بروكسل – (رياليست عربي): غالباً ما يتم حصر السياسة التركية الخارجية في البُعد المرتبط بالمشروع السياسي التوسعي التركي الذي يُطلق عليه عبارة “العثمانية الجديدة” بحكم استهدافه البلدان العربية والمناطق التي احتلتها الإمبراطورية العثمانية بمراحل مختلفة. والحقيقة أن ما كان يراد له أن يحل محل الدولة العثمانية بعد سقوطها هو مشروع تركي وحدوي – توسعي يهدف بالدرجة الأولى إلى توحيد الشعوب التركية التي تربطها أصول لغوية وإثنية مشتركة.
وقد ظهر هذا المشروع في الحقبة الأخيرة للدولة العثمانية وصعد في ظل طرح ديني – إصلاحي تزعمه تيار عُرف بـ “الجديدية – jadidsm”. وكان روّاد هذا التيار يروجون لأفكار دينية تحديثية مرافقة لتوجه قومي تركي يتطلع إلى وحدة الشعوب الناطقة باللغات التركية المنتشرة بالفضاء الأوراسي الشاسع، أي من تركستان الشرقية بالصين إلى منطقة غاغاوزيا بمولدافيا شرق أوروبا.
ويُعتبر إسماعيل غسبرينسكي أحد أهم وجوه هذه الحركة بالإمبراطورية الروسية نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، إذ ركّز في أدبياته على فكرة إنشاء لغة تركية معيارية قابلة لدفع وحدة الشعوب التركية إلى الأمام. أما على المستوى الديني فكان من بين مؤسسي “اتفاق المسلمين”، وهي هيئة سياسية تشكلت بغرض تعزيز الرابط الديني والقومي لدى أتراك روسيا من ناحية والترويج لخطاب حداثوي لخدمة المشروع الطوراني من ناحية أخرى. وقد أصبحت الحداثة بمفهومها الليبرالي والطرح القومي الطوراني أحد أهم مرتكزات تيار “الجديدية” الذي انتشرت مبادئه بأوساط النخبة التركية بالدولة العثمانية بعد قدوم بعض المثقفين التتار والأذريين الحاملين لهذا الفكر من منطقة القرم وغيرها من المناطق الروسية.
ومن بين الأسماء اللامعة التي تركت بصمتها في اليقظة القومية التركية بالأناضول المثقف الأذري “علي حسيني زاده”، الذي يُعتبر أول داعية للفكر الطوراني بتركيا العثمانية، وكان من الأوائل الذين أقحموا هنغاريا ضمن العالم الطوراني بحكم انتماء الكثير من الهنغاريين إلى الأصول الألتائية كباقي الشعوب التركية. وبالإضافة إلى علي حسيني زاده، يمكن الإشارة إلى شخصية بارزة من شبه جزيرة القرم وهو كافر سيد أحمد كريمر، الذي تولى منصب وزير الحرب بأول جمهورية تركية بالتاريخ، وهي “جمهورية القرم الشعبية” المُعلن على قيامها أواخر سنة 1917، غير أن وجودها لم يدوم طويلاً حيث سقطت بعد شهر إثر سيطرة قوات الثورة البلشفية عليها. وبعد تلك التجربة، استقر في تركيا وعاصر قيام الجمهورية التركية، واعتبرها قفزة نوعية نحو تحقيق الوحدة السياسية والثقافية بالعالم التركي.
وينبغي في هذا السياق المرور بإيجاز على إشكالية المسألة الثقافية بالعالم التركي الناتجة عن غياب لغة معيارية مشتركة. ففي آسيا الوسطى تطورت “اللغة الجغتائية” كلغة معيارية في المجال الأدبي وأصبحت لغة معتمدة بسلطنة مغول الهند، وهي إمبراطورية إسلامية أسسها ظهير الدين بابر، واستمرت من القرن السادس عشر وحتى التاسع عشر. وقد أدى هذا الإطار السياسي والثقافي إلى حالة مغايرة إلى حد ما عن التطور اللغوي والثقافي بالدولة العثمانية التي نهضت فيها اللغة العثمانية المتأثرة بشكل قوي بالعربية والفارسية، ناهيك عن تأثر الثقافة التركية بالأناضول والبلقان بالقيّم والعادات العربية المشرقية. لذا، ستبقى المسألة الثقافية واللغوية من أبرز التحديات والعراقيل لدفع المشروع الطوراني نحو المزيد من الاندماج السياسي والتجانس الثقافي.
