باريس – (رياليست عربي): في اليوم السابع من شهر أبريل مرّ ستة أشهر على بدء عملية طوفان الأقصى، وهو الهجوم العسكري المباغت الذي نفذته المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة على إسرائيل والذي ترتب عليه قيام الأخير بإعلان الحرب و وتدمير قطاع غزة، وإحكام حصار بري بحري جوي غذائي كامل في عمل عسكري مدمر لم يعرفه التاريخ الإنساني المعاصر من قبل، وأظن أنه لم يشاهده التاريخ الإنساني من قبل.
ووفقاً للتقارير والإحصائيات الدولية الرسمية وشبه الرسمية، فإن عدد القتلى والضحايا والمفقودين معظمهم من النساء والأطفال والشيوخ تجاوز 120 ألف فلسطيني، وتدمير مباني وبنية تحتية تجاوزت الـ 20 مليار دولار أميركي:
وسط إغلاق كافة المعابر البرية والبحرية والجوية، وضرب عرض الحائط بكافة القرارات الدولية الصادرة عن المنظمات الدولية ومحكمة العدل، بل وقتل الصحفيين وموظفي الإغاثة والإسعافات والأطقم الطبية وهم بالمئات والذي تجاوز عددهم الـ 300 قتيل، فقط للأمم المتحدة وهو العدد الأكبر في تاريخها حسب تصريح أمينها العام، ومنع دخول الغذاء والدواء، بل إن الولايات المتحدة الأمريكية تلقي شحنات الغذاء جواً بالطائرات، وكذلك المملكة الأردنية.
ورغم عشرات اللقاءات والاجتماعات والمؤتمرات الدولية التي عقدت والتي تطالب بوقف إطلاق النار الفوري، والإدانة من دول كثر حول العالم لم تتعرض لها إسرائيل منذ نشأتها بقرار من الأمم المتحدة في 15 مايو من عام 1948، ولا شيء ينفذ، بل يزداد القتل والتدمير والقوة المفرطة.
المظاهرات والاحتجاجات التي تجتاح عواصم العالم بشكل يومي رفضاً لتلك العملية العسكرية المستمرة على قطاع غزة خلال الأشهر الماضية، على مرأى ومسمع العالم كله، دون أي نتيجة.
تشريد وتهجير ما يقرب من 3 مليون مواطن في قطاع غزة، أصبحوا من سكان المخيمات والمدارس والمستشفيات والعراء.
في ضوء ما نراه ونشاهده يمكن أن نرصد أهم الملامح التحليلية للمواقف الجيوسياسية العالمية والإقليمية على النحو التالي:
المشهد العالمي
الموقف العالمي غير حاسم من المذابح والمجازر التي تحدث كل دقيقة على مدى أكثر من 180 يوم الماضية، ولكن تصويت مجلس حقوق الإنسان الأخير بحظر تصدير السلاح لإسرائيل بتصويت 28 لصالح القرار مقابل رفض 6 دول هم: بالطبع الولايات المتحدة الأمريكية، وألمانيا وبلغاريا من أوروبا، الارجنتين والباراغواي من أمريكا اللاتينية، ودولة المالاوي من إفريقيا، يتضح أن ما يزيد عن 83% من العالم ضد وغير موافق على السياسة الإسرائيلية، وأن أربع دول من أصل الخمسة دائمي العضوية بمجلس الأمن والأمم المتحدة، وهي روسيا والصين وفرنسا وبريطانيا لا تؤيد الجانب الإسرائيلي كما كان في السابق، وهي الأمور الجديرة بالملاحظة والاهتمام من جانب المحللين السياسيين، ناهيك عن الأزمات العالمية الأخرى: الأزمة الروسية الأوكرانية، والطاقة، والهجرة والأزمات الاقتصادية والمالية
والصراع المعلن والخفي بين الدول الكبرى شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً.
