“استعدوا يا جنود وليأخذ كل منكم أهبته ويعد سلاحه…اعكفوا على إعداد الدواء في صيدليتكم، ولتقم على إعطائه فرقة الإنقاذ منكم، فإذا الأمة أبت، فأوثقوا يديها بالقيود وأثقلوا ظهرها بالحديد وجرعوها الدواء بالقوة، وإن وجدتم فى جسمها عضواً خبيثاً فاقطعوه أو سرطاناً خطيراً فأزيلوه، استعدوا يا جنود، فكثير من أبناء هذا الشعب فى آذانهم وقر وفى عيونهم عمى”.
من ضرع هذه الكلمات العنيفة وهذا الخطاب المتطرف للأب عبدالرحمان الساعاتي، تشرب حسن البنا عقيدة العنف ومنهج التغيير بالقوة. هذه العقيدة التي ستتبلور من خلال رسائل ومذكرات المرشد والتي اعتمدها المريدون والأتباع كدستور مقدس يؤطر لعلاقة الجماعة مع باقي التنظيمات الحزبية من جهة، وكذا في علاقتهم برأس السلطة السياسية في مصر وخارجها.
وقبل التطرق إلى سياقات تشكل النزعة الإخوانية العنيفة، وجب الإحاطة بمحددات البيئة الاستراتيجية لبدايات القرن العشرين والتي تميزت بتدافع الأفكار والإيديولوجيات وأيضا بنهاية الحرب العالمية الأولى والتي أرخت بضلالها على التعبيرات السياسية في مصر وباقي الدول العربية والإسلامية التي خضعت لفترات مختلفة لمحنة الاستعمار العثماني.
في هذا السياق، فإن معظم الباحثين في شؤون التنظيم الإخواني طرحوا سؤالا جوهريا حول قدرة شاب في ربيعه الثاني والعشرين على تأسيس تنظيم سياسي سينتشر في أكثر من 70 دولة حول العالم، وهل صمود التنظيم مردُّه إلى اعتبارات ذاتية مرتبطة بشخصية المرشد والأتباع أم لاعتبارات موضوعية لعبت فيها السياقات الإقليمية والقوى الكبرى دورا مساعدا على بقاء الجماعة وانتشارها.
إن الاستعانة بمبادئ علم النفس الاجتماعي وإسقاطها على واقع الشعب المصري في عشرينات القرن الماضي تجعلنا نسجل ضعف كبير في آليات الضبط الاجتماعي والسياسي لدى الاحزاب المصرية، حيث ظلت طبقات واسعة من الشعب المصري (البرجوازية الصغرى على وجه الخصوص) خارج منظومة التأطير السياسي والحزبي وفقدت الأمل في حزب الوفد الذي كان يُقدم نفسه كمُعبر عن طموحات مختلف شرائح الشعب المصري. هذا المعطى انضافت إليه عوامل أخرى عجلت بظهور تنظيم حاول أن يعكس التعبيرات الاجتماعية والشخصية المحافِظة لشرائح واسعة من المصريين. ومن أهم هذه العوامل ضعف أداء البرجوازية المتوسطة وانتشار الكتب العلمانية التي اعتبرها البعض استفزازا للشخصية الرئيسية للمسلمين بتعبير رالف لينتون، وكذلك ظهور مدارس التبشير واتساع الفوارق الطبقية بالإضافة إلى انتشار الفاشية والخوف من توسع المد الشيوعي في أعقاب الثورة البلشفية سنة 1917م.
ويمكن القول أن تأسيس *جماعة الإخوان المسلمين (منظمة محظورة داخل الاتحاد الروسي) (مارس 1928م) جاء كتعبير عن ردة فعل ذاتية متمثلة في وجود طبقة واسعة من البرجوازية الصغيرة التي تبحث لها عن كيان بنيوي يُعبر عن مطالبها التي أسقطتها باقي التنظيمات السياسية، وأيضا موضوعية في ظل بيئة استراتيجية متقلبة اعتبرها البعض مقدمة للتغريب والتحلل والإباحية والتقليد الغربي[1].
لقد رأى مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في سقوط الخلافة الإسلامية في تركيا على يد مصطفى كمال أتاتورك فرصة ذهبية لتحقيق حلم حياته في تنصيب نفسه خليفة للمسلمين بعد استكمال الشروط الذاتية والموضوعية لنشر الدعوة الإخوانية في جميع الأقطار الإسلامية، حيث يقول “إن الناس كانوا إذا اختلفوا رجعوا إلى (الخليفة) وشرطه الإمامة، فيقضي بينهم ويرفع حكمه الخلاف، أما الآن فأين الخليفة؟ وإذا كان الأمر كذلك فأولى بالمسلمين أن يبحثوا عن القاضي، ثم يعرضوا قضيتهم عليه، فإن اختلافهم من غير مرجع لا يردهم إلا إلى خلاف آخر”[2].
إن تحقيق الهدف السياسي الأسمى لجماعة الإخوان المسلمين المتمثل في “أستاذية العالم” فرض على قيادة التنظيم اللجوء إلى مجموعة من الأدوات والوسائل، بالمفهوم الاستراتيجي، والتي رأت فيها الجماعة ضرورة سياسية ووجودية لتحقيق هذا الهدف وذلك استنادا إلى القاعدة الفقهية التي تقول “ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”، هذا التقعيد الأصولي أعطى للجماعة هامش كبير للمناورة والمراوغة حسب ما تقتضيه الظرفية السياسية وموازين القوى في مصر وهو ما دفع بالجماعة، في مرحلة الاستضعاف، إلى مهادنة الانجليز والدفع بتحالف استراتيجي مع المؤسسة الملكية والأزهر الشريف في محاولة لإضعاف وعزل حزب الوفد المصري في أفق الانفراد بالمؤسسة الملكية وتحييدها أو القضاء عليها، وهو التكتيك الثابت الذي لازالت تمارسه الجماعة في الدول التي تسمح بهامش من الحرية والممارسة السياسية للتنظيم.
غير أن أسلوب المهادنة والتحالفات لم يكن التكتيك الوحيد ضمن استراتيجية التنظيم الإخواني الذي سيواكب هذه التكتيكات بتأسيس جناح عسكري مسلح منذ الأيام الأولى للتنظيم عبر اختراق التنظيمات الكشفية وتأسيس أولى فرق الجوالة سنة 1928 لتكون المفرخة التي ستُخرّج العناصر التي سيتشكل منها التنظيم الخاص لجماعة الإخوان المسلمين كما سنرى.
إن العنف عند جماعة الإخوان المسلمين كان دائما من صميم الاستراتيجية التي تحكم علاقتها بباقي مكونات المجتمع فيما اعتبرت المُماينة والمهادنة مجرد تكتيك مرحلي ليس إلا. ويرقى العنف عند الإخوان إلى مستوى العقيدة في حين أن الحوار هو فقط مناورة للتمرير والتبرير والتخدير. يقول حسن البنا في رسائله “ثم أمرهم (الله) بعد ذلك أن يجاهدوا في الله حق جهاده بنشر هذه الدعوة وتعميمها بين الناس بالحجة والبرهان، فإن أبوا إلا العسف والجور والتمرد فبالسيف والسنان :
والناس إذ ظلموا البرهان و اعتسفوا فالحرب أجدى على الدنيا من السلم[3].
ورغم أن مرشد الإخوان المسلمين حسن البنا حاول الدفاع عن حق الإخوان في امتلاك أدوات القوة لمواجهة الاستعمار الإنجليزي وبعده لتحرير فلسطين، إلا أن واقع الوثائق والوقائع يقطع بأن التنظيم وجه آلة العنف إلى الداخل المصري رغبة منه في احتكار الساحة السياسية والوصول إلى السلطة في مصر. هذا الهدف تعكسه النبرة الإخوانية التي أخذت طابع الحدة والاستعلاء والابتزاز بمجرد أن استكملوا، نهاية الثلاثينات، تأسيس هياكل جناح عسكري مسلح بقيادة عبدالرحمن السندي. وهنا نجد حسن البنا يعلنها صراحة في رسالته تحت عنوان “البعد عن الهيئات والأحزاب” حيث يقول: “ونحن الأن، وقد اشتد ساعد الدعوة وصَلُب عودها وأصبحت تستطيع أن تُوجِّه ولا تُوجَّه وأن تؤثر ولا تتأثر، نهيب بالكبراء والأعيان والهيئات والأحزاب أن ينضموا إلينا وأن يسلكوا سبيلنا وأن يعملوا معنا…ويتوحدوا تحت لواء القرآن العظيم ويستظلوا براية النبي الكريم ومنهاج الإسلام القويم. فإن أجابوا فهو خيرهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وتستطيع الدعوة بهم أن تختصر الوقت والجهود، وإن أبوا فلا بأس علينا أن ننتظر قليلا وأن نلتمس المعونة من الله وحده حتى يُحاط بهم ويسقط في أيديهم ويضطرون إلى العمل للدعوة أذناباً وقد كانوا يستطيعون أن يكونوا رؤساء، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون”[4].
إن المنطق الصدامي لجماعة الإخوان المسلمين سيدفعها إلى المواجهة مع الدولة المصرية وهي المواجهة التي ستصل أوجها في العقد الرابع من القرن العشرين حيث ستضرب الجماعة رؤوس النظام المصري بعد اغتيال كل من رئيس الوزراء أحمد ماهر باشا (24 فبراير 1945م) وبعده رئيس الوزراء ووزير الداخلية محمود فهمي النقراشي باشا (28 ديسمبر 1948م) ليرد النظام باغتيال رأس التنظيم حسن البنا ليلة 12 من فبراير سنة 1949م.
سيظل العنف تكتيك ثابت عند جماعة الإخوان المسلمين رغم محاولة تقديم نفسها كممثلة شرعية للتيار السني المعتدل، إلا أن الكشف عن مذكرات القيادات الإخوانية وتصريحاتهم تقطع بأن العنف كان ولا يزال أداة الحسم في خلافات التنظيم مع أنظمة الحكم في الدول التي ينشطون فيها. هذا المعطى يدفعنا إلى محاولة فهم البنية السلوكية للتنظيم الإخوان والتي أفرزت لنا فكرا عنيفا جعل من الإخوان أينما حلوا وارتحلوا من بقعة أو مكان إلا وفاحت منه رائحة الدماء والجثث والأشلاء. هذا الفكر ما هو إلا استمرار لتعاليم حسن البنا التي مثلت صيحة تهديد لجميع المخالفين حيث يقول “إن آمنتم بفكرتنا واتبعتم خطواتنا فهو خير لكم، وإن أبيتم إلا التذبذب والاضطراب والتردد بين الدعوات الحائرة والمناهج الفاشلة فإن كتيبة الله ستسير”.
خلال الخمسينيات سيحمل سيد قطب مشعل العنف داخل جماعة الإخوان المسلمين[5] وسيعمل على التأصيل العقدي لمبدأ التغيير بالقوة من خلال تكفير الأنظمة والمجتمعات والأمة الإسلامية قاطبة، حيث يقول: “لنضرب، لنضرب بقوة، ولنضرب بسرعة، أما الشعب فعليه أن يحفر القبور ويهيل التراب”. هذا الفكر العنيف ستتلقفه مجموعة من التنظيمات الإرهابية والتي ستثير الرعب والإرهاب في العالم أجمع قبل أن يكتشف من ساهموا في تقوية واستمرار هذه الجماعات أنهم أمام “منظمة أفكار” آمن بها الملايين وأنه آن الأوان لخلق وعي مادي جماعي قادر على تحصين أوطاننا حتى لا تتحول إلى بيئات حاضنة ومصدرة للفكر الإرهابي المتطرف.
لقد حاولت هذه الحلقات أن تجعل من استشهاداتها وإحالاتها محصورة في المراجع الإخوانية المعتمدة واستبعاد المقاربة الذاتية أو كتابات الأقلام المعروفة بعدائها الأيديولوجي والسياسي للجماعة، مما يجعلنا نطمئن إلى مصداقية هذه الحلقات التي حاولت احترام المعطيات التاريخية والأمانة في السرد والإلقاء والكتابة والإحالة دونما محاولة الالتفاف على الحقائق التاريخية أو تطويعٍ للشهادات وفق ما يخدم طرحا ما أو توجها ما.
هي إذا رحلة بين تراب المخازن لسبر عوالم هذه الجماعة والوقوف على معظم الاغتيالات السياسية التي تورطت فيها، وفرصة للتعرف على الوجه المظلم لهذا التنظيم الخطير وعلى تاريخه الدموي والذي يحاول بعضهم الدفاع عنه على استحياء وبغير كثير من الحماس.
ولن يخطو بنا امل***بدعوى القال والقيل
فغير السيف لن يجدي***يمينا فتية الجيل
د.عبدالحق الصنايبي- متخصص في الدراسات الاستراتيجية و الأمنية، خاص “رياليست”*جماعة الإخوان المسلمين هي جماعة محظورة داخل الاتحاد الروسي.
[1] – الإخوان المسلمين وجذور التطرف الديني والإرهاب في مصر، ص 22.
[2] – رسائل الإمام الشهيد حسن البنا، ص 17
[3] – رسائل الإمام الشهيد حسن البنا، ص 42
[4] – الرسائل، ص 125 من رسالة المؤتمر الخامس
[5] – انضم سيد قطب إلى جماعة الإخوان المسلمين سنة 1953م بعد خلافه مع جمال عبدالناصر ومجلس قيادة الثورة.