القاهرة – (رياليست عربي): تعد إيران هي الدولة الإسلامية الوحيدة التي نجح فيها التيار الإسلامي في الوصول إلى الحكم والبقاء فيه متربعًا منذ حوالي نصف قرن من الزمان حتى الآن.
التيار الإسلامي في إيران يختلف عن نظائره في العالم العربي وكذلك شرق آسيا، فنحن نتحدث عن تيار إسلامي معتدل غير متطرف، استطاع إقامة دولة مدنية ديمقراطية بمفهومها الحديث شكليًا، تختلف اختلافًا تامًا عن نظام الحكم “الوهابي” في السعودية قبل الانفتاح “السلماني الآل شيخي” أو نظام الحكم “الطالباني الراديكالي” في أفغانستان.
إن نجاح الخُميني في إرساء قواعد نظام “ولاية الفقيه” لم يكن نتاج الثورة الإيرانية عام 1979م فحسب، بل إنه جنى ثمرة كفاح سياسي امتد ما يزيد عن خمسة قرون من عمر إيران.
هذا الأمر يرجع إلى عدة أسباب:
أولًا: دور رجل الدين في المعترك السياسي الإيراني يعود إلى أقدم العصور، وليس عصر الشاه “محمد رضا بهلوي”. لن أتحدث هنا عن “الدولة الثيوقراطية” في إيران قبل الإسلام، ودور الموابدة (رجال الدين الزرادشتيين) الرئيس في حياة الإيرانيين، لكنني سأتحدث عن العصر الصفوي وفرض المذهب الشيعي بحد السيف على يد الشاه “إسماعيل الصفوي” عام 1500م، واصطباغ كل أوجه الحياة بصبغة دينية شيعية صرفة، بداية من أسرة حاكمة تنسب نفسها إلى الإمام السابع لدى الشيعة الاثني عشرية “موسى الكاظم”، نهاية بحكومة وشعب يرتكزان على الأسس الدينية الشيعية في سبل الحكم ونمط الحياة اليومية. أما إذا قفزنا إلى العصر القاجاري، فسنجد أن المراجع الشيعية كانت المحرك الأساسي في محطات الثورة الدستورية المتعددة؛ من أبرزها “ثورة التبغ” عام 1890م و”الاستبداد الصغير” عام 1908م، ولا أحد يستطيع إنكار دورهم في تحريك الأحداث خلال تلك الفترة وانصياع الملوك القاجاريين لمطالبهم.
ثانيًا: عقب محاولة اغتياله الفاشلة على يد “حزب توده الشيوعي” عام 1949م، عمل الشاه “محمد رضا بهلوي” طيلة عهده على القضاء على كل الأحزاب السياسية في إيران؛ من بينها الأحزاب الإسلامية، فأصبح التيار الإسلامي المتمثل في المراجع الشيعية هو التيار الوحيد الباقي في الشارع الإيراني والقيادة الروحية والسياسية للشعب، بعد تفتيت الأحزاب اليسارية والليبرالية والتكنوقراطية.
ثالثًا: النظام الإسلامي في إيران قدم نموذج الدولة المدنية الديمقراطية بمفهومها الحديث شكليًا، بغض النظر عن المضمون وما يحدث على أرض الواقع فعليًا. إننا أمام دولة يُنتخب فيها الرئيس كل أربع سنوات وله الحق في تولي ولايتين متتاليتين على ألا يترشح مرة ثالثة، ويوجد بالدولة أيضًا برلمان منتخب من قبل الشعب يمثل التيارات السياسية المختلفة (الأصولية والإصلاحية والمعتدلة) والأقليات الدينية والعرقية في البلاد.
