د. محمد سيف الدين :”يُروى فى التراث الشعبى الإيرانى أن ثعلبًا تلحف بعباءة شيخ واِعتمر عمامته، وسار فى الغابة متضرعًا إلى الله كى يسامحه على ما اقترف من آثام ويقبل توبته، وادعى أنه سيذهب إلى مكة للحج وإعلان توبته هناك والتكفير عن ذنوبه، فصدقته حيوانات الغابة والتفت حوله، وبدأت تتوسل إليه ليصطحبها معه فى هذه الرحلة المباركة، ويكون إمامها ومرشدها، فوافق الثعلب ومضى بالحيوانات، ولكن فى الطريق راح يفترسها الواحد تلو الآخر!!..
فى هذا السياق يأخذنا الفيلم الإيرانى “مارمولک” Marmoulak إلى رحلة مثيرة؛ نتتبع خلالها حكاية “لص” انتحل شخصية “رجل دين” حتى يتسنى له الفرار خارج البلاد، حيث نرى كيف يستغل رجال الدين فى إيران مظهرهم المقدس فى نفوس الشعب من أجل تحقيق مصالحهم الشخصية، وهو الأمر الذى بلوره الشاعر والمتصوف الإيرانى “أوحدى المراغى” حينما أنشد فى سِيرة رجال الدين قائلًا: “آه من هؤلاء الوُعَّاظ القارعين على المنبر، ألا يستحون من خشب المنبر!!”.
مشهد من الفيلم
تظل قضية المتاجرة بالدين قضية أزلية، يستخدمها العديد من الأشخاص من أجل خداع الناس والسيطرة عليهم وتوجيههم فى إطار محدد تحت مسمى الدين والشرع، وذلك بهدف تحقيق مصالحهم وأهدافهم الشخصية التى لا تتفق على الاطلاق مع الدين.
والحقيقة إن المجتمعات التى يسيطر عليها رجال الدين أو المجامع الدينية، عادة ما يستشرى فيها الجهل والعزوف عن إعمال العقل، وتتزايد فيها مساعى الخروج عن القيم الدينية، وينحصر فيها الدين على المظاهر الخارجية والأمور الشكلية التى تبتعد عن الجوهر السامى للدين؛ فعندما تقاس درجات التدين فى مجتمع ما بالمساجد التى تعج بالمصلين، واللحى التى تكسو الوجوه، والملابس التى تغطى الأجساد فحسب، ندرك جيدًا أن هذا المجتمع يعيش فى ظل رياء دينى ممنهج ويبتعد كل البعد عن أصول الدين الصحيح.
ويجدر بنا الإشارة فى هذا المقام إلى المقولة الخالدة للفيلسوف الأندلسى “ابن رُشد” (1126 – 1198م) التى صرح بها منذ ما يقرب من 9 قرون، حيث قال: “إن التجارة بالأديان هى التجارة الرائجة فى المجتمعات التى ينتشر فيها الجهل، فإذا أردتَ أن تتحكم فى جاهل، فعليك أن تغلف كل باطل بغلاف دينى”.. تلك العبارة تلخص الكثير من الأوضاع فى أغلب “المجمتعات الإسلامية”؛ ولا سيما “المجتمع الإيرانى” فى ظل “الجمهورية الإسلامية”.
إن النظام الذى وضع “الخمینى” لبنته الأولى منذ ما يزيد عن 40 عامًا، قام فى الأساس على نظرية “ولاية الفقيه”، وضرورة وجود رجل دين “إمام” يلتف حوله الناس كى يقودهم ويوّجههم، بل ويحكمهم أيضًا. ومنذ ذلك الحين تلحفت إيران بعباءة رجال الدين وبدأت تسير فى ركابهم إلى يومنا هذا.
لم يخجل النظام الإيرانى من استخدم الدين ستارًا له، يخفى وراءه أهدافه المغرضة التى طالما كانت ومازالت تتعارض مع مصالح شعبه. مليارات الدولارات التى يتم صرفها فى إطار دعم الجماعات الشيعية الموالية للنظام الإيرانى فى العالم العربى، بهدف تغلغل هذا النظام فى المنطقة، بالإضافة إلى الأموال الطائلة التى يتم ضخها فى إطار تطوير البرنامج النووى، لاستخدامه كورقة ضغط على الغرب وإرهاب دول العالم، كل هذا يتم تحت مسمى إعلاء “راية الإسلام” و”مجابهة قوى الاستكبار”، كما يقولون دائمًا، وهى الشعارات التى يستخدمها النظام الإيرانى، من أجل السيطرة على شعبه وإبقائه دائمًا فى وضعية “الدم المتجمد”.
