موسكو – (رياليست عربي): كرر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، والذي انتهت فترة رئاسته لاوكرانيا، بتاريخ 20 مايو 2024 تصريحاته القائلة بضرورة جذب روسيا للمشاركة في (قمة السلام الثانية) والتي وصفها بأنها ستكون مكملةً للقمة الأولى التي عقدت في يونيو 2024 في سويسرا، بدون موافقة موسكو، وبدون دعوتها، حيث صرح فولوديمير زيلينسكي قبل ذلك بوقتٍ قصير، أنه من الممكن حالياً بدء عملية التفاوض مع روسيا بمساعدة وسطاء من مختلف البلدان والقارات، لكن موسكو رفضت هذا الإحتمال المقترح من قبل كييف لبدء المفاوضات، ولذلك سيرصد هذا التقرير تأثير دعوة الجانب الأوكراني من أجل التفاوض على الوضع السياسي والأمني والعسكري بالنسبة للجانب الروسي.
- ولعل أكثر ما يلفت الإنتباه في موسكو، هو هدوء الوضع الأمني والعسكري في المدينة التي لم تمسها الحرب إلا نادراً، إلى درجة أنه خلال الأشهر السبعة الأخيرة، كان من الصعب التصديق أن هذه العاصمة تخوض حرباً، إلا من خلال وسائل الإعلام الروسية التي تتابع تغطيتها للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، إذ تعرض هذه الوسائل سير التقدم العسكري الروسي في مختلف جبهات القتال، وهو الأمر الذي يؤكده يومياً القادة السياسيون والعسكريون الروس، تماماً كما يفعل نظرائهم من القادة السياسيين والعسكريين الأوكرانيين، والذين يحاولون من خلال اعترافهم بالتراجع الضغط على عواصم دول حلف الناتو، كي تقوم بمد نظام كييف بالسلاح والعتاد اللازم.
- وقد أتت دعوة زيلنسكي للتفاوض بعد أن اقتنع الأخير بأن الكرملين الروسي، قد نجح ببراعة في تعويض الأضرار الإقتصادية الناجمة عن العقوبات الغربية، وذلك من خلال العدد الكبير من الروس الأثرياء الذين عادوا بسبب العقوبات الغربية، كما تعمدت الحكومة الروسية الحد من التجنيد الإجباري في كبرى مدن البلاد مثل موسكو وسان بطرسبرج، مما أرسى الشعور بالأمان والطمأنينة بين الروس.
- · وقد أسهمت هذه القرارات الحكومية الروسية في عودة العديد من سكان موسكو وسانت بطرسبورغ من الأصغر سناً الذين فروا من روسيا في بداية الحرب، لأنهم لم يعودوا يخشون التجنيد الإجباري، مما أعاد الجيل الشاب إلى المدن الروسية لشغل كافة الشواغر التي تعطلت لفترة وجيزة في مطلع العملية العسكرية الروسية، تماماً كما أسهمت هذه القرارات الحكومية الروسية الجديدة بدعم الحياة في المقاطعات الصناعية الروسية النائية، والتي شهدت طفرة إقتصادية هائلة بسبب عمليات الإنفاق العسكري، حيث قامت الحكومة الروسية بتعوض نقص العمالة الذي ساد في بداية الحرب عن طريق زيادة الأجور، وقد دفعت هذه الإغراءات المالية للحكومية الروسية الكثير من العمال الفنيين من الذين استقالوا في وقتٍ سابقٍ لأسباب مختلفة للعودة إلى العمل، وهو الأمر الذي أدى إلى تعزيز دخولهم، وإستعادة احترامهم لوظائفهم، في خطوةٍ هي الأولى منذ تسعينيات القرن العشرين.