وبالعودة إلى الفكر القومي التركي بالأناضول، يعد اسم المفكر القومي التركي ضياء غوكالب من بين الأسماء الكبيرة والمعروفة بنهلها من الأفكار “الجديدية” لبلورة الفكرة القومية في ظل المرحلة التأسيسية للجمهورية التركية. وعلى غرار غسبرينسكي، كان غوكالب يدعو بدوره إلى ضرورة توحيد اللغات التركية دون تطهيرها من التأثيرات العربية والفارسية، وكان ينظر إلى الإسلام بالصيغة التركية وإلى الحداثة الغربية كعناصر داعمة للهوية القومية التركية، أي أنه اعتبر الحلقة القومية هي التعبير الأسمى للهوية التركية. ومن الواضح أن هذه المنطلقات هي التي جعلت من غوكالب مؤيدا للشوفينية الأتاتوركية بعدما نالت السياسة المناوئة للهوية العربية استحسانه مع إقرار رفع الأذان باللغة التركية بدلاً من العربية.
وبعد قيام الجمهورية التركية وإلغاء الخلافة العثمانية، لم تتحول كل هذه الأفكار الطورانية إلى سياسة استراتيجية، بل أخذت بعدا تركيا أناضوليا، بعدما عرف المشروع الطوراني تراجعاً سياسياً بحكم “الواقعية السياسية” التي اتصفت بها فترة أتاتورك نتيجة لقيام الاتحاد السوفيتي ما أدى إلى كبح جماح النزعة الطورانية. ورغم ذلك استمر الطرح الطوراني في الهيمنة على المستوى الإيديولوجي والسياسي بتركيا، وظهرت في لحظة معينة تيارات طورانية متطرفة نشطت عبر الدول التركية تزعمتها شخصيات مثل ألب أرسلان توركيش وحسين نيهال أتسز وأسست تنظيمات سياسية كـ”حزب الحركة القومية” ومجموعة “الذئاب الرمادية” التي ارتكبت جرائم عنصرية في حق الأقليات داخل تركيا، كما أن هذه المجموعات وُظفت في حروب إقليمية كما في الشيشان وأذربيجان.
وقبل العروج على البعد السياسي لـ”مجلس التعاون للدول الناطقة بالتركية”، لابد من تسليط الضوء على الهوية الجغرافية لهذا المشروع. فبالنسبة للموقع الجغرافي، تُعتبر أسيا الوسطى منطقة مفصلية لدى القوى الكبرى بحكم موقعها الحساس والاستراتيجي، إذ تضم عمودياً المنطقة الممتدة من سيبيريا حتى الهيمالايا، وأفقياً تمدد من خط أورال – قزوين إلى حدود غرب منغوليا وشمال غرب الصين. وتعد هذه المنطقة من المناطق الحبيسة نتيجة بعدها عن المحيطات، ما جعلها تتميز بصفات برية محضة. وقد كانت من الفضاءات التي ملأتها الإمبراطوريات الأوراسية خلال توسعها ومن بينها إمبراطوريتي جنكيز خان وتيمور لنك. وما يزيد من أهمية وقيمة هذه المنطقة من منظور جغرافي هو موقعها المركزي داخل القارة الآسيوية، بل تطابق موقعها الجغرافي إلى حد بعيد مع مفهوم “قلب العالم” للجغرافي البريطاني ماكيندر، الذي لخص جوهر هذا المفهوم على النحو التالي: من يحكم أوروبا الشرقية يحكم قلب الأرض، ومن يحكم قلب العالم يحكم الجزيرة العالمية ومن يحكم الجزيرة العالمية يحكم العالم. ومن المعروف أن هذه النظرة للعالم تعكس البنية الهندسية للاستعمار البريطاني، التي تطورت في القرن التاسع عشر في خضم تجربة التنافس الحاد بين روسيا وبريطانيا في سياق ما عُرف باللعبة الكبرى.
وعلى الصعيد الهوياتي، فقد اتسمت هذه المنطقة بعد انتشار الإسلام فيها بهوية مزدوجة أو ما يعرف بـ “الثقافة التركية الفارسية” التي ظهرت بخرسان و بلاد ما وراء النهر، حيث هيمنت هذه الثقافة المزدوجة في عهد السامانيين والغزنويين والقراخانيين والخوارزميين، أي بعد بدء انكماش دور الدولة العباسية نتيجة لاستجلابها المرتزقة الأتراك الذين تمكنوا من السيطرة على جهاز الدولة. وما يجب الانتباه له في هذا المضمار هو أنّ معظم السلالات التي تولت حكم الدول التركية – الفارسية كانت تنتمي إلى العنصر البشري ذي الأصل الطوراني، حيث تعتبر الدولة السلجوقية والعثمانية من أكثر الدول الطورانية توسعا صوب غرب آسيا وشرق أوروبا.