مارمولک
فى هذا السياق يأخذنا الفيلم الإيرانى “مارمولک” Marmoulak إلى رحلة مثيرة؛ نتتبع خلالها حكاية “لص” انتحل شخصية “رجل دين” من أجل خداع الناس والفرار خارج البلاد. عُرض “مارمولک” لأول مرة عام 2004م، إلا أنه رُفع من دور العرض الإيرانية بعد عدة أشهر بسبب حساسية موضوعه، وهو من تأليف پِیمان قاسم خانی، وإخراج کمال تَبریزی، وإنتاج مَنوچهر مُحمدی، وبطولة پَرویز پَرستویی، وبَهرام ابراهیمی، وشاهرُخ فروتِنیان.
قصة الفيلم
تدور أحدث الفيلم، فى إطار درامى – كوميدى، حول اللص المحترف “رضا مثقالى” الشهير بـ “رضا مارمولک” الذى يتسلق جدران المنازل بسرعة ومهارة ويسرق منها كل ما يصل إلى يديه. يتم القبض عليه ويسجن عدة مرات، ولكن فى المرة الأخيرة يُتهم بالضلوع فى عملية سطو مسلح، ويُرّحل إلى سجن يرأسه السيد “مجاور”، وهو رجل قاسى وخشن الطبع، يرى أن السجن ليس مكانًا لمعاقبة الجناة وتأديبهم فحسب، بل هو كذلك مكان لإصلاحهم وتهذيب روحهم، وعلى هذا يعتبر السجن بمثابة مصحة نفسية لعلاج السجناء، ويعتقد أن معاملة السجناء بقسوة هى الوسيلة المثلى كى يبتعدون عن طريق الخطيئة ويستقيم أمرهم، وبناء على هذا يأمر السيد مجاور بإيداع رضا فى الحبس الإنفرادى نظرًا لسجله الإجرامى الحافل.
يفكر رضا فى الفرار من السجن، حيث يسرق قارورة دواء من عيادة طبيب السجن حتى يتناول منها بعض الأقراص ويدعى المرض، فيتم نقله إلى المستشفى ويتسنى له الهروب. يبدأ رضا فى تناول الأقراص، ولكن يراه أحد السجناء، فيظن أنه يود الانتحار، ويحاول أن يثنيه عن ذلك، وخلال اشتباكهما تنكسر قارورة الدواء وتصيب ذراع رضا بجرح غائر. يُنقل رضا إلى المستشفى، ولكن نظرًا لإشغال كافة الغرف، يتشارك غرفة مع شيخ يدعى “رضا” أيضًا. أثناء دخول الشيخ الحمام، يرتدى رضا عباءته وعمامته، وينجح فى الفرار من المستشفى، فلا أحد يجرؤ على التشكيك فى هوية رجل الدين أو التقصى فى أمره.
يستقل رضا القطار متوجهًا إلى القرية التى يعيش فيها صديقه مزور جوازات السفر كى يزوِّر له جواز سفر ويفر خارج البلاد، ولكن بمجرد ترجله من القطار، يجد إمام صلاة الجمعة فى مسجد القرية وتلاميذه فى استقباله، ظنًا منهم أنه “حجة الإسلام والمسلمين” الذى أرسلته الحكومة فى العاصمة طهران، لإلقاء خطب الجمعة والدروس الدينية على أهالى القرية، نظرًا لأن إمام المسجد لم يصل بعد إلى هذه الدرجة الدينية الرفيعة، حيث أن درجة “حجة الإسلام والمسلمين” فى الحوزة العلمية الشيعية تُمنح لأكثر علماء الشيعة اجتهادًا.
على هذا النحو يبدأ فصل جديد فى حياة رضا اللص، ولكن فى ثوب رجل الدين، حيث ينعم بالمسكن والمأكل والتبجيل، نظير الدعاء لأهالى القرية وإسداء النصائح لهم وإلقاء المواعظ عليهم كل جمعة، فى حين أنه لا يعرف كيف يتوضأ أو يؤم الصلاة أو يتلو القرآن!!، ومن هنا تكمن أغلب المواقف الكوميدية فى الفيلم. وعلى الرغم من جهل رضا بأمور الفقه والشريعة والإفتاء، إلا أن كل ما كان يوعظ به أهالى القرية يتم استقباله بترحاب واعجاب شديدين، حتى وإن بدا كل ما يقوله بعيدًا عن المنطق، حيث تُفسر كل أقواله وأفعاله السيئة على أنها أمور طيبة، بل ويُثنى عليها كذلك. فعلی سبیل المثال حینما يتنكر رضا فى ملابس عادية ويذهب ليلًا متسترًا بالظلام الحالك إلى منزل صديقه الذى يزور جوازات السفر، يظن أهالى القرية أنه يذهب إلى مساعدة الفقراء ومنحهم المال والطعام، فيعرضون عليه المشاركة فى فعل الخير ويهب الجميع لجمع التبرعات فى سبيل مساعدة الفقراء.