- ولكن، وبالرغم من كل ما تحقق، تؤكد استطلاعات الرأي التي أجراها مركز (ليفاديا) أن أغلبية الروس لا يريدون متابعة القتال ضدَّ القوات الأوكرانية من أجل تحقيق النصر الكامل في هذه الحرب المستمرة (بغض النظر عما يعنيه ذلك النصر)، لأنهم يرغبون في رؤية سلام قائم على التسوية بين الجانبين (الروسي و الأوكراني)، وحتى تلك الأغلبية الكبرى من الروس التي تعارض وقف الحرب، وتعارض عودة أي أراضي من قبل روسيا إلى أوكرانيا كتلك المقاطعات الخمس التي ضمها الكرملين الروسي، فقد باتت تلك الأغلبية أكثر ليناً فيما يتعلق بوقف الحرب في حال بقيت هذه المقاطعات الخمسة في عهدة روسيا أي (دونيتسك ولوهانسك وخيرسون وزابورجيه بالإضافة إلى شبه جزيرة القرم).
- ويعود الفضل في هذا المزاج الروسي (المسالم) ضمن النخب الروسية الحاكمة، وعدم الإعتراض على الرغبة في التوصل إلى سلام يوقف الحرب، إلى مجموعة من ضباط جهاز المخابرات العسكرية الروسية من المعروفين بولائهم للرئيس الروسي فلاديمير بوتين (مباشرةً)، حيث أوضح هؤلاء الضباط أنه سيكون من الأفضل للجيش الروسي (عدم) محاولة اقتحام المدن الأوكرانية الكبرى بالقوة، كما كان الحال في مدينة (ماريوبول) ومدينة (خاركوف)، والتي تعتبر أكبر بثلاث مرات على الأقل من مدينة (ماريوبول)، لأنه وحتى لو نجحت القوات الروسية في اقتحام تلك المدن، فإن الخسائر العسكرية الروسية ستكون هائلة، وكذلك عدد القتلى من المدنيين الأوكرانيين، وهو الأمر الذي رفضه الرئيس بوتين (رفضاً قاطعاً) لأن الرئيس بوتين لا يريد أي أعدادٍ كبيرة من القتلى بين الأوكرانيين، ولا يريد حدوث أي أكوامٍ ضخمة من الأنقاض داخل المدن الأوكرانية، لأنه يعتبرها مدناً (سلافية)، ولذلك فإن أي هدم أو تدمير لهذه المدن، سيجبر روسيا على إعادة بنائها، فضلاً عن أكثرية أبناء الشعب الروسي في الحقيقة، لا يرغبون برؤية إخوتهم من (المسيحيين السلافيين) يقتلون بأيدي أخوتهم الروس.
- والدليل على ذلك، أنه على الرغم من الجهود التي بذلتها بعض الشخصيات الروسية (المتشددة) مثل الرئيس السابق (دميتري ميدفيديف)، والذي تصفه القيادات الغربية، تماماً كما تصنفه وسائل الإعلام الأوكرانية، بأنه يحرض على الكراهية تجاه الشعب الأوكراني، إلى أن العديد من الروس إن لم يكن أكثرهم على الإطلاق، متضامنون مع فكرة وقف الحرب، لأنهم هم أنفسهم من أصل أوكراني.
- ومن هنا ينبع السبب الحقيقي وراء فكرة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتقديم هذه الحرب باعتبارها حرباً ضد حلف شمال الأطلسي، وليست حرباً ضدَّ أوكرانيا، ولذلك فإن المواطنين في البلدين يكرهون الحكومات ولا يكرهون الشعوب، فالأوكرانيون في كييف يؤكدون بأنهم يكرهون القيادة الروسية ولكنهم لا يكرهون الشعب الروسي بأي شكل من الأشكال، تماماً كما يفعل المواطنون الروس الذين يؤكدون كرههم للقيادة الأوكرانية الحالية المتمثلة بنظام كييف الحالي، وعلى رأسه الرئيس فولوديمير زيلنكسي.
- ولهذا السبب، ولطالما أن كلا الشعبين متقبل لفكرة السلام ووقف الحرب (الروسية – الأوكرانية)، فإن خطة النخب الخارجية والأمنية في روسيا تبدو أكثر منطقية للرد على المقترح الأوكراني لتحقيق السلام ووقف الحرب، حيث تؤمن القيادات الأمنية الروسية بفكرة (السلام التوافقي) الذي يمكن أن تقبل به موسكو، وهو عبارة عن معاهدة تصدق عليها منظمة الأمم المتحدة، وتضمن أمن أوكرانيا وأمن روسيا، بدون انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى قيام مناطق منزوعة السلاح تحرسها قوات حفظ السلام التابعة لمنظمة الأمم المتحدة بدلاً من ضم المزيد من الأراضي إلى روسيا، بل على العكس فإن موسكو حينها ستعيد قسماً من أراضي إقليم خاركوف إلى كييف مقابل ضمِّ المزيد من أراضي حوض دونباس أو مقاطعة (زابوروجيه).
- ومع ذلك تعتقد الغالبية العظمى من المحللين ضمن المؤسسات الأمنية والعسكرية الروسية في موسكو، أن الولايات المتحدة الأمريكية، هي وحدها القادرة على إجبار أوكرانيا لبدء محادثات السلام، وأن هذا لن يحدث إلا بعد الإنتخابات الأمريكية، مما يفرض على الأوكرانيين قبول حتمية استمرار الحرب، وليس الحماس الإيجابي للحرب، ويبدو أن إدارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين جاهزة لهذا الخيار، نظراً لأن الرئيس بوتين قد استطاع أن يحصل على ثقة الشعب الروسي، بعد رفضه تعبئة أكثر من جزء ضئيل من القوة البشرية المتاحة في روسيا، كما نجح الرئيس بوتين بعد هذه الخطوة في الحفاظ على هدوء المواطنين الروس، وبلا أدنى شك نجح في إسكات حتى أقوى معارضيه في الداخل، خلافاً للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي (المنتهية ولايته)، والذي بات مستقبله في مهب الريح، لأنه بات مرهوناً بنتائج الإنتخابات الرئاسية الأمريكية التي ستجري في شهر نوفمبر 2024.
آراء المراقبين و المحللين و الخبراء في مراكز الدراسات السياسية و الإستراتيجية الروسية و العالمية:
- يرى العديد من المراقبين و المحللين والخبراء في مجال العلاقات الدولية من المطلعين على تطورات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، مثل الخبير العسكري الروسي، وضابط القوات الروسية الخاصة سابقاً، الجنرال (أناتولي ماتفيتشوك)، أن خطط الرئيس الأوكراني (فولوديمير زيلينسكي) لشن هجوم ضدَّ القوات الروسية حالياً، ليست إلا خدعة محضة، لأن الجيش الروسي أحبط ببراعة خطط كييف لتنظيم هجوم جديد، حيث كانت قيادة القوات المسلحة الأوكرانية على وشك شن هجوم مضاد قوي في اتجاه خاركوف باستخدام طائرات (F-16) من أجل اقتحام أراضي منطقة (بيلغورود) الروسية، ولكن هذه الخطط قد فشلت جميعها بل ألغيت، وهو الأمر الذي دفع فولوديمير زيلنسكي لكي يقوم بطرح دعوات السلام (المفاجئة) على القيادة الروسية في الكرملين لحضور مؤتمرات السلام القادمة لحل الأزمة الأوكرانية.
- ويؤكد الجنرال (أناتولي ماتفيتشوك)، أن نجاح الهجوم الروسي الحاسم الأخير في اتجاه خاركوف، هو الذي أجبر قيادة القوات المسلحة الأوكرانية على تسليم عدد من المناطق الأخرى، وسمح بتقدم القوات الروسية في مواقع أخرى، وهو ما أقلق المخابرات العسكرية الأوكرانية التي حذرت الوحدات الأوكرانية المرابطة بالقرب من مقاطعة (زابورجيه) بأن القوات الروسية قد تنتقل لقتالها في (زابوروجيه) قريباً.
- ولهذا السبب، يرى خبير أمني وعسكري آخر، هو الخبير العالمي (أناتولي ليفين) وهو مدير برنامج أوراسيا وروسيا وأوكرانيا في جامعة جورج تاون، وكذلك المحلل في قسم دراسات الحرب في كلية (كينجز) ضمن العاصمة البريطانية لندن، أن الرئيس الأوكراني (فولوديمير زيلينسكي) قد وقع حالياً في ورطة كبيرة لأنه بات في الواقع العملي، مجرد رجل حربٍ يعيش في ظروف المواجهة العسكرية، وبمجرد توقفها قد تتم عملية تصفيته، فضلاً عن أنه سيتعين على القيادة الأوكرانية الحالية التي يتزعمها (زيلنسكي نفسه) أن تعوض بطريقةٍ أو بأخرى كافة النفقات المالية والعسكرية التي تكبدها الغرب للدفع بالقوات الأوكرانية قدماً على جبهات القتال، ولكن بدون جدوى حقيقية تذكر.