الموقف العربي
من الواضح للقاصي والداني أن الموقف العربي لا يحتاج إلى تعليق، فمعظم الدول تعاني من مشاكل وأوضاع اقتصادية واجتماعية وسياسية غير مستقرة، وأن هناك اتفاق شبه معلن بأن أغلب تلك الدول قد ضاقت من ملف القضية الفلسطينية الذي استنفذ كثير من موارد ومقدرات وأموال كثيرة دون جدوى، بل إن هناك كثير من الدول يرجع سبب تراجعهم الاقتصادي والاجتماعي بسبب مشاركتهم في الدفاع عن القضية الفلسطينية والمطالبة بحقوق الشعب الفلسطيني، كما أن انقسام البيت الفلسطيني بين سلطة شبه عاجزة ومنظمات وجماعات مختلفة إيديولوجياً متصارعة متناحرة في مواقف أخرى كثيرة، كما أن المقاومة ذات الراديكالية الإسلامية مرفوضة من الدول القوية بسبب ارتباط تلك المقاومة بجماعة الإخوان المسلمين المحظورة بتهمة الإرهاب، أو بسبب ارتباطها الوثيق مع الجانب الإيراني المتهم بالتدخل في شؤون عدد من الدول العربية، وأن السياسة الإيرانية تثير القلاقل وعدم الاستقرار والانقسام في المنطقة العربية، كما هو الوضع في اليمن والعراق ولبنان وسوريا، كما أن هناك دول عربية اختارت طريق التطبيع، والاندماج فيما يعرف باتفاقيات أبراهام، كما من الملاحظ أيضاً أن عدداً من الدول العربية يشهد تشييد مشروعات تنموية ضخمة ذات تكلفة هائلة، ومن أجل تحقيق النتائج التنموية المتوقعة من تلك المشروعات يلزم لتهيئة مناخ مستقر جاذب للتمويل والاستثمار لتلك الدول مستقبلاً، لذا هناك اتفاق همايوني على إقفال أو على أقل تقدير تجميد الملف الفلسطيني الطارد للاستقرار والتنمية، كما أن هناك دول أخرى ليس لها الوزن والقدرة على فعل أو تغيير أو حتى التعبير عن موقفها، ولكن الملاحظ بشكل عام أن هناك فجوة وهوة كبيرة بين القرار السياسي والموقف الشعبي في عدد كبير من دول تلك المنطقة.
الموقف الأمريكي
الموقف الأمريكي كان موقف مثير للانتباه حقاً، سواء كنت مع أو ضد، موافق أو رافض، مؤيد أو معارض، هو موقف أرى أن يجب أن نرصد منه استراتيجية التعامل السياسي مع الحليف وكيفية تطور هذه السياسة، بدء الموقف الأمريكي شديد الدعم والتأييد لموقف إسرائيل، تجلى ذلك بقيام الرئيس الأمريكي جون بايدن بزيارتها على الفور، وقبله وزبر الخارجية بلينكن والذي أعلن أنه يزورها باعتباره أولاً كيهودي وليس كوزير، وتوالت شحنات أسلحة هائلة و مفتوحة، دون المرور علي إجراءات قانونية أو تشريعية، وبالمخالفة لما متبع في النظام الأميركي، باستخدام حق الفيتو ضد أي قرار يمس إسرائيل،
على أمل أن تحقق إسرائيل انتصارها الساحق على المقاومة في قطاع غزة واسترجاع الرهائن، ولكن مع طول مدة الحرب، وعدم تحقيق أي هدف من أهدافها أرض الواقع، ومع ضخامة عدد القتلى من المدنيين: معظمهم من الأطفال والنساء وكبار السن، بل وطرد مسؤولي وكالة الأونروا الأممية المسؤولة عن تسيير أعمال الإغاثة، وتوزيع الغذاء والدواء على المحتاجين من سكان القطاع، مع قتل الصحفيين، وموظفي مركز المطبخ العالمي، وتنامي المظاهرات والاحتجاجات ضد الإدارة الأمريكية في معظم الولايات الأمريكية.
وأيضاً، قيام طيار أمريكي يحرق نفسه، واستقالة عدد ليس بالقليل من مسؤولي الخارجية لرفض السياسة الأمريكية المنحازة بشكل سافر لإسرائيل، ومع بداية فعاليات الانتخابات الحزبية لرئاسة الأمريكية، والمقرر لها شهر نوفمبر القادم، ومع تنامي تغير عدد من حلفاء أمريكا وإعلانهم صراحةً رفضهم للعدوان الإسرائيلي، واتهامها بالإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة، وهو الأمر الذي دفع السيناتور تشاك شومر زعيم الديمقراطيين بمجلس الشيوخ يشن هجوماً ضارياً على نتنياهو في سابقة هي الأولى في تاريخ علاقات أمريكا مع الدولة العبرية، كل ذلك، ولأسباب أخرى كثيرة، دفع بايدن وإدارته بتغيير استراتيجية التعامل مع الأزمة، فلجأت إلى ما يعرف في بعض الدوائر السياسية “سياسة أقلب الشراب” ومفهومه التغيير، فقررت الاستعانة بعضو حكومة الحرب مستر جالانت كبديل لنتنياهو الذي لا يبدي اي تغيير أو مرونة في موقفه المتعنت لأسباب شخصية وسياسية، وأقلها أهمية هو أنه يبلغ من العمر 76 عاماً، متهم بقضايا فساد وتربح، أطول رئيس وزراء في تاريخ إسرائيل، أصبحت شعبيته في الحضيض، ارتمى في أحضان اليمين المتطرف والتعصب فليس هناك سبب يجعله يغير سياسته الدموية، فماذا فعل مستر جالانت بعد عودته من زيارة لأمريكا؟ لا تغيير، واتضح لأمريكا وللعالم أنهم كلهم نتنياهو.