أما جيوسياسياً، فليس من باب المصادفة أن ينتعش هذا المشروع من جديد بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وظهور فراغ جيوسياسي بآسيا الوسطى. حيث أدى هذا الفراغ الى وجود هوامش تتيح الفرصة أمام القوى الإقليمية لرسم سياسات جديدة إزاء هذه المنطقة بناء على مصالحها الأوروآسيوية. ويُلاحظ مؤخراً اندفاع المسعى التركي التوسعي نحو اتخاذ خطوات تعزز الارتباطات القومية بين الشعوب التركية، ويعتبر تأسيس “المنظمة الدولية للثقافة التركية” Turksoy أول خطوة ملموسة في هذا الاتجاه كنتيجة لمبادرات الرئيس التركي الأسبق تورغوت أوزال الذي دعا للانفتاح على دول آسيا الوسطى على أسس قومية طورانية. ويعود تاريخ هذه المنظمة إلى لقاءات باكو وإسطنبول سنة 1992، حيث أعلن وزراء الثقافة في كل من أذربيجان وكازخستان وقيرغيزستان وأوزبكستان وتركيا وتركمنستان ضرورة إقامة إطارٍ ثقافيٍ مشتركٍ للشعوب التركية، وكان ذلك قبل ظهور هذه المنظمة إلى العلن في مدينة ألماطاي الكزخية سنة 1993. وقد أصبحت “المنظمة الدولية للثقافة التركية” فيما بعد ركناً أساسياً لمشروع جيوسياسي وقومي ضخم يتمثل في “مجلس التعاون للدول الناطقة باللغة التركية” (المجلس التركي) الذي تأسس سنة 2009 ليجمع تحت مظلته كلاً من أذربيجان وتركيا وكازخستان وقيرغيزستان. وكان الرئيس الكزخي الأسبق المعروف بتوجهه الطوراني نور سلطان نزار باييف من أهم الداعين لتشكيل المجلس الموحد للدول الناطقة بالتركية، وقد راح هذا المجلس يتمدد إلى دول شرق ووسط أوروبا مثل هنغاريا وأوكرانيا بناء على روابط ثقافية وإثنية.
ويستدعي السياق السياسي لتلك الفترة الوقوف عند مغزى ظهور “المجلس التركي”، حيث لا يمكن الفصل بين ظهوره وبروز مجموعة “البريكس”، ناهيك عن تطوره بقدر تطوّر السياسة الجريئة لروسيا في محيطها الإقليمي وانبثاق المشروع الصيني “حزام واحد – طريق واحد” الذي أصبح يتصدر المعادلة الإقليمية والدولية. وتندرج هذه الديناميكية في إطار ما أفرزه التراجع النسبي لمنظومة “القطب الواحد” ما منح الفرصة لأممٍ عديدة أن تبسط نفوذها على مناطق أو أقاليم تعتبرها مجالاً حيوياً لها على الصعيد الجيو – اقتصادي أو تعتبرها أراضٍ مسلوبة أو مقتطعة من منظور قومي. فقد باتت تشكل هذه المناطق الحيوية موطئ قدم للتوسع القومي والاستراتيجي لتلك الدول، وتمثل حالات الضم التي حصلت بشبه جزيرة القرم ومرتفعات قره باغ ومحاولات الصين السيطرة على عدد من الجزر ببحر الصين الجنوبي مجموعة نماذج آنية للتحولات التي تجري من هذا القبيل.
وبخصوص ما يحوم بالأفق الاستراتيجي “للمجلس التركي”، فإن معرفة المسار الجيو – سياسي على المدى القريب والمتوسط يقتضي الوقوف عند نتائج الانتصار الساحق للتحالف التركي – الأذري بحرب قره باغ. ففي موسكو مثلاً يتنامى الخوف من فكرة “المشروع الطوراني” الذي ينتشر بسرعة ليس فقط عبر جنوب القوقاز وآسيا الوسطى، بل يكتسب شعبية واسعة أيضاً بأجزاء مختلفة من روسيا التي تعرف حضور واسع للقوميات التركية. ويزداد القلق لدى صناع القرار في روسيا بعدما صعدت أنقرة نشاطها في مجالات التعاون العسكري والتقني مع دول من حجم أوزبكستان وقيرغيزستان. وقد أدى ذلك إلى تنامي المشاعر الطورانية وتقوية اللوبي المؤيد لتركيا بين النخب السياسية بدول آسيا الوسطى عموماً. وتحاول تركيا الاستفادة من هذا الاندفاع نحوها، خصوصاً بعد حرب قره باغ من أجل تعزيز مصالحها التجارية والاقتصادية بالممر الرابط بين منطقتي البحر الأسود وبحر قزوين، أي عبر “طريق النقل الدولي العابر لقزوين” (Trans-Caspian International Transport Route) الذي يضع تركيا في الواقع على قدم المساواة مع الصين في التحكم بممر “الصّين – آسيا الوسطى – غرب آسيا”، في حين أن هذا الأمر قد يؤدي إلى إضعاف النقل التجاري الروسي بالمنطقة المتمثل في “سكة الحديد العابرة لسيبيريا” (The Trans–Siberian Railway).