- ويؤكد الخبير (أناتولي ليفين) أن الرئيس الأوكراني (زيلنسكي) يحتاج حالياً إلى فكرةٍ أوحجةٍ أوحتى خطةٍ جديدة من أجل تحفيز حلفائه الغربيين لمساعدته، تماماً كما تمكن في السابق عندما طرح فكرة (الهجوم الأوكراني المضاد)، حيث قام الشركاء الغربيون حينها بتزويده بالمعدات العسكرية اللازمة، لكن هجوم القوات المسلحة الأوكرانية فشل في صيف العام الماضي وزاد من مشاكل وخسائر نظام كييف.
- · ويضيف الخبير العالمي (أناتولي ليفين) أن الرئيس الأوكراني (فولوديمير زيلينسكي)، قد سارع ليبرر ذلك الفشل العسكري أمام الأمريكيين والأوروبيين، بسبب عدم وجود طائرات (إف-16) لدى قواته بعد أن تلقى وعوداً بحصوله على ما يقرب من 20 طائرة أو أكثر، أما الآن، فقد بات الوضع أكثر تعقيداً، لأنه لا يستطيع أن يبرر بهذه الطريقة، نظراً لأن المشكلة العسكرية الأوكرانية لن تحل، حتى لو وصلت هذه الطائرات الغربية، لأن تلك الطائرات لم تعد تستطيع تحويل مجرى العمليات القتالية في أوكرانيا، نظراً لأن القوات الجوية الأوكرانية تدرك جيداً بأنه ومن أجل تغيير مجرى الحرب (الروسية الأوكرانية) فإن نظام كييف يحتاج إلى أكثر من هذا العدد من الطائرات، لأن القوات المسلحة الجوية الروسية قد جهزت أكثر من 300 قاذفة روسية، وأكثر من 700 طائرة روسية من مختلف الأنواع، مزودة بصواريخ روسية حديثة، وذلك لزجها في الأجواء الأوكرانية إذا ما اقتضت الحاجة لذلك.
- وعليه، فإن اقتراح الرئيس الأوكراني (فولوديمير زيلنسكي) ببدء المفاوضات مع روسيا، يأتي من معرفته بأن كفة الحرب تميل لصالح القوات الروسية، وأن كفة الإنتخابات الأمريكية تميل لصالح (دونالد ترامب) وليست لصالح (جون بايدين) الذي انسحب من هذه الإنتخابات، وأن كفة طلب كييف الأخير بمنحها المزيد من الأسلحة مثل المزيد من طائرات (أف 16) القاذفة تميل إلى الرفض أيضاً، وبالتالي فإن كفة مستقبله السياسي بالمجمل، باتت تميل هي الأخرى بعد كل هذا نحو التصفية، ولن ينقذه منها سوى المفاوضات المباشرة مع روسيا التي حرم نفسه هو شخصياً من القيام بها، لأنه وقع سابقاً على مرسوم تشريعي أوكراني يعاقب أي شخص أوكراني من شأنه أن يجلس على طاولة المفاوضات مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ولذلك لم يبقى أمامه سوى الإستسلام وتقبل الهزيمة، أو تقديم عروض التفاوض على القيادة الروسية في الكرملين، حيث باتت تلك القيادة الروسية التي قاتل ضدها لمدة 30 شهراً حتى الآن، هي الجهة الوحيدة التي يمكن أن تنقذ مستقبله السياسي، والذي قارب على الإنتهاء إن لم يجد لنفسه مخرجاً سياسياً أو أمنياً أو عسكرياً، أو حتى قانونياً من شأنه أن يفتح المجال للمفاوضات المباشرة مع روسيا.
حسام الدين سلوم – دكتوراه في تاريخ العلاقات الدولية – خبير في العلاقات الدولية الروسية.