الموقف الإسرائيلي
من المؤكد أن إسرائيل شعباً وحكومة تعيش كابوس مرعب منذ يوم السابع من أكتوبر الماضي، ولم تفيق أو تصدق ما حدث، تنامي وتعاظم هذا الكابوس مع عدم تحقيقها أي هدف من أهدافها التي سبق وأن أعلنتها روجت لها داخلياً وعالمياً، بل تكبدت خسائر بشرية وعسكرية واقتصادية فادحة لم تتعرض لها من نشأتها، تنامي الرأي العام الداخلي والعالمي المناهض لسياسة نتنياهو، فالشوارع الإسرائيلية تشهد مظاهرات حاشدة، وكذلك معظم العواصم الغربية الكبرى، الجبهة السياسية والشعبية في الشارع الإسرائيلي في حالة انقسام كبيرة، تهدد بقاء الدولة العبرية، كما أعلن بعض السياسيين، أن نتنياهو أصبح عالة ومصدر تهديد للدولة العبرية، والتي أصبحت في موقف وأزمة تهدد بقائها.
ذكاء أم غباء اصطناعي؟
من الجدير بالملاحظة والاهتمام، هو الاستخدام المتصاعد والمتزايد للطائرات المسيرة في الصراعات المسلحة، والتي أصبحت تلعب دور مهم وخطير وحاسم في تحديد نتائج الأهداف العسكرية، كما أن الكشف عن استخدام الذكاء الاصطناعي l’intelligence artificielle في هذه الحرب، وأن قتل 7 من موظفي مركز المطبخ العالمي سببه خطأ في تحديد الهدف بناء على المعلومات المحددة من قبل مستخدمي تلك التكنولوجيا والتي تعتمد على تحديد بصمة الصوت عن طريق شبكات الاتصالات العالمية، وكذلك شبكات التواصل الاجتماعي، بل عن طريق شركات E-COMMERCE شركات البيع عبر الإنترنت، ومنها شركات عالمية كبرى، وهو الأمر شديد الخطورة ويضع العالم مستقبله على المحك، فقد يحدث خطأ يطيح بالعالم كله؟ وسوف نكون ضحية الغباء الاصطناعي وليس الذكاء؟
ماذا بعد؟؟؟
من معطيات الواقع، وهذا المشهد العنكبوتي، يمكن استخلاص بعض النقاط المهمة:
أولاً، من الصعب على الساسة الإسرائيليين الحاليين والقادمين، القبول ببقاء المقاومة الفلسطينية المسلحة مصدر تهديد لإسرائيل ومواطنيها، ومن يظن أن إسرائيل سوف تقبل بإقامة دولة فلسطين بجانبهم عليه التريث والتأني، خاصة وأن الجانب الإسرائيلي في مأزق شديد التعقيد، داخلياً وعالمياً، لعدم القدرة على التصرف والتفرقة في التعامل مع مجريات الأحداث والأمور كدولة إسرائيل ذات سيادة، أم كدولة دينية يهودية عبرية لها أهداف عقائدية ترغب تحقيقها، وهو الأمر الذي يجعلها تتصادم مع الرأي العام العالمي، وتآكل الدعم الأمريكي لها لأول مرة في تاريخ علاقتها المميزة بينهم.
