رغم أن التصعيد في مناطق الشمال الغربي من سوريا قد يكون حاضراً في قادم الأيام فيما إذا اعتبرناه ساحة أعمال عسكرية تؤدي لترتيب أوراق القوى المتدخلة في الشأن السوري؛ بخاصة في ظل تواجد القوى الجهادية هناك والمصنفة على قوائم الإرهاب الدولي، غير أن مناطق الشمال الشرقي أو ما يعرف بـ “شرق الفرات” ستكون حجر الزاوية في شكل أي ترتيب ينتظر الملف السوري، سواء أكانت نتيجته فدرلة البلاد أو تقسيمها جغرافياً وسياسياً.
كثيرة هي النماذج التي اقترن تشبيه الوضع السوري بها خلال السنوات الماضية، بين “اللبننة” و “الصوملة”، و “الأفغنة” أو حتى “العرقنة”، ورغم أن النموذج الأخير هو الذي قد يكون الأقرب مشابهته لحالة الوضع السوري في سنوات مضت، بعد تدخل أميركي مباشر في سوريا تبعه التركي والروسي، وهو بشكل عام يقارب وضع تكتل النفوذ للقوى المتدخلة في العراق خلال سنوات مضت، قد يكون أبرزها دعم إقليم “كردستان العراق” ومنحه الاستقلالية الإدارية و المالية، كما هو الحال قد يكون في مناطق شمال شرق سوريا التي تُثبّت لها واشنطن نقاط ارتكاز ذلك المشروع.
لقد كان الاتفاق مع الشركة الأميركية لتطوير حقول النفط في الشرق السوري؛ بداية الشهر الجاري؛ بموافقة أميركية واستثناء من قيود “قانون قيصر”، علامة بارزة على مسعى أميركي لإيجاد نموذج فيدرالي ما في سوريا ضمن رؤية واشنطن “على غرار كردستان العراق” ينافس مشروع الفدرلة الروسية التي كانت تعمل على تمريره، بخاصة وأن واشنطن تنشىء هذا المشروع في أغنى منطقة ثروات سوريّة، لذا فإن هذا المشروع الذي ينطلق من الاقتصاد، تجابه فيه واشنطن موسكو التي كانت تسعى إلى تعميم فدرلتها على امتداد الأرض السورية عبر اتفاقات “خفض التصعيد” التي أسست لها منذ مطلع عام 2017 في خطوة كانت تُحدث تشابهاً بين الوضع السوري ووضع ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ بل وحتى بشكل أقرب كالوضع اليوغسلافي بعد التفكك. كانت تلك حالات متشابهة، بمعنى سقوط الدولة المركزية في سوريا كما حصل في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية أدى إلى تقاسم الآخرين لمناطق نفوذ.
لا تقسيم ممكن؟
في ألمانيا حصل تقسيم مفروض دولياً إلى كيانين مستقلين عن بعضهما البعض، وهو نموذج قد بات يتبدد في سوريا، بفعل تأثير قوة توازن النفوذ بين الأقاليم الأربعة السورية (نفوذ روسي، تركي، أميركي، وجهادي)، فيما سجل التاريخ الحديث حالة تنافس شديدة في ألمانيا بين الروس السوفييت والأمريكان والبريطانيين، وفي أوساط التحالف الأمريكي – البريطاني، أيضاً. كانت دوافع التنافس في ذلك الحين، تتمثل بالسيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأرض الألمانية، ويسعى كل طرف لفرض رؤيته على مستقبل الملف الألماني.
تلك الحالة التنافسية التي تُسقط على سوريا في حال من الأحوال، كانت تميّز العلاقة بين الأمريكيين والروس في سوريا، وهي حالة تمتد أيضاً إلى أوساط الحلفاء في كل طرف. فالحالة التنافسية تلك، يمكن التقاط مؤشراتها الواضحة في العلاقة الروسية – الإيرانية على الأراضي السورية، غير أن تقاسم هذا النفوذ على كيانات بعينها بعد التحرك الأميركي في شمال شرق سوريا وإعلانهم غير المباشر البقاء على الأراضي السورية؛ يغلق الباب أمام نموذج ألماني جديد في سوريا، وكذلك الأمر بالنسبة للنموذج اليوغسلافي، فبالرغم أن الولايات المتحدة انتظرت ثلاث سنوات في يوغسلافيا وهي تشاهد الدمار والتشريد حتى أصبح الجميع هناك مستعدين لأي حل، فتدخلت واشنطن بـ “معاهدة دايتون” وقسَّمت البلاد هناك بعد سنوات الحرب الأهلية.
