إن الصراعات المنتشرة حول العالم في العصر “الحديث”، تبين كم الجهل والتخلف الذي تعاني منه الشعوب حول العالم، صراعات قوامها المصلحة والـ “أنا”، وأطماع عابرة للقارات، تهدد كيانات بشرية، جل همها العيش بأمانٍ وسلام.
صراع متجدد
لا شك أن الكثير كتب عن الصراع بين أذربيجان وأرمينيا، الصراع القديم – الجديد، يخفت تارةً ويشتعل تارةً أخرى، لكن لننظر إلى الموقع الجغرافي لإقليم ناغورني كاراباخ وأهميته كجسر عبور نحو آسيا الوسطى، أي نحو إيران والصين والإقتراب كثيراً من حديقة روسيا الخلفية، اللافت في هذا الصراع أن تكون بعض الدول مطية لتنفيذ أجندات غربية، فعلى الرغم من أن لدى تركيا كل الحق في أن تتمدد وتتوسع وتبني تحالفاتها الخاصة لكن ليس على حساب أمان الشعوب المجاورة، ففي الأزمة الحالية عليها التريث والتفكير مليّاً إلى أين سيأخذها ذلك، ومن سيستفيد من جراء تدخلها هذا؟!
لكن لننظر جيداً، إن المستفيد الأول والأخير من هذا الصراع هي الولايات المتحدة الأمريكية ومعها “إسرائيل”، وبالتالي عند إشتعال أي منطقة ودون محاولة دولية حقيقية من إطفاء النيران، هذا يضعنا أمام إحتمالات كثيرة، بحالة واشنطن وتل أبيب هما يريدان التمدد إلى آسيا الوسطى، وبنفس الوقت الإقتراب من الحدود الإيرانية، ما يعني أن الأمن القومي الإيراني في هذه الحالة بات مهدداً، إن لم تتم التهدئة، وهذه التهدئة تعمل روسيا مع الأمم المتحدة لإنهائها، رغم أن لموسكو قاعدة عسكرية في أرمينيا، وقوات روسية أيضاً، لكنها لم تتدخل حتى الآن سوى بالطرق الدبلوماسية.
هدف إستراتيجي
ليس سراً بأن لأذربيجان علاقات كثيرة وواسعة مع “إسرائيل”، ودخول الأخيرة من هذه البوابة يعني أن الصراع ليس على الأحقية في الٌإقليم بقدر ما هي مد نفوذ لكل الأطراف المتدخلة في هذه الأزمة، مع الإشارة إلى نقطة هامة جداً في أن تلك البلاد أي بلاد القوقاز غنية جداً بالطاقة، لكن ربطاً مع ما يحدث في بيلاروسيا وتجدد الملف الأوكراني والأزمة الحالية بين باكو ويريفان، تشير المعطيات لنا أن نوجه الأصابع نحو الولايات المتحدة.
فلم يكن الاهتمام بأفغانستان عبثاً سواء من الإتحاد السوفيتي السابق أم من روسيا حالياً لضمان الأمن القومي لتلك البقعة الجغرافية، وبالطبع مآرب الولايات المتحدة موجودة ولم تعد مخفية على أحد، فنجد اليوم أن واشنطن مهتمة بكل الدول المجاورة لروسيا، وتولي بولندا إهتماماً خاصاً فهي دولة على حدود بيلاروسيا، وبالتالي تستطيع التخطيط والتنفيذ من مسافة قريبة، كل ذلك أصبح مكشوفاً، أن العين على قضم كل المناطق، الأمر الذي كان الإتحاد الأوروبي يوليه إهتماماً خاصاً لجهة أن أوروبا كانت تعتمد على الغاز الروسي وحتى الأذربيجاني مستقبلاً لتخفف من التحكم الطاقوي الأمريكي بها، ولتعيد بعضاً من القرار الخاص بها كي لا تكون مسلوبة القرار، فلقد أفقدتها واشنطن الهيبة أمام شعوبها.
ماذا تريد أنقرة؟
إن تحالف أي بلدين يستوجب الإنخراط بالمساعدة للبلد المحتاج سلماً أو حرباً، وبالطبع تبحث تركيا عن فائدة خاصة بها، نظراً للملفات الداخلية التي تحيط بها، في هذا الملف، تريد أنقرة الإستثمار في هذه الأزمة لتعويضٍ ما يتعلق بها داخلياً، لكنها إن كانت تعلم أو لا، بهذا الوضع القائم هي تقدم خدمة للولايات المتحدة و”إسرائيل” معاً، وبالتالي تلحق الضرر بنفسها قبل أن تلحقه بأذربيجان، فرغم غنى الأخيرة بموارد الطاقة، لكنها دولة صغيرة لأن تدخل في صراع قوى عظمى، وهنا لا بد من تبيان أن لأرمينيا حلفاء أيضاً، وعند الخطر سيتدخلون وفي مقدمتهم روسيا، فهل تريد تركيا التضحية بتحالفاتها الأخرى، وهي التي لديها مشكلة الإبادة الأرمينية التي من المتوقع أن يستخدمها الغرب مجدداً لمعاقبة تركيا في مسألة الخلاف مع اليونان حول التنقيب شرق المتوسط، هذا أمر وارد وليس بعيد.
وهنا لابد من ذكر لمحة مبسطة عن تاريخ أذربيجان وفهم طبيعة التحالف التركي – الأذري الحالي، لفهم ماهية هذه الأزمة وربطها بالصراع الجيو _ سياسي القائم في تلك المنطقة، “لقد إستقلت أذربيجان في 28 مايو/ أيار العام 2018 وباتت أول دولة ديمقراطية في الشرق المسلم، وبدأت الحكومة الأذرية أنشطتها لتأسيس علاقات مع الدول المجاورة، وكانت الدولة العثمانية قديماً أول المعترفين باستقلال أذربيجان، ووقعا في 4 يونيو/ حزيران 1918 اتفاقية أرسلت بموجبها الدولة العثمانية جيشا إلى أذربيجان لدعمها حمل اسم “جيش القوقاز الإسلامي” تمكن من تحرير باكو في 15 أيلول من العام ذاته”. حيث استقلت عن الإتحاد السوفيتي في 28 أبريل/ نيسان 1920.
فبعد أن إنحسرت الصراعات لعقد من الزمن في المنطقة العربية، توسعت الرقعة لتشمل بلاد لم نكن لنتوقع أن يتطور الصراع فيها لدرجة حرب عسكرية مفتوحة لا هجمات متفرقة هنا أو هناك كالحالتين السورية والعراقية، التي إقتصرت على معارك محدودة تتوقف وتعود، بعكس الصراع الأذري – الأرميني اليوم.
من هنا، هذا الملف يحتاج إلى التهدئة من القوى الكبرى، مهما تطلب الأمر، لأن تلك القوى وبطبيعة الحال لن تسمح بالمساس بمصالحها وطرق تجارتها الدولية وتحالفاتها لتمرير أجندات البيت الأبيض، فالكل معني بالتهدئة، ولا بد منها، أو أن الأمور ستخرج عن السيطرة، فلم يعد بمقدور الشعوب تحمل كلف الحروب الباهظة والتي فيها الإنسان، الخاسر الأكبر.
خاص وكالة “رياليست” – د. عبد العزيز بدر القطان – مستشار ومفكر – الكويت.