ثانياً، من يظن أنه يمكن القضاء الكامل والتام على المقاومة الفلسطينية المسلحة، حتى وإن قامت مستقبلاً دولة فلسطين، عليهم أيضاً مراجعة حساباتهم، وأن ما قامت به المقاومة الفلسطينية خلال السبعة أشهر الماضية، سبقه إعداد كبير وتخطيط عالي الجودة والكفاءة، خاصة وأن السلطات الإسرائيلية قد أعلنت أنها وجدت مخازن للأسلحة والذخيرة معظمها صينية الصنع، كما في تقارير أخرى صدرت عن الجانب الإسرائيلي تفيد بأن المقاومة الفلسطينية تحصل على بعض من أسلحتها بشرائها من الإسرائيليين أنفسهم، فالزعم بأن معظم أسلحة المقاومة قادمة من إيران محل شك كبير.
ثالثاً، المنظمات الدولية ليس لها حول ولا قوة اليوم، وفي المستقبل القريب، مع استمرار تضارب مصالح الدول الكبرى، والقرارات الصادرة عنها لا قيمة لها مادام ليس قوة تنفيذها على أرض الواقع، وهذا يعلمه الجميع جيداً.
رابعاً، معظم دول العالم لديها من المشاكل الداخلية، ما يجعلها مقيدة مكتوفة الأيدي من اتخاذ مواقف صريحة وحازمة أمام ما يحدث في غزة من مجازر دامية.
الخلاصة
الإدارة الأمريكية تحاول، الضغط بكافة الوسائل على الساسة الإسرائيليين، لوقف إطلاق النار كهدف استراتيجي قصير المدى، مع إحداث تغيير في الحكومة الإسرائيلية الحالية التي يسيطر عليها اليمين المتطرف، بحكومة تقبل بالحلول السياسية بعد ذلك، خاصة وأن المصالح الأمريكية والغربية تتعرض لتهديد وأضرار واضحة بسبب أذرع إيران في البحر الأحمر وسوريا ولبنان والعراق.
كما أن الدور الذي تلعبه قطر حالياً أصبح يحوز على ثقة وتأييد الإدارة الأمريكية، وهو الأمر الذي أزعج نتنياهو وحكومته، مما جعلها تشن هجوماً ضارياً على قطر، خاصة بعد الإعلان عن مد اتفاقية القاعدة الأمريكية بالدوحة مؤخراً.
على الجانب الإسرائيلي يحاول نتنياهو مد أمد الصراع، حتى موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة، على أمل فوز الجمهوريين وعودة دونالد ترامب، وهم المؤيدون لسياسة نتنياهو، كما يحاول نتنياهو أيضاً توسعة نطاق الصراع العسكري لمناطق أخرى خارج قطاع غزة، وخاصة مع إيران سواء بشكل مباشر ولذلك قامت بضرب القنصلية الإيرانية في سوريا والذي أسفر عن مقتل 7 من مسؤولي الحرس الثوري الإيراني، والذي توعدت إيران بالرد عليه.
ففي حالة قيام إيران بتنفيذ ذلك الرد، سوف تكون فرصة لنتنياهو وحكومته لاسترداد تأييد العالم وتعاطفهم معه مرة أخرى في الرد على إيران بشكل مباشر أو ضرب عملائها في المنطقة، وبالتالي سوف تكون الفرصة سانحة لاقتحام مدينة رفح دون معارضة إقليمية أو دولية، خاصة وأن ما روج له نتنياهو في بداية العملية العسكرية أنه يحارب الإرهاب، وأن على العالم الوقوف بجانب إسرائيل ودعمها، لأنها تحارب نيابة عن العالم الحر، كما حاربت معهم في السابق ضد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، ولكن تلك الدعاية فقدت صلاحيتها مع ما يشاهده العالم من مجازر وتجويع على مدار السبعة أشهر الماضية.
إن الأمل في تغير مواقف الأطراف المتصارعة والمتنافرة في الزمن القريب، ضعيف، فعلى الجانب إسرائيلي ينظر للأزمة بأنها قضية وجود واستمرار، وأمريكا تنظر لمصالحها، وأن تأييدها المطلق لإسرائيل اليهودية، وليس السياسية، سوف يورطها وأصبح عبء ثقيل، يدفعها، ولو في الظاهر أن تعلن عن رفضها لسياسة نتنياهو وحكومته، لحفظ ماء الوجه أمام الرأي العام العالمي، كما على الجانب العربي، نفس الشيء ليس هناك تفاؤل كبير باتخاذ موقف حازم وقوي أمام ما تفعله إسرائيل، وأنه سوف يستمر في الشجب والتنديد والرفض والقلق، والحزن والدعاء، ولكم ولنا الله، تقبل الله صيامنا وعيد مبارك.
خاص وكالة رياليست – د. خالد عمر – فرنسا.