القاهرة – (رياليست عربي): منذ اتخاذ الإدارة الامريكية قرارها بانسحاب قواتها من أفغانستان في الخامس عِشر من شهر أغسطس/ آب الجاري، واستيلاء قوات طالبان وإحلالها مكان القوات الأمريكية المنسحبة (هل هو انسحاب أم تسليم وإحلال؟)، والأحداث والمواقف السياسية في العالم تتلاحق سريعاً، وأيضاً الأوضاع والمواقف والأحداث تتلاحق على أرض الواقع وتتغير سريعاً، وتزداد توتراً وخطورة، وأصبحت جميع القوات المتحالفة متواجدة في الأراضي الأفغانية، وخاصة في محيط مطار كابول الرئيسي، والذي يتم منه إجلاء وسفر آلاف الراغبين بالفرار ومغادرة البلاد على وجه السرعة فراراً من طالبان، والمستقبل الغامض الذي لم يتضح، ونحتاج لكثير من الوقت لبيان ووضوح معالمه.
قرار انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان
تبين من خطاب الرئيس الأمريكي جو بايدن، أمام الصحفيين العالمين بالبيت الأبيض، عقب الإعلان عن قرار الانسحاب، الذي أخذه لأسباب ومبررات عدة، قد نتفق وقد نختلف معه ومعها، ولكنه إعلان صريح بالفشل في القضاء علي حركة طالبان خلال مدة ٢٠ عاماً، ومنذ وصول القوات الأمريكية والمتحالفين معها إلى أفغانستان في العام ٢٠٠١، حيث قيل إن “أفغانستان بلد قاهرة الإمبراطوريات”، وأن الولايات المتحدة حضرت إلى أفغانستان لحماية أمنها ومصالحها، وأنها أنفقت عشرات التريليونات، وآلاف القتلى من الجنود، وأنها لا تستطيع البقاء إلى ما لا نهاية.
وفي ظل تقييم الموقف والنتائج والأهداف، كان يلزم اتخاذ ذلك القرار، لوقف نزيف الخسائر الأمريكية سياسياً وعسكرياً وتجارياً وعالمياً، حيث برر أن ذلك كان فرصة جيدة لصين لتحقيق تقدم ونمو أصبح يهدد الأمن أكثر مما كان متوقع، وأن انشغال أمريكا في كثير من القضايا العالمية، منح الآخرين فرصة لتحقيق إنجازات سياسية واقتصادية وعسكرية، أصبحت تهدد الأمن القومي الأمريكي بشكل مباشر.
تحليل الأحداث
حقيقةً، لقد وضعت الإدارة الأمريكية، نفسها والعالم في وضع معقد ومتشابك للغاية، وكما كان قرار الرئيس بوش الابن “خطأ استراتيجي فادح” بغزو أفغانستان عام ٢٠٠١، في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر وانهيار برجي التجارة العالميين، واتهام تنظيم القاعدة بزعامة بن لادن، بتدبير وتخطيط وتنفيذ ذلك العمل الإرهابي الذي راح ضحيته آلاف المواطنين الأمريكان الأبرياء، وهو الحدث الذي زعزع الهيبة والكرامة الأمريكية حول العالم، أيضاً قرار الانسحاب من أفغانستان، أصبح محل نقد من الدول والمحللين السياسيين والمتخصصين البارزين حول العالم، سواء داخل الولايات المتحدة، أو خارجها.
من الداخل، كان أبرز المعارضين بالطبع هو الرئيس السابق دونالد ترامب، والذي كان بدوره فرصة جيدة للهجوم على الرئيس الأمريكي وإدارته والحزب الديمقراطي ومناصريه، ومن الخارج، كان أبرز المعارضين، هو رئيس الوزراء البريطاني السابق، طوني بلير، والذي هاجم القرار الأمريكي هجوم شرس، ووصفه بالخطأ الاستراتيجي الفادح، وأنه بمثابة إعلان استسلام الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها إلى القوات المسلحة الأفغانية والممثلة في جماعة طالبان، بالإضافة إلى التصريحات التي صدرت من حلفاء أمريكا في بريطانيا وفرنسا وألمانيا وكندا، خاصة فيما يخص عمليات إجلاء قواتهم والأفغان الراغبين بمغادرة الأراضي الأفغانية والمحدد الانتهاء منها بحد أقصى بحلول يوم ٣١ أغسطس/ آب الجاري، والذي يزيد الأمور تعقيداً، تزايد الأعداد وصعوبة التنظيم، وضعف الأمن بمحيط المطار، وهو ما تسبب في وقوع الهجوم الانتحاري وأسفر عن عشرات القتلى والمصابين بين القوات الأمريكية والمدنيين.
ردود الأفعال والتصريحات والأحداث خلال الأيام والساعات الأخيرة
أولاً، هناك خلاف بين الإدارة الأمريكية الحالية، وكثير من حلفائها في حلف الناتو، وأن قرار الانسحاب في هذا التوقيت وبهذا الأسلوب لم يكن محل ترحيب وموافقة تلك الدول، أو على الأقل لم يكونوا على استعداد كامل لعملية الانسحاب، وترك الأمور بهذا الشكل في يد طالبان.
ثانياً، هناك بعض الدول الرافضة لذلك القرار “بشكل غير معلن”، والتي تتخوف من أن تعود أفغانستان مركز للجماعات الإرهابية المسلحة” خاصة تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة، كما تتخوف بأن استيلاء طالبان علي حكم أفغانستان، سوف يشجع ويزيد من نشاط التنظيمات المسلحة في مناطق أخرى حول العالم، لذا، تعتزم تسليح قوات معارضة ومناوئة لطالبان، سواء من الجيش الأفغاني أو أحمد مسعود نجل الزعيم أحمد شاه مسعود، والذي أعلن طلب مده بالسلاح للوقوف أمام طلبان، وكذلك التنسيق مع بعض القبائل التي يمكن الاتصال بها عن طريق السياسيين الأفغان الفارين مؤخراً من أفغانستان وعلى رأسهم الرئيس الأفغاني السابق أشرف غني، والاعتماد عليها كمقاومة وكشوكة في ظهر طالبان للضغط عليها، وعدم ترك الساحة الأفغانية لها لتفعل بها ما تشاء، في ضوء ما سوف تتخذه طلبان من سياسات يرحب بها المجتمع الدولي، ام العكس، فهل سوف تدور رحى الحرب والصراع الأفغاني مرة أخرى، ولكن بأطراف أخرى ومقاولين وممولين آخرين، وتكرار لأخطاء الماضي، وتظل أفغانستان والأفغان في تلك الحلقة الجهنمية من انعدام الأمن والاستقرار والحياة؟
ثالثاً، هناك بعض الدول، وخاصة التي لها مشاكل واختلافات أيديولوجية وسياسية، واقتصادية مع الولايات المتحدة، تسعى لاستغلال الموقف لمصالحها، والتوسع في نفوذها في المنطقة على حساب أمريكا وحلفائها، وعلى رأس هذه الدول روسيا والصين وإيران.
رابعاً، ما أشبه اليوم بالأمس، لقد سبق وانسحبت أمريكا من فيتنام، عقب هزيمة قاسية بعد حرب استمرت ١٩ عاماً من ١٩٥٥ وحتى ١٩٧٥، وتكبدت خسائر ضخمة، وهو نفس الأمر الذي يشبه إلى حد بعيد إنهاء التواجد الأمريكي في أفغانستان، حيث تكبدت أمريكا، حسب التقارير، من تكاليف مباشرة بلغت أكثر من تريليون دولار، بخلاف التكلفة غير المباشرة والتي يصعب حصرها، بالإضافة إلى التكلفة البشرية للأمريكيين والتي بلغت أكثر ٢٥٠٠ جندي، ٢٠ ألف مصاب، ومن الجيش الأفغاني أكثر من ١١١ ألف بين قتيل وجريح ومصاب، فما هو تأثير ذلك القرار على المجتمع الأمريكي والحياة السياسية والسياسيين خاصة المنتمين للحزب الديمقراطي والجمهوري، هل سوف يحدث ردود أفعال اجتماعية واقتصادية وسياسية كما حدث أثناء وبعد الحرب الأمريكية في فيتنام؟
التعليق
من الواضح والمتوقع في ضوء الأحداث الماضية، وقرار الإدارة الأمريكية التاريخي بالانسحاب من أفغانستان في منتصف الشهر الجاري، وقيامها بتسليم أفغانستان لطالبان “تسليم مفتاح turn key”، ينم عن أن الإدارة الأمريكية قد انتقلت من سياسية تبني الفوضى الخلاقة “الذي وحاولت الإدارة الأمريكية السابقة إبان فترة حكم الرئيس الأمريكي جورج بوش، ومستشارة الأمن القومي كونداليزا رايس، نشره في مناطق كثيرة من العالم” والذي سمي في المنطقة العربية “الربيع العربي” والذي فشل فشلاً ذريعاً، وبالنظر إلى الأوضاع في سوريا واليمن وليبيا، وتونس” وإلى مفهوم الفوضى الهدامة، وهو ما نراه في الحالة الأفغانية حالياً، من فوضى، وهروب جماعي للملايين من الأفغان” ٣ مليون خلال عام ٢٠٢٠” لشعب تعداده يقترب من ٤٠ مليون، من سيتحمل تكلفة إجلاء ونزوح وهجرة وتشريد الملايين، إنها تكلفة باهظة “آخر الإحصاءات الدولية، تقول إن عدد المهجرين حول العالم بلغوا ما يزيد عن مليار نسمة”، وأن الإدارة الأمريكية في ضوء هذا القرار:
أولاً، من المتوقع انسحاب الولايات المتحدة من مناطق أخرى، وملفات دولية من مناطق اخرى حول العالم، وترك الأمور إلى الأطراف المتنازعة لحلها دول التدخل المباشر فيها، إلا بما يخدم مصالحها وأمنها القومي المباشر، ولا ننتظر منها أو الاعتماد عليها لتدخل المباشر لحل قضايا أو منازعات محلية أو إقليمية أو دولية في الزمن القريب والمتوسط.
ثانياً، موافقة طالبان “سبق وان أعلنت رفضها” على تولي تركيا إدارة مطار كابل في أفغانستان، دليل ومؤشر على اعتماد الإدارة الأمريكية على أطراف أخرى لتولي مكانها “بدعم قوى منها” إدارة بعض الملفات الدولية، وهل هو تكرار لنفس الدور التركي في ليبيا، وفي أوزباكستان، وسوريا؟
ثالثاً، الإدارة الأمريكية تبرر أن هذا القرار هو الحل الأمثل للمشكلة الأفغانية، في ضوء تقييم نتائج ما تحقق خلال العشرين عام الماضية على أرض الواقع، والمستجدات والظروف العالمية والدولية، حتى تتفرغ لإدارة ملفات أخرى أكثر أهمية وخطورة، مثل التقدم العسكري والتكنولوجي والاقتصادي والنووي لكل من الصين وروسيا وإيران.
رابعاً، من المؤكد أن هذا القرار سوف يكون له توابع ومردود علي السياسة الأمريكية الخارجية، وخاصة علاقاتها مع حلفائها في حلف الناتو ودول أخرى حول العالم، وأن تلك الدول سوف تعيد تقييم علاقاتها ومصالحها في ضوء متغيرات السياسة الأمريكية، وأن زيادة فجوة عدم التوافق بين القوى الكبرى سوف يضر الدول الصغرى أضراراً بالغة مستقبلاً، لذا على تلك الدول الحذر والحيطة في سياستها وعلاقاتها الخارجية في المستقبل القريب.
بالنتيجة، من الواضح أن الأوضاع في أفغانستان، سوف يكون لها توابع وردود أفعال سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وصحياً لفترة لن تكون بالقصيرة، وأنها سوف تلقي بظلالها على مناطق وأوضاع وقضايا كثيرة أخرى حول العالم، وأنها للأسف سوف تزيد من إعداد المهاجرين واللاجئين والمشردين والفقراء حول العالم، اللذين هم الوقود الرخيص لدوران عجلة الجريمة والإرهاب والنزاعات والصراعات والحروب والفوضى في الماضي والحاضر والمستقبل.
خاص وكالة “رياليست” – د. خالد عمر.