رابعًا: على الرغم من التشدد والقيود وقمع الحريات وملاحقة المعارضين المستمرة أمنيًا وقضائيًا، استطاع الإيرانيون أن يقدموا ألوانًا مختلفة من الآداب والفنون ويعبروا عن آرائهم المناهضة للنظام بشتى الطرق. لا شك أن هذا الهامش من الحرية لم يؤخذ بالقوة في ظل نظام سلطوي، يرى نفسه خليفة الرسول والأئمة المعصومين، وكل من يناهضه يخرج عن الدين، لكن سُمح به ضمنيًا من قبل النظام كنوع من التنفيس عن بركان قابل للثوران في أية لحظة، وذلك مقارنة بدول أخرى في المنطقة لا تسمح لأحد بالتفوه بكلمة اعتراض.
خامسًا: المرشد الأعلى أو رجال الدين في إيران عمومًا لا يتشدقون بالدين في تافه الأمور وجلّها، ولا يُدخِلون أنفسهم في مجادلات سفسطائية حول قضايا لا طائل منها ولا جدوى مثلما يفعل أغلب المشايخ في الدول الإسلامية، لذا ينظر إليهم العالم اليوم باعتبارهم رجالات سياسية وليسوا فقهاء معممين، يختلفون حول أبسط أمور الشريعة بقيل وقال، ويغرقون الناس بوابل من المتناقضات.
سادسًا: السجالات السياسية داخل أروقة النظام الإيراني والصراعات الدائمة بين التيارين الأصولي والإصلاحي تؤكدان أن هناك حراكًا سياسيًا داخل الحكومة، لكن هذا الحراك رغم الخلافات الموجودة بين قطبيه لا يخرج عن إطار الحكم الديني المُرتضى عليه من قبل الجميع، الأصدقاء والفرقاء.
سابعًا: الشعب الإيراني في مجمله لا يعنيه تغيير نظام الحكم في البلاد، سواء استبداله بنظام علماني خالص أو نظام إسلامي يفصل الدين عن السياسة كأغلب البلدان العربية، لكنه يريد حياة مستقرة اجتماعيًا ترفع الأعباء الاقتصادية عن كاهله. الحرب الإيرانية الإسرائيلية أثبتت للعالم أن الإيرانيين لا يريدون تغيير النظام، وأنهم على دراية كاملة بتداعيات سقوط النظام بالعنف أو القوة مثلما حدث في العراق. التفاف الشعب الإيراني حول النظام كان مفاجأة غير متوقعة لأمريكا وإسرائيل وعدد كبير من دول العالم، كانت تظن أن جبهة المعارضة من المثقفين والفنانين والنشطاء السياسيين داخل إيران وخارجها سوف يسوقون الشعب نحو إسقاط النظام في ظل تصعيد الحرب وتفاقم خسائرها المادية والبشرية، لكن ما حدث كان عكس ذلك تمامًا.
ثامنًا: إن التجربة الإيرانية في الإسلام السياسي هي تجربة فريدة من نوعها، ومن الصعب تكرارها بالصورة نفسها في دولة أخرى. هذا الأمر دفع أغلب مراكز اتخاذ القرار في منطقة الشرق الأوسط، عقب الحرب الإيرانية الإسرائيلية، إلى إعادة استقراء النظام الإيراني وأيديولوجياته وعوامل قيامه واستمراره طيلة هذه السنوات، خاصة في ظل وجود ظهير شعبي كبير في معظم دول المنطقة حاليًا يحابي إيران بعد محاربتها لإسرائيل، عدو الإسلام والمسلمين الأزلي، مما قد يترتب عليه استئناف مساعي جماعات الإسلام السياسي “المؤدلجة بتوجهات داخلية وخارجية” من أجل العودة إلى واجهة المشهد السياسي في دول المنطقة وحشد الشعوب ضد حكامها، بعدما شهدت هذه الجماعات تراجعًا كبيرًا خلال السنوات الماضية.
خاص وكالة رياليست – د. محمد سيف الدين – دكتوراه في الأدب الشعبي الفارسي، وخبير في التاريخ والأدب الإيراني – مصر