد الأبيض “بادکُنک سفيد” عام 1995، الذهب الأحمر “طلاى سُرخ ” عام 2003، هذا ليس فيلمًا “اين فيلم نيست” عام 2011، ثلاثة وجوه “سه رُخ” عام 2018.
كان آخر أعمال بناهي فيلم “لا توجد دببة (خِرس نیست)” عام 2022 الذي شارك في الدورة الـ 79 من “مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي عام 2022، وحصل على جائزة “لجنة التحكيم الخاصة”.
شهد مهرجان كان هذا العام حضورًا طاغيًا من جانب السينما الإيرانية في أقسامه المختلفة، تتوج باقتناص بناهي أكبر جوائز المهرجان، ففي المسابقة الرسمية إلى جانب بناهي، شارك المخرج الشاب “سعيد روستايي” بفيلم “امرأة وطفل: زن و بچه”، وفي مسابقة “الأفلام الغامرة” شارك المخرج الإيراني الكندي “نافيد خانساري (نويد خوانساري)” بفيلم “لي لي”، وفي برنامج “جمعية السينما المستقلة للتوزيع” شاركت المخرجة “سبيدة فارسي” بالفيلم الوثائقي “اِحمل روحكَ على كفكَ، وامضِ” Put Your Soul on Your Hand and Walk، وخارج المنافسات، عُرض في سوق المهرجان الفيلم الوثائقي “الناجون من ممر الهلاك: بازماندگان از راهروی مرگ” بالاسم الفارسي أو “الناجون من كتيبة الإعدام” Survivors of the Death Committee بالاسم الإنجليزي” للمخرج الإيراني السويدي “نيما سارفيستاني (سروستاني)”.
في سينما جعفر بناهي
يعد “جعفر بناهي” واحدًا من كبار المخرجين الإيرانيين المعروفين على النطاق الدولي، نال عن أفلامه العديد من الجوائز العالمية؛ كان من أبرزها جائزة “الكاميرا الذهبية” من مهرجان كان السينمائي الدولي عن فيلم “المنطاد الأبيض” عام ١٩٩٥، جائزة “الأسد الذهبي” من مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي عن فيلم “الدائرة” عام ٢٠٠٠، جائزة “الدب الذهبي” من مهرجان برلين السينمائي الدولي عن فيلم “تاكسي” عام ٢٠١٥، جائزة “أفضل سيناريو” من مهرجان كان عن فيلم “ثلاثة وجوه” عام ٢٠١٨.
تولى بناهي رئاسة لجنة تحكيم العديد من المهرجانات العالمية؛ من بينها مهرجان روتردام السينمائي الدولي بهولندا عام ٢٠٠٨، ومهرجان مونتريال السينمائي الدولي بكندا عام ٢٠٠٩، هذا بالإضافة إلى عضويته في لجان تحكيم عدد من المهرجانات الأخرى.
ولد بناهي في مدينة “ميانة” بمحافظة “أذربيجان الشرقية” عام ١٩٦٠، وبدأ عمله في الحقل السينمائي كمساعد للمخرج الإيراني الراحل “عباس كيارُستَمي”.
تنتمي أفلام جعفر بناهي إلى مدرسة “الواقعية الجديدة” في السينما، حيث يسلط الضوء من خلالها على قضايا المجتمع الإيراني ومشكلاته كالفقر، والبطالة، والظلم والجور، والاضطهاد، والقيود الفردية والجماعية، والفساد الحكومي، مما جعله ينضم إلى قائمة الفنانين المعارضين للنظام الحاكم، ووضع أعماله فوق سِّنان الرقابة الإيرانية تشجّ في جسدها وتحول دون تصويرها أو عرضها داخل البلاد.
على خلفية أعماله التي تنتقد النظام الإيراني، أُلقي القبض على بناهي أكثر من مرة، ومُنع من الظهور الإعلامي والعمل والسفر خارج البلاد لمدة 20 عامًا.
في 11يوليو 2022، قُبض على بناهي وحُبس في سجن “إيفين (اِوین)” بتهمة “الاتصال بالقوى المناهضة للثورة الإسلامية والإخلال بالأمن النفسي للمجتمع”، وذلك بعد أن أصدر ما يقرب من 100 سينمائي إيراني يتزعمهم المخرج الإيراني “محمد رسولوف” –الهارب خارج البلاد حاليًا– في 29 مايو بيانًا بعنوان “ألقِ سلاحك: تفنگت را زمین بگذار” في أعقاب انهيار جزء كبير من برجي “متروبول التوءم” قيد الإنشاء بمدينة عبادان الواقعة بمحافظة خوزستان في 23 مايو، مما أسفر عن وفاة 43 شخصًا وإصابة 37 آخرين واندلاع مظاهرات حاشدة في مدن خوزستان المختلفة وسائر المدن الإيرانية، تطالب بمحاسبة المسؤولين عن انهيار المبنى، وهي مظاهرات قمعتها وحدة “القوات الخاصة” بعنفٍ شديدٍ.
بعد قضاء ما يقرب من 7 أشهر في السجن، انتهت بالإضراب عن الطعام، أفرجت السلطات الإيرانية عن بناهي إفراجًا مؤقتًا بعد دفع كفالة مالية.
ما بين الإفراج المؤقت والاقتياد إلى السجن والمنع من العمل السفر بسبب مناهضة النظام، لم يتوقف بناهي عن صناعة الأفلام داخل إيران، ولم تتوقف أعماله عن التحليق في سماء المهرجانات السينمائية الكُبرى حول العالم.
خاص وكالة رياليست – د. محمد سيف الدين – دكتوراه في الأدب الشعبي الفارسي، وخبير في التاريخ والأدب الإيراني – مصر