مع مرور الوقت يتأثر رضا باللباس الموقر الذى يرتديه، وينعكس ذلك على شخصيته ويحدث تغيير كبير له، وشيئًا فشيئًا يصبح له الكثير من المريدين، ويجرى اسمه على الألسنة، وتصل شهرته إلى القرى المجاورة، مما يدفع رئيس السجن السيد مجاور إلى التواصل معه كى يلقى خطابًا وعظيًا على السجناء لنصحهم وإرشادهم وتوجيههم معنويًا، وهنا نلمس قدر التغير الذى طرأ على شخصية رضا، حيث تجرى دموعه وهو يخطب فى السجناء قائلًا: “الحضور الكريم.. السلام عليكم؛ وأخص بالذكر أصدقائى الأعزاء من المذنبين.. إن الله ليس إله الصالحين فحسب، ولكنه إله المذنبين كذلك، إن الله لا يفرق بين عباده، ففى حقيقة الأمر إن الله هو الخیر والعفو والمغفرة والرحمة والمحبة.. على أى حال ليس هناك إنسان ليس لديه طريق للوصول إلى الله”.
حينما يرى السيد مجاور رضا خلال الخطبة، يشبّه عليه ويشك فى أمره، خاصة مع حالة التوتر التى انتابت رضا حين رآه. يبحث السيد مجاور فى أمر إمام القرية الجديد، إلى أن يصل فاكس من العاصمة طهران يفيد بأن إمام الجمعة الحقيقى “رضا محمدى” الذى كان من المفترض أن يذهب إلى القرية، قد وافته المنية متأثرًا بمرضه، حيث ندرك أن هذا الإمام هو نفسه “الشيخ رضا” الذى شاركه “رضا اللص” غرفته فى المستشفى، وعلى هذا النحو تتأكد شكوك السيد مجاور فى حقيقة رضا اللص ويسرع لإلقاء القبض عليه.
يصطحب السيد مجاور رضا معه فى سيارة الشرطة، ولكن دون وضع الأصفاد فى يديه، إكرامًا لما قدمه من خدمات محمودة لأهالى القرية، وأنظار الأهالى معقودة عليهما فى دهشة وذهول، حيث كان من المقرر أن يترأس رضا مراسم الاحتفال الكبير الذى يقيمه أهالى القرية فى المسجد بمناسبة مواظبتهم على الصلاة وفعل الخير، وفى خلفية المشهد يرتفع صوت رضا بجملته التى قالها أثناء خطبته أمام السجناء: “على أى حال لا يوجد إنسان ليس لديه طريق للوصول إلى الله”…
اقتباس الفيلم
كما هو واضح من قصة “مارمولک” أنه تم اقتباسه عن الفيلم الأمريكى We’re No Angels “نحن لسنا ملائكة” الذى تم انتاجه عام 1955م، وهو من تأليف رنالد ماكدوجل، وإخراج مايكل كورتيز، وبطولة همفرى بوجارت، وآلدو ری، وبيتر ألكسندر أوستينوف. وتدور أحداثه حول هروب ثلاثة سجناء إلى مستعمرة فرنسية، حيث يلجئون إلى متجر تديره عائلة بهدف سرقته، ولكن بمرور الوقت تنشأ علاقة طيبة بين الهاربين الثلاثة وأفراد العائلة، ويتعاونون معًا فى إدارة المتجر وإزدهار نشاطه.
وفى عام 1989م تم انتاج نسخة ثانية من الفيلم بالعنوان نفسه، وهى النسخة الأقرب لموضوع “مارمولک”، وكانت من تأليف ديفيد ماميت، وإخراج نيل جوردن، وبطولة روبرت دى نيرو، وشون بن، وديمى مور. وتدور قصة الفيلم حول هروب سجينين إلى بلدة صغيرة شمالى نيويورك، قرب الحدود الأمريكية – الكندية، حيث يظن أهالى البلدة أنهما القسيسان اللذان تم إيفادهما إلى الدير، ومع تواجد السجينين فى الدير وارتدائها ملابس القساوسة يحدث تغير جذرى فى شخصيتهما.
ويُذكر أن الفيلمين تم اقتباسهما عن المسرحية الكوميدية My Three Angels “ملائكتى الثلاثة” للزوجين صموئيل وبيلا سبيواك التى تم انتاجها عام 1953م، وهى بالتبعية مقتبسة عن المسرحية الفرنسية La Cuisine Des Anges “طبيخ الملائكة” للكاتب ألبرت هوسون التى قُدمت عام 1952م.
وتجدر الإشارة إلى أن مسرحية “طبيخ الملائكة” قام “ثلاثى أضواء المسرح” بتمصيرها وتقديمها على خشبة المسرح بالعنوان نفسه عام 1964م، ثم أعادوا تقديمها مرة أخرى فى فيلم بعنوان “لسنا ملائكة” عام 1970م.
الحدق يفهم
ولكن بمشاهدتنا فيلم “مارمولک” نجد أنه يتشابه بشكل كبير مع الفيلم المصرى “الحدق يفهم” الذى تم اقتباسه هو الآخر عن القصة الأجنبية. والفيلم من انتاج عام 1986م، وتأليف فاروق سعيد، وإخراج أحمد فؤاد، وبطولة محمود عبد العزيز، وهالة فؤاد، وأمين الهنيدى، وأحمد بدير، وأحمد فؤاد سليم.
وتدور أحداث الفيلم حول “الشيخ عاشور” إمام مسجد عزبة كَفر النور الذى يذهب إلى عزبة كفر مازن المجاورة، لجمع التبرعات من أجل ترميم الكفر بعدما جرفه السيل، فيعترض طريقه أحد المطاريد ويدعى “جابر” –محمود عبد العزيز– ويستولى على ملابسه ومتعلقاته الشخصية، ويذهب إلى الكفر منتحلًا شخصيته طمعًا فى الاستيلاء على أموال التبرعات. ينخدع أهالى الكفر حينما يروه فى هيئة الشيخ الأزهرى، ويعتقدون أنه صاحب كرامات. وكما جرى الحال فى الفيلم الإيرانى تُفسر كل أفعال جابر السيئة على أنها أمور طيبة، ويحظى بمحبة أهالى الكفر واحترامهم، وبالتدريج يتأثر بالزى الدينى الذى يرتديه وينعكس على شخصيته.
ومما لاشك فيه أن المخرج الإيرانى “كمال تبريزى” قد شاهد الفيلم المصرى أو اطلع عليه بشكل أو بآخر، خاصة مع تطابق جزء كبير من الأحداث الدرامية فى “مارمولک” مع “الحدق يفهم”، ومحاكاة الفيلم الإيرانى لعدد من المشاهد الواردة فى الفيلم المصرى. بالإضافة إلى ذلك كان لتشابه زى رجال الدين الإيرانيين مع زى شيوخ الأزهر، وتشابه ملابس أهالى القرى فى مصر وإيران مع بعضها بعضًا، فضلًا عن الطبيعة شبه المتقاربة للريف فى كلا البلدين، الأثر الكبير فى اقتراب الفيلم الإيرانى من الفيلم المصرى، ولكن مع الأخذ فى الاعتبار اختلاف البناء الدرامى وتسلسل الأحداث فى الفيلمين، حيث جسد كل فيلم ملامح وسمات المجتمع الذى يتحدث عنه. كما نجد أن الشخصية القاسية لرئيس السجن السید “مجاور” فى “مارمولک” تتشابه إلى حد كبير مع شخصية الضابط “خافيير” فى رواية Les Misérables “البؤساء” للكاتب الفرنسى “فيكتور هوجو”.
منع مارمولک من العرض
إهانة رجال الدين فى إيران كان السبب الرئيسى للحيلولة دون استمرار عرض “مارمولک” فى البلاد، وكان الفيلم قد عُرض فى الدورة الـ 22 من مهرجان “فجر السينمائى الدولى” فى إيران عام 2004م وأحدث ضجة كبرى. وعلى الرغم من أن منتج الفيلم “منوچهر محمدی” كان قد فتح باب المزاح مع رجال الدين قبل ذلك بعدة سنوات من خلال إنتاج فيلم “زير نور ماه: تحت ضوء القمر” عام 2001م، إلا أن أجواء فيلم “مارمولک” ونوعية المزاح الواردة به كانت أكثر مما تتحملها العديد من الجماعات الدينية المتشددة فى إيران، فعقب مهرجان فجر، تم تقييم الفيلم وتدقيقه من أجل العرض العام، إلى أن عُرض فى 21 إبريل 2004م، وفى النهاية مع استمرار حملات الضغط لوقف عرض الفيلم، تم رفع “مارمولک” من دور العرض بعد 4 أسابيع فقط من عرضه، على الرغم من تصدره شباك التذاكر فى إيران، حيث بلغ إجمالى إراداته حتی 16 مايو من العام نفسه 734 مليون تومان.
ويقول المخرج “كمال تبريزى” فى هذا الصدد: “إن معارضى الفيلم كانوا يعتبروننا كفارًا، وبلغ بهم الأمر إلى حد الحكم بحبسنا وإعدامنا، وكانوا يقولون: إنهم يسخرون من لباس الرسول”. والأنكى من ذلك إن قضية عرض “مارمولک” قد وصلت إلى “المجلس الأعلى للأمن القومى الإيرانى” الذى كان يتولى رئاسته آنذاك الرئيس الإيرانى الحالى “حسن روحانى”، وطبقًا لما يذكره كمال تبريزى، كان روحانى من معارضى الفيلم بشدة، حيث يقول: “لقد شاهدتُ الفيلم مع السيد روحانى فى المجلس الأعلى للأمن القومى، وكان السيد روحانى معارضًا للفيلم، وقال فى وجهى علنًا: إن الفيلم يجب وقف عرضه، ويجب محاسبتكم أيضًا”.
مارمولک فى المهرجانات المحلية والدولية
على الرغم من المشاكل التى قد واجهها فيلم “مارمولک”، إلا أنه تمكن من اقتناص عدد من الجوائز المحلية والدولية، حيث حصد الفيلم جائزة “زينيث الذهبية” كأفضل فيلم آسيوى من مهرجان “مونتريال السينمائى الدولى” بكندا، وجائزة “أفضل فيلم” من مهرجان “هامبورج السينمائى الدولى” بألمانيا، وقد تسلمهما المنتج “منوچهر محمدی”، كما حصد الفيلم أغلب جوائز مهرجان “فجر السينمائى الدولى” خلال دورته الـ ۲۲، حيث نال “منوچهر محمدی” جائزة “السيمرغ البلورى” عن أفضل فيلم طبقًا لاستطلاع رأى الجمهور، حيث حصل الفيلم على نسبة 93%، وكذلك جائزة “بين الأديان”، ونال “پیمان قاسم خانی” جائزة “السيمرغ البلورى” كأفضل سيناريست، ونال “كمال تبريزى” جائزة “الدرع الخاص من الدرجة الأولى” كأفضل مخرج، ونال “پرویز پرستویی” جائزة “لجنة التحكيم الخاصة” كأفضل ممثل دور أول رجال.
نظرة عامة للفيلم
يناقش فيلم “مارمولک” فى قالب “الكوميديا السوداء”، التى تنتقد التابوهات الدينية والسياسية والاجتماعية بشكل ساخر، ظاهرة المتاجرة بالدين، من خلال تتبع رحلة مجرم يهرب من السجن ويتخفى فى لباس رجل الدين، ومن هنا تتبلور القضية الرئيسة فى الفيلم، وهى كيف يستغل رجال الدين مظهرهم المقدس فى نفوس الشعوب بصفة عامة، وفى إيران بصفة خاصة، من أجل تحقيق أغراض شخصية، فرجل الدين فى الفيلم ما هو إلا مجرم هارب، صدقه أهالى القرية التى لجأ إليها، لأنه يرتدى لباس رجل الدين فحسب، وكان هذا كفيل بالنسبة إليهم كى يصدقون كل أقواله، حتى وإن كانت لا تمت للدين بصلة، ولكنها تصدر عن رجل يرتدى الزى الدينى، حيث يقدم الفيلم رسالة هامة للشعب الإيرانى، بل لكل الشعوب التى ترفع رجال الدين إلى مرتبة القداسة، مفداها أن سلوكيات الفرد وحدها هى التى تحدد شخصيته أمام الناس، وليس مظهره فقط، فالمظهر الخارجى للبشر لا يعبر عادة عن مكنون سرائرهم وما يؤمنون به من قيم ومُثُل ومبادئ.
وفى هذا السياق ناقش الفيلم قضية أخرى؛ ألا وهى قضية الجهل والعزوف عن إعمال العقل، فأهