بعد إعلان أمريكا انسحاب قواتها من شمال شرق سوريا وإعادة انتشارها خلال الأسابيع القليلة الماضية، بدأنا نقرأ تحليلات وآراء من بعض الخبراء والصحفيين، يعتقدون بأن أمريكا تتنازل عن سوريا وربما عن الشرق الأوسط للروس والإيرانيين، ولكن هل هذا الاعتقاد صحيح؟
فهناك مشاكل كثيرة في هذا الاعتقاد، أولها أن سوريا ليست (جائزة رائعة) لهؤلاء المنتصرين المفترضين بعد ما يقرب من تسع سنوات من الحرب بالوكالة، حرب دموية بشعة يدفع فيها الكثير مقابل القليل، لأن هناك حقائق تفرض نفسها وهذا ما سنسرده قبل أن نفهم ما يمثله واقع سوريا بالنسبة لأمريكا.
سوريا عبء وليست غنيمة
إن قصة الحرب في سوريا هي أكثر تعقيداً ومتعددة الجوانب تمّ تدمير مدن بأكملها، وبحسب البنك الدولي فإن الاقتصاد السوري قد خسر 300 مليار دولار من الناتج المحلي الإجمالي بين عامي 2011 و2018. هذا الانخفاض الحاد قد يتطلب من السوريين العمل والبناء 20 عاماً في أحسن تقدير ليعودوا إلى مستوى ما قبل الحرب. فقد تصل تكلفة إعادة إعمار سوريا إلى 400 مليار دولار، الأمر الذي يتطلب من روسيا وإيران إنفاق رأس مال كبير إذا كانت لديهما أدنى نية في إخراج سوريا من هذه الحفرة الكبيرة التي وقعت فيها، أضف أن هناك حوالي 6.2 مليون نازحاً داخلياً، وحكومة فاسدة في دمشق. تبدو سوريا أشبه بعبء أكثر منها فوز وغنيمة.
وإذا عدنا للتاريخ سنجد أن تدخُّل الروس والإيرانيين في سوريا ليس حديثاً، بل كانت تربطهم بسوريا علاقات واسعة.
موسكو ودمشق علاقة عبر الأجيال
يعود تدخُّل موسكو في سوريا إلى ما قبل ولادة بشار الأسد، حيث كان يتدرب الضباط السوريون في المدارس العسكرية الروسية منذ بداية الحرب الباردة، مما عزز العلاقات التي استمرت عبر أجيال متعددة. تمّ تمويل سد (الطبقة) أكبر سد في سوريا من المساعدات السوفيتية، وأشرف عليه مهندسون سوفييت، وكانت موسكو المورد الرئيسي للمعدات العسكرية والأسلحة الحربية في سوريا، حيث بلغت قيمة هذه التجارة 34 مليار دولار بين عامي 1950 و1990.
ولولا قيام الاتحاد السوفيتي بنقل الأسلحة والإمدادات جواً إلى دمشق خلال حرب أكتوبر/ تشرين الأول ضد إسرائيل في عام 1973 ربما لما صمدت سوريا في تلك الحرب وكانت ستخسر مناطق أخرى غير الجولان.
طهران ودمشق من الأب إلى الولد
أما عن علاقة إيران بسوريا ليست طويلة قياساً بروسيا ولكنها تعتبر واسعة النطاق كيف؟
إن الشراكة بين طهران ودمشق كانت بمثابة فعل براغماتي، منذ حرب الخليج الأولى في عام 1980 عندما كانتا تضغطان على صدام حسين في العراق، في الوقت الذي كان فيه الغرب يضخ الأسلحة في ترسانة العراق لتعزيز جهوده في الصراع ضد إيران، أقنع حافظ الأسد الليبيين والجزائريين بتوجيه تعزيزات عسكرية عبر سوريا إلى طهران من أجل مواجهة التفوق العسكري العراقي. بعد ثلاثين عاماً عاد الإيرانيون لمصالحهم، ووقفوا إلى جانب بشار الأسد، ودعموه عسكرياً ومالياً لاستعادة الأراضي التي سيطر عليها الجيش الحر. بالنظر إلى تاريخ هذه العلاقة الثنائية، لا ينبغي أن يفاجأ أحد بأن المستشارين الإيرانيين وعناصر المخابرات ووحدات النخبة من الحرس الثوري الإيراني جاؤوا للدفاع عن الأسد وإنقاذه.
أهداف واشنطن في سوريا
من الخطأ الاعتقاد أن فكرة انسحاب وإعادة انتشار القوات الأمريكية في سوريا ستؤدي إلى فقدان الولايات المتحدة نفوذها في سوريا أو في الشرق الأوسط لماذا؟
لأن الحرب في سوريا بالنسبة لأمريكا لم تكن أبداً للفوز أو الخسارة مقارنة بإيران وروسيا وتركيا والنظام نفسه. كان لدى الولايات المتحدة نفوذ ضعيف للغاية في بداية الحرب السورية هذا ليس بسبب ضعف أمريكا برأيي، بل بسبب عدم اهتمامها، ليس لواشنطن مصلحة في كيف يحكم السوريون أنفسهم داخلياً طالما أن الحكومة السورية أياً كانت في قمة النظام على استعداد للتعاون مع الولايات المتحدة بشأن التهديدات المتبادلة عند الضرورة (كما فعلت واشنطن ودمشق في السنوات التي أعقبت أحداث 11 سبتمبر).
وبحسب الباحث الأمريكي دانييل دي بترس الذي يرى” أن سوريا هي بيدق صغير على رقعة شطرنج شرق أوسطية بسرعة تصبح أقل قيمة من الناحية الجغرافية السياسية في عالم تكون فيه منطقة آسيا والمحيط الهادئ في مركز المنافسة بين القوى العظمى.” لا يمكن قول الشيء نفسه عن روسيا وإيران، وكلاهما يعتمدان على بقاء بشار الأسد شريكاً إلى درجة أنهما مستعدان لتكريس الكثير من الوقت والمال والقوة العسكرية لصالحه.
إذاً سوريا كسياسة داخلية ليست من أولويات مصالح الأمن القومي الأمريكي في المنطقة، هذه المصالح التي تشمل ضمان عدم حدوث اضطرابات حول حقول النفط ومنع (داعش) من شن هجمات ضد القوات الامريكية المتمركزة هناك، والتأكد من عدم وصول أي قوة يمكنها أن تهيمن على حقول النفط التي كانت تقدر بـ 110،000 برميل يومياً في عام 2010 أي قبل اندلاع الثورة والحرب في سوريا.
كان هدف الأمن القومي الأمريكي في سوريا محدودًا منذ البداية لإزالة دولة الخلافة (داعش) وتمّ إنجاز هذه المهمة عملياً في شهر أيار/ مايو الماضي، عندما استسلم الآلاف من مقاتلي داعش في قرية باغوز الصغيرة بعد حصار دام أشهر، وكذلك بعد مقتل البغدادي، أما بقايا داعش فربما ترى أمريكا أن على روسيا وإيران أن تتكفلا بمحاربتها لطالما يريدون الفوز في سوريا. هدف الولايات المتحدة أن تبقى مسيطرة على حقول النفط حتى لاتصل إليها داعش أو أي قوى أخرى، ولكي تستفيد من عائدات النفط في تمويل عملياتها في الشرق الأوسط بالرغم من أن قدرة سوريا التصديرية من النفط صغيرة جداً حيث أنها لا تحدث فرقاً كبيراً في التأثير على سوق النفط العالمي أو على الاقتصاد الأمريكي. ولكن في أحسن الأحوال واشنطن تمارس بوجودها ضغوطاً على النظام وحلفائه.
الحرب في سوريا هي قصة قبيحة دامت ما يقرب تسع سنوات من الدماء والدمار والدموع واللاجئين، وإذا كان هناك أي فائزين، فإن الغنائم ضئيلة للغاية.
خاص وكالة “رياليست” – فراس الراعي، كاتب سوري.