أما بالنسبة لملف الأيغور، فبات القلق واضحاً لدى الصين بسبب احتمالية تبني “المجلس التركي” لهذا الملف في أي وقت يبدو مناسباً للضغط على الصين، رغم أن ما يربط الصين بكثير من دول آسيا الوسطى متين ومبني على مصالح حيوية مشتركة. وقد صرح الخبير في دراسات آسيا الوسطى بالأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية (CASS) تشانغ نينغ لـ South China Morning Post أن الدول التركية حريصة على تعزيز التعاون الاقتصادي مع الصين في مجالات الطاقة والنقل وصناديق الاستثمار، علماً أن الصين أكبر شريك تجاري لكازخستان وثاني أكبر شريك تجاري لأوزبكستان وقيرغيزستان. ومن جهته عبر “المجلس التركي” في الآونة الأخيرة عن طموحه الاستراتيجي بإصدار وثيقة “رؤية 2040” التي تهدف حسب الأمين العام للمجلس بغداد أمرييف إلى بلورة خارطة طريق حتى عام 2040. وقد أكّد أمرييف في تصريح أدلى به في شهر مارس/آذار المنصرم لوكالة الأناضول على نيّة المجلس إنشاء الولايات التركية المتحدة على المدى الطويل. وعلى نفس المنوال أدلى الرئيس التركي أردوغان بموقف مماثل في الذكرى السنوية لتأسيس المجلس، حيث دعا إلى مواصلة العمل من أجل تحقيق الوحدة بين جميع الدول الأعضاء. وتحتوي رؤية 2040 في خطوطها العريضة على الرغبة في تنسيق السياسة الخارجية والتعاون الأمني بالإضافة إلى فتح المجال أمام التبادل الاقتصادي الحر وتطوير اللغة التركية وتوحيد الأبجدية تحت إشراف الأكاديمية التركية الدولية.
إن المشروع القومي التركي التوسعي أصبح تحدياً استراتيجياً للكثير من الأمم التي تحتك به بشكل مباشر كروسيا والصين. أما عربياً، فيلاحظ توغل تركي ميداني منذ اندلاع أحداث “الربيع العربي” عبر توظيف الأقليات التركية كالأقلية الكراغلية والتركمانية بالساحة الليبية والسورية. وتواجه إيران بدورها نفس التهديد بعد حسم معركة قره باغ نتيجة لوجود ميول انفصالي بالمنطقة الواقعة شمال غرب إيران التي تقطنها أغلبية من أصول أذرية – تركية. لذلك يمكن استشراف أن تكون العقود المقبلة حاسمة بأوراسيا ما سيشهد دون شك تنافساً حاداً بين الأمم الآسيوية الساعية للقيادة والريادة في عالم متعدد الأقطاب.
خاص وكالة “رياليست” – الأستاذ إبراهيم حرشاوي – محلل سياسي.
المصادر:
أحمد داود أغلو، العمق الإستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية، الدار العربية للعلوم ناشرون بيروت،2011.
Adeeb Khalid,The politics of muslim cultural reform:jadidism in Central Asia,university of California press,California,1998.
Umut Uzer,An intellectual history of Turkish nationalism:between Turkish ethnicity and islamic identity,the university of Utah press,Utah,2016.
https://www.aa.com.tr/en/world/turkic-council-eyes-forming-united-states-of-turkic-world/2192579
https://www.aa.com.tr/en/asia-pacific/-turkic-languages-unite-nations-across-3-continents-/2156351
https://aze.media/xinjiang-issues-not-on-the-agenda-of-turkic-councils-online-summit/
https://www.ng.ru/cis/2021-03-25/5_8112_asia.html
https://www.scmp.com/news/china/diplomacy/article/3104574/china-calls-bordering-kyrgyzstan-resolve-election-turmoil-and