يتواصل الحراك السياسي الليبي ضمن زيارات مكوكية إلى دول إقليمية ودولية، بغية تذليل الصعاب وتطبيع العلاقات بعد توقف دام لسنوات جراء الأزمة الليبية التي انتهت بتوافق الأطراف المتقاتلة وتشكيل حكومة انتقالية جديدة تحمل في أجندتها محاولات نقل البلاد نحو استقرار يبدو أنه قد يحصل لكنه طويل الأمد لأن المدة الزمنية لن تعطي المساحة والهامش الكافيين لتحقيق هذه الغاية بالشكل المراد الوصول إليه.
ترسيم الحدود البحرية
إن الخلاف التركي – اليوناني دفع تركيا لتلويحٍ عسكري في وقتٍ سابق ضد أثينا، عندما كان لأنقرة صولات وجولات في عهد حكومة الوفاق بقيادة فائز السراج، لكن الوضع الآن مختلف جداً، خاصة مع الانفتاح الليبي – الأوروبي الجديد وتطبيع العلاقات التي تترجمت بفتح السفارات لبعض الدول الأوروبية مثل اليونان وفرنسا وغيرهما، إلا أن زيارة المسؤولين اليونان والليبيين لبعضهما تؤكد أن هذه الزيارة وبعيداً عن تطبيع العلاقات، تهدف بالمقام الأول إلى تقديم تطمينات ليبية للحكومة اليونانية حيال المشكلة الأهم وهي الخلاف التركي – اليوناني القديم – الجديد، من خلال ترسيم الحدود البحرية في ضوء المستجدات الأخيرة.
حيث أعلن رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس أن ليبيا أظهرت استعداداً للدخول في مفاوضات مباشرة مع اليونان حول ترسيم الحدود البحرية، ونٌقل عن ميتسوتاكيس عقب عودته من طرابلس: (أكد بوضوح “لليبيين” أن المذكرة التركية الليبية غير شرعية وليس لها أي قوة قانونية وهي تنتهك الحقوق السيادية، معيداً إلى أذهان القيادة الليبية أن المجلس الأوروبي يتخذ الموقف ذاته تجاه هذه القضية)، إلا أن ليبيا خالفت التوقعات وأبدت استعدادها لحل هذا الموضوع من خلال ترسيم الحدود البحرية، لأنه في الأساس اليونان من تقع إلى جانب ليبيا وليس تركيا، هذا التصريح لا يخلو من التهديد غير المباشر، لليبيا، وقد يكون لإبداء الاستعداد هذا كسب الأوروبيين للجانب الليبي، لأنه بطبيعة الحال أوروبا قوة لا يُستهان بها ولا يجب التفريط بها مقابل علاقة واحدة جيدة مع تركيا.
إذ يبدو أن اليونان ستستغل الأوضاع المستجدة مع ليبيا لأن تعمل على إلغاء مذكرة التفاهم حول ترسيم الحدود البحرية في البحر المتوسط التي أبرمت بين تركيا وحكومة الوفاق في العام 2019، ويبدو أن اليونان على الاقل مبدئياً حققت في زيارتها الأخيرة للدولة الليبية، ما عجزت عن تحقيقه في ظل حكومة الوفاق السابقة، وهذا أمر يُحسب على الحكومة الجديدة المنفتحة على تذليل الصعاب والعقبات كما أشرنا أعلاه.
الدور التركي الجديد
مما لا شك فيه أن تركيا في ظل استقرار ليبيا هي الخاسر الوحيد لأن المستجدات الأخيرة لم تأتِ بالنفع على أنقرة التي لعبت دوراً سلبياً طوال فترة الأزمة الليبية، ومع الفشل العسكري التركي، لم يبقَ أمامها إلا تكثيف الجهود السياسية لتعديل الأوضاع بما يتفق ومصالحها، لقد فهمت الحكومة التركية تماماً، التفاصيل اليونانية وإلى اتجاه تميل، لكن بموافقة الحكومة الليبية الانتقالية، ليس بمقدورها فعل شيء، في ضوء إحاطة أوروبا بكل تفاصيل الحياة السياسية الليبية في الوقت الحالي، وعلى أنقرة إبداء التعاون لتحصيل مكاسبها وهذا مخططها الحالي بطبيعة الحال.
اليوم يصل رئيس الحكومة الليبية الجديدة عبد الحميد دبيبة إلى تركيا في زيارة لمدة يومين بدعوة من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للمشاركة في الاجتماع الأول للمجلس الاستراتيجي رفيع المستوى بين البلدين، وهذا ظاهر الزيارة التي من ضمن جدولها مناقشة العلاقات التاريخية، ومن غير المعروف ما هو التاريخ المشترك بين البلدين لأن عمر هذا التاريخ هو من عمر الأزمة الليبية وبالتالي، التحليل المنطقي لهذه الزيارة بحث ما دار بين اليونان وليبيا، ولأخذ ضمانات معينة تستطيع من خلالها أنقرة الدخول مجدداً للعمق الليبي لكن من الناحية السياسية والاقتصادية هذه المرة، لأن احتمالية إلغاء مذكرة التفاهم قائمة وبقوة، في ضوء المستجدات الأخيرة، وبالتالي على تركيا اليوم أن تناور بالأوراق الأخرى، وهي محاولة التقرب اقتصادياً وأخذ عقود استثمار طويلة الأجل تستطيع من خلالها الدولة التركية التعويض عن خسارتها من الناحية العسكرية على الرغم من أنها تجري تدريبات حالية للبحرية الليبية، لكن لا بد من القول إن تركيا هي حاجة لليبيا، لأن هناك توافق والتقاء في نقاط كثيرة خاصة من الساسة الليبيين المنتمين إلى تنظيم الإخوان المسلمين.
وبالتالي، تركيا اليوم تستشعر الخطر بكل تأكيد فلقد دعا رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل، في مؤتمر صحافي من تركيا أثناء زيارته مؤخراً لها، إلى “مغادرة كل المقاتلين الأجانب ليبيا”، وهذا مطلب كل المنخرطين في هذا الملف، وهنا مهما كان عمق المصالح الأمريكية – التركية كبيراً في ليبيا، لكن هذا الملف تم طويه إلى غير رجعة.
هنا ليبيا بين نارين، من جهة هي تريد تنفيذ الشروط المتفق عليها، وهي خروج القوات الأجنبية والمرتزقة من الأراضي الليبية، وبذات الوقت تريد تمتين العلاقات مع تركيا كنظام إسلامي من المريح التعامل مع بالنسبة لها، كونها لا تأمن كثيراً للجانب الأوروبي، حيث دعت رجال الأعمال الأتراك والشركات التركية للعودة للاستثمارات مجدداً، ما يعني أن هذه العلاقة لن تنتهي كما يأمل بعض الأطراف الذين يختلفون مع أنقرة في كثير من الملفات.
أخيراً، يبقى الوضع الليبي على ما هو عليه، مستجداته رهن التوافقات الدولية والإقليمية، ظاهرياً كل الدول تقف إلى جانب ليبيا وتقدم كل الدعم اللازم لها، وبالتالي الرهان اليوم على تحقيق مصلحة ليبيا العليا، هذه المصلحة طالما أن هناك طرفاً أجنبياً ولاعبين دوليين وأمميين، الخيارات التي بيد الليبيين قليلة إذا لم نقل أن لا خيار لهم، لأن التصريحات في مجملها، تصريحات متناقضة، الجميع يعلم أن تركيا مارست دوراً سلبياً كبيراً في ليبيا، وقد تكون هي السبب المباشر لزيادة الشرخ بين الأفرقاء الليبيين، وقد تكون هي سبب تأخير استقرار ليبيا، فإن لم يملك الساسة الليبيين قرارهم فهذا يعني أن كل هذا الاستقرار شكلي لن يحقق الغايات المنشودة، مع رجحان عودة الخلافات إلى عهدها، مع موعد الانتخابات المقبلة في 24 ديسمبر/ كانون الأول المقبل.
هذا الموعد، تحتاجه أنقرة، لذلك نجد أن هناك مماطلة في انسحاب المرتزقة والخبراء الأتراك من الأراضي الليبية، حتى موعد الانتخابات، لأن عودة الأمور إلى الفشل، يعني استمرارية الوجود التركي واستمرارية استثمار الملف الليبي، لكن هذا الوضع سينكشف مع اقتراب الموعد المنتظر.
فريق عمل “رياليست”.