بدأ خلال الأيام القليلة الماضية، حراك رسمي ليبي، يتمحور حول الانسحاب الأجنبي من الأراضي الليبية، إلى جانب المرتزقة، جاء هذا الطلب بتوافق دولي، وبخاصة الدول الأوروبية، حتى تكون بنية الانتخابات الليبية في موعدها المرتقب 24 ديسمبر/كانون الأول من العام الجاري “2021”، دون حدوث أي عقبات أو مشاكل.
طلب رسمي
وجّه رئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي طلباً رسمياً للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بسحب المرتزقة السوريين والخبراء العسكريين الأتراك من العاصمة طرابلس، قبل أيام قليلة من الآن، في خطوة متوقعة وليست مفاجئة، خاصة وأن الرئيس التركي اعتقد أن التصريحات الأخيرة للحكومة الليبية التي قالت: (سنحافظ على الاتفاقيات التي أبرمتها حكومة الوفاق مع الجانب التركي، وسنعزز الشراكة مع تركيا)، الطلب اليوم يناقض هذه التصريحات، خاصة وأن هناك تطور لافت وخطير بالنسبة لأنقرة وهو أن ليبيا ستتوقف عن دفع رواتب المرتزقة خلافاً لبنود الاتفاقية العسكرية الموقعة مع حكومة فائز السراج السابقة، فإن أراد أردوغان الاستمرار في مشروعه، عليه أن يجد ممولاً يقوم بدفع رواتب هؤلاء المرتزقة، خاصة وأن أعدادهم كبيرة جداً، ولا يمكن في ضوء هذه الظروف على مستوى العالم، أن يغامر أي طرف بالإقدام على ذلك، باستثناء دولة خليجية وهي حليفة تركيا، لكن في ضوء التطورات السياسية على الساحة الليبية، يبدو أنه أمر مستحيل في الوقت الحالي.
والجدير بالذكر أن تركيا وحكومة السراج كانتا قد وقعتا اتفاقيتين أمنية وبحرية في العام 2019، إلى جانب العديد من الاتفاقيات الاقتصادية، لكن يبدو مع طلب الحكومة الجديدة انسحاب الخبراء الأتراك، أن الاتفاقية الأمنية سيتم نقضها لعدم توافقها والظروف الجديدة، أو على أقل تقدير تعديلها بما يلائم المستجدات الأخيرة، لكن وبتحليل بسيط، هذا الأمر حشر أنقرة في الزاوية، في أكثر من موقف، وبالتالي، أصبحت مجبرة اليوم على الانسحاب والتركيز على الناحية الاقتصادية، من خلال تعزيز حضورها الاقتصادي كبديل عن الحضور العسكري، وتفعيل اتفاقيات قديمة ستعمل على تجديدها، خاصة وأن ليبيا أيضاً تحتاج للتنقيب على الغاز في سواحلها، من أجل الاستفادة من حصة كبيرة من الغاز، إلى جانب شهية أنقرة الكبيرة في مشاريع إعادة الإعمار، وكما نقول دائماً، لا يمكن أن تخرج تركيا صفر اليدين، فإن فشلت عسكرياً، لا بد من تفوقها على الصعيد الاقتصادي، الأمر الذي سيخلق مشاكل مستقبلية لأن مسألة الاقتصاد مسألة مصلحة تعود لكل دولة على حدى، ما يعني أن أنقرة ستصطدم مع القوى الأخرى وفي مقدمتها فرنسا، التي تحاول دعم تواجدها وحضورها في ليبيا، ولعل أول الغيث إعادة فتح سفارتها مؤخراً، لنكون أمام حربٍ اقتصادية جديدة لا تشبه الواقع العسكري الذي عاشته ليبيا خلال عشر سنوات من عمر الأزمة الليبية.
اتحاد في المواقف
خلال زيارة وزير الخارجية الألماني هايكو ماس ونظيريه الفرنسي جان إيف لودريان والإيطالي لويجي دي مايو طرابلس، الأخيرة، طالبوا بموقف وحدهم جميعاً، بالانسحاب الفوري للمرتزقة من ليبيا، كما كان موقف وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش متحداً مع نظرائها الأوروبيين الثلاثة حيث صرحت: “نجدد التأكيد على ضرورة خروج جميع المرتزقة من ليبيا وعلى الفور”، والنداء نفسه وجهه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، خلال استقباله المنفي، وأيضاً خلال مكالمة هاتفية من نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤخراً.
هذه المواقف مجتمعة، كما أشرنا أعلاه، وضعت تركيا في موقف لا تُحسد عليه، من جهة أنها دائمة التصريح حول أنها مع ما يقرره الشعب الليبي، ومع وحدة ليبيا واستقرارها، تماماً كما تفعل في سوريا، لكن الفرق اليوم، أنها استفادت من سوريا بسبب وجود دول كثيرة لا تزال تريد إسقاطها ولو بالقوة، في حين أن الحالة الليبية هي العكس تماماً، الحضور اليوم أصبح عبئاً على الليبيين، والحليف الأبرز لأردوغان لم يعد موجوداً، وبالتالي، الساسة الجدد، وبكل صراحة يفتقرون للخبرة السياسية اللازمة لمقارعة الدول الكبيرة، حتى وإن كان دم الشباب يسري في عروقهم، لكن لا يستطيعون الخروج عما يريده الشعب الليبي، وتحقيق ما يريده هذا الشعب، هو استمرارية هذه الحكومة والبراعة بتأدية واجباتها ونقل البلاد على الأقل حتى مرحلة الانتخابات في ديسمبر/ كانون الأول المقبل، ما يعني أن أنقرة فقدت تقريباً كل فرصها، خاصة حلمها بالسيطرة على سرت والجفرة، ولم يعد أمامها سوى القبول بالاتفاقيات الاقتصادية والتي من المتوقع أيضاً ألا تكون على المزاج التركي، لتعدد الأطراف التي تريد تقاسم الكعكة الليبية هي أيضاً.
الحرب لم تنتهِ
يرى الكثير من المحللين والباحثين في الشأن الليبي، أن التطورات الأخيرة المتسارعة قد وحدت البلاد بما نسبته 80% بحسب ما قاله رئيس الحكومة الانتقالية، عبد الحميد الدبيبة، لكن إن صحت هذه النسبة يبدو أنها ستصطدم بأول العوائق وهي إنهاء المظاهر المسلحة وحل الميليشيات بعيداً عن ترحيل المرتزقة الأجانب، إذ لا تزال مناطق كثيرة ترزح تحت نير هذه الميليشيات، وتتحكم بمناطق عدة، وهي مختلفة الانتماءات، ما يعني أن هذه الوحدة شكلية والنسبة المطروحة هي نسبة وهمية في هذا التوقيت، إذ ينبغي البت بتعيين وزير للدفاع، وبحث مسألة الجيش الليبي الموحد، فمثلاً، لا يمكن للمشير خليفة حفتر أن يضحي أو يحسر قيادته للجيش الذي حقق نقلة نوعية في الصراع الليبي، ومن جهة ثانية ربما قبوله هذه المصالحة، جاء بضغط عليه، خاصة الأمريكي، لأن سلاح واشنطن المعتاد هو العقوبات وليس مستبعداً أن تكون قد جهزت ملفات كثيرة تستخدمها حين اللزوم مثل اتهام المشير بارتكاب جرائم حرب وما شابه ذلك.
إذ من الممكن أن يستمر صراع العسكريين على المناصب الرئيسية في وزارة الدفاع، وقد يؤدي إلى انهيار الاتفاق، كما سبق وأن حدث في مراتٍ سابقة، هذه النتائج جاءت بتدخل أممي وغربي، ولم تكن عن قناعة ليبية خالصة، ليكون المشهد ضبابياً، لكن فُرص إشعاله كبيرة، ما يعني أن الاستقرار لم يحصل بعد.
أخيراً، إن التطورات المتسارعة في ليبيا، كما أشرنا أعلاه، لا تعني أن الأوضاع تتجه نجو الاستقرار، رغم اتسامها بالهدوء إلى حدٍّ ما، لكن اللافت فيها هو غياب الطرف الروسي عن جميع التطورات الأخيرة، وخاصة أنه لاعب أساسي ومحوري في التوسط بين الجانبين المتقاتلين قبيل الاتفاقات الأخيرة، لكن هذا الغياب، ليس عبثياً، لربما تنتظر موسكو فرصتها الأهم للتدخل، بعد أن يكون الطلب ليبي، كما أنها حفظت ماء وجهها كدولة قوية وتحترم نفسها على عكس التركي، الذي يتعرض للطرد في أكثر من بقعة جغرافية، بصرف النظر عن أطماعه التوسعية، إلا أن الأمور وهدوئها الحالي لا يطمئن، لأن الطريق لا يزال طويلاً، ولا يزال الخوف من نسف الاتفاقات هو سيد الموقف في الفترة الحالية على الأقل.
فريق عمل “رياليست”.