باريس – (رياليست عربي): في إعادة توزيع الأوراق الجيوسياسية التي تقلب القارة الأوروبية – الآسيوية رأساً على عقب في الآونة الأخيرة، من الواضح أن تركيا تريد لعب أوراقها بشكل صحيح، وذلك من خلال إظهار أهداف استراتيجية خارج حدودها، إذ لا يزال أردوغان يقلق جيرانه وحلفائه التقليديين بينما يحبط الشعب التركي نفسه الذي يتحمل كل التكاليف المالية لهذا الامتداد الإمبراطوري الذي يسعى إليه زعيمه.
منذ تطوير استراتيجيتها العثمانية الجديدة، واصلت تركيا توسيع منطقة نفوذها السياسي والثقافي والديني والعسكري على أراضي خلافتها السابقة، سعياً منها وراء حلم سلاطين الأمس، حيث تحتل تركيا الآن شمال سوريا وشمال قبرص، وتتقاطع قواتها العسكرية مع ليبيا، كذلك ساعدت طائراتها بدون طيار الأذربيجانيين على المشاركة في نزع إقليم آرتساخ من الأرمن، وقواتها موجودة حالياً في شمال العراق والصومال وقطر وألبانيا والبوسنة والهرسك والسودان وصربيا (كوسوفو).
أيضاً، تتمتع تركيا بحضور قوي من خلال شبكاتها الإعلامية في البلقان والشرق الأوسط وآسيا الوسطى وأفريقيا، وتنشر أنقرة القوة الناعمة أيضاً من خلال دبلوماسية المساجد التي تساعدها في تمويلها في مختلف دول العالم وتنصب أئمة المساجد الذين هم رجالات مخابرات تركية بطبيعة الحال.

هذه الإستراتيجية الإمبريالية هي عبارة عن تملق غرور النخبة التركية، لكنها مصدر غضب شديد تغضب لجيرانها الذين يتساءلون إلى أي مدى يمكن لأردوغان أن يذهب في ستراتيجته تلك، حتى داخل الناتو نفسه، حيث تمثل تركيا ثاني أكبر جيش من حيث عدد الجنود، مع الإشارة إلى أنه ظهرت توترات خطيرة مع أعضاء آخرين في المنظمة الأطلسية، لا سيما في البحر الأبيض المتوسط (“الوطن الأزرق” التركي) مثل فرنسا أو اليونان في عام 2020، كذلك العلاقة بين تركيا وروسيا متوترة بسبب إرسال أنقرة أسلحة إلى كييف وزعزعة استقرار الوضع في ناغورنو كاراباخ، أيضاً، الوجود التركي المتزايد في أذربيجان والقوقاز لا يطمئن الكرملين الذي يريد تقوية علاقاته مع جيرانه وإقامة منطقة مستقرة وآمنة حول حدوده.
ومن خلال توسيع منطقة نفوذها ونشر قواتها وجيوشها خارج حدودها، تخوض تركيا مغامرة محفوفة بالمخاطر، يتسبب هذا الامتداد الإمبراطوري في توتر جيرانها، هذا التوسع رغم أنه أمر استراتيجي لأنقرة لكنه يحتاج تمويلاً وميزانية ضخمة، خاصة وأنه رغم كل محاولات تركيا لم تقطف بعد الثمار المتوقعة من هذه الاستراتيجية، بيخرج السؤال المهم هنا، هل سيكون لدى أردوغان الوقت والوسائل لجعل انتصاراته مربحة؟

في عام 2011، كان طموح أردوغان هو جعل تركيا واحدة من أكبر 10 اقتصادات في العالم بحلول عام 2023 (الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية من قبل مصطفى كمال أتاتورك) حيث يبلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي 25000 دولار أمريكي، لكن في العام نفسه، كان نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي 11400 دولاراً أمريكياً، وانخفض إلى 8.500 دولار أمريكي في عام 2020. ولم يتبقَ سوى 10 أشهر لمضاعفته بمقدار ثلاثة تقريباً، على الرغم من أن نسبة الدين 40٪ من الناتج المحلي الإجمالي (أقل بكثير من المتوسط في دول الاتحاد الأوروبي) ومعدل نمو يقترب من 10٪ في عام 2021، فإن الاقتصاد التركي في وضع مقلق.
في يناير/ كانون الثاني الماضي، اقترب التضخم من 50٪، وفي عام 2021 فقدت الليرة التركية 44٪ من قيمتها مقابل الدولار الأمريكي، وتضاعفت الضرائب، فبالنسبة لمعظم الأتراك، تضاعف سعر الكهرباء وارتفع سعر الخبز بنسبة 50٪ بين نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 ويناير/ كانون الثاني 2022، وهناك 25٪ من الشباب التركي عاطلون عن العمل، في مقابل هذه المستجدات، للدفاع عن عملتها، كان على تركيا أن تغوص في احتياطياتها من الدولار، كما أثرت قيود السفر المرتبطة بـ Covid-19 على السياحة في تركيا، والتي هي إحدى ركائز اقتصادها القوي، وعلى الرغم من زيادة الحد الأدنى للأجور بنسبة 50٪ (التي يتلقاها نصف السكان الأتراك)، فإن القوة الشرائية آخذة في الانخفاض وتولد استياءاً واضحاً بشكل متزايد في المجتمع التركي، هذا السخط الكامن هو قنبلة موقوتة كبرى خاصة أنه بعد عام موعد الانتخابات الرئاسية، حيث سيكون موقف أردوغان على المحك.
منذ عام 2015، نجا الاقتصاد التركي ولكنه لم يعد يثير الإعجاب، من الواضح أن لقاحات Covid-19 لم تساعد تركيا في إنقاذ اقتصادها، وكذلك السياسة العثمانية الجديدة، بعد عام واحد، موعد الانتخابات الرئاسية، سيتعين على أردوغان اتخاذ خيارات استراتيجية كبرى، ممزقاً بين حلمه بالعظمة والمطالب الاقتصادية الملحة لشعبه، لم يعد لديه الوسائل للاستجابة لكليهما في نفس الوقت.
وفي مواجهة هذه الاستراتيجة التي يبدو أنها شكلت عوامل خطيرة لدول الجوار، خاصة مع نفاذ صبرهم من سياسة أردوغان التوسعية، ولمواجهته، بيعت طائرات رافال الفرنسية مؤخراً لليونان، وأدارت روسيا جيداً الأزمة الكازاخستانية وفعّلت منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي هي دليل واضح على لجم تركيا.
إن حلم أردوغان في الفوز بكل شيء سيقابله إمكانية خسارته لكل شيء، وكما تقول الأسطورة: “إن الضفدع الذي أراد أن يصبح بحجم ثور ينتهي به المطاف بالموت”، هذه أخلاق يجب أن يستلهمها أردوغان إذا كان يريد تجديد ولايته، سلطان، رئيس أو خاسر كبير الكرة الآن في ملعبه.
خاص وكالة رياليست – نيكولا ميركوفيتش – كاتب ومحلل سياسي صربي.