غير أن “دايتون” لا تستطيع أن تجد لها طريق صوب سوريا، بسبب قوة كل طرف متدخل في الشأن السوري والأوراق التي يمتلكها، وهنا نتحدث بالأخص عن روسيا التي هي اليوم مختلفة عما كانت عليه تماما في مرحلة الفاجعة اليوغسلافية، وما انتظار الولايات المتحدة كل السنوات الماضية ودخولها إلى سوريا في بادئ الأمر عبر محاربة تنظيم “داعش” الإرهابي، ومن ثم حماية حقول النفط، حتى تستطيع فرض “قانون قيصر”؛ الذي يُفترض بحسب التصريحات المعلنة أنه لحماية المدنيين السوريين، غير أن استثناء مناطق الشمال الشرقي مقابل خنق النظام السوري وحليفيه الإيراني والروسي؛ يُبرز الطموح الأميركي في تحديد وتثبيت ملامح شكل الخارطة السورية فيما يمكن اعتباره بأن “قيصر” عصا غليظة تلوح بها واشنطن مقابل أي صوت يعارض “الأرخبيل السوري المعزول عن باقي البلاد” في الشمال الشرقي، وتهيئته ليكون قبرص شمالية جديدة.
من دايتون إلى أتيلا
كان سعي الجانب الروسي للإسراع في الدخول بمرحلة إعادة الإعمار في سوريا واضحاً خلال الفترة السابقة، غير أن واشنطن كان لها رأي آخر تماما حينما أحبطت تلك المساعي عبر تطبيق عقوبات “قانون قيصر” في شهر حزيران الماضي، ومن ثم تتوج هذا القانون في المناطق الشرقية بسوريا في استثنائهم من العقوبات و توقيع أول اتفاق لتطوير واستثمار حقول النفط هناك. ينبغي لهذا الاستثمار أن يؤسس لاستفادة مستدامة لأهالي المنطقة دونا عن باقي المناطق السورية كبداية لإعادة إعمار المنطقة؛ وتنميتها مقابل ضياع حقوق باقي الفئات السورية من نفطهم الذي انحصرت السيطرة عليها ضمن أيدي سلطة الأمر الواقع هناك، ولكم هل سيقف الأمر عند هذا الحد. بخاصة وأنه يأتي أيضاً كرسالة أميركية صوب روسيا لتبديد أمانيها في السيطرة الواسعة هناك، وكذلك وصول حظر سلطة دمشق في الوصول إلى حقول النفط وبذلك تكون واشنطن قد قطعت “شعرة معاوية” بين الأكراد ودمشق، حيث لا يبدو أنه سيكون هناك أية جولات حوار بين الطرفين طالما بقي الوضع على ما هو عليه.
من جانب آخر ولو نظرنا إلى الجانب التركي حليف واشنطن وشريك موسكو في المنطقة نجد أن احتمالات قيام ما هو أدهى من الفيدرالية في سوريا أمر قابل للتطبيق، وقد نرى قبرص شمالية جديدة في شمال شرق سوريا تناور بها تركيا، و التي قد لن تجد ضيراً في إيجادها طالما أن الجانب الأميركي يبدو أنه عقد العزم للبقاء حتى فترة غير محددة رغم أن الرئيس الأميركي كان ساعيا للانسحاب في ثلاث مناسبات سابقة، ولكن الآن الأمر بات مختلفا وهو أمتن من ذريعة محاربة تنظيم “داعش”.
كان “خط آتيلا” أو “الخط الأخضر” الحد الفاصل الذي قسّم دولة قبرص عام 1974 إلى شطرين، في جزئها الشمالي “دولة غير معترف بها على المستوى العالمي سوى من تركيا” (تُعرف بقبرص التركية أو الشمالية)، وفي المشهد السوري فإن اقتسام الشمال السوري وتحييد الشرق منه لقبرص جديدة هو خيار متاح ويمكن الإشارة إليه أكثر من أي نموذج آخر، فالخط السوري هنا هو خط الحقول النفطية في شرق الفرات.
إذاً فإنه عندما ينطلق الجانب الأميركي من استدامة اقتصادية وكذلك تنمية سياسية وإدارية بعد التوافق الذي رعته واشنطن في شهر حزيران الماضي بين الأطراف الكردية ما سيقلل مخاوف أنقرة من “قوات سوريا الديمقراطية” الذين تتهمهم الأخيرة بالتبعية لـ “حزب العمال الكردستاني”، بحيث يمكن أن تنتشر القوات التابعة “للمجلس الوطني الكردي” المتقارب مع الأتراك عند المناطق الحدودية، وليتم بناء على ذلك إرضاء باقي المكونات بتقاسم سلطة إداري سياسي فعندئذ لن يكون هناك عوائق كثيرة أمام “أرخبيل قبرصي”، طالما أن تركيا اطمأنت وروسيا أدارت مصالحها في مناطق أخرى، وقد تترك واشنطن ملف قتال الجماعات الإرهابية في منطقة إدلب لخفض التصعيد إلى كل من روسيا وتركيا سواء لإشغالهما أو ليكون هذا الملف والسيطرة على ما تبقى من تلك المنطقة بمثابة “حصان طروادة” للجانبين.
مالك الحافظ- باحث و محلل سياسي، خاص لــ “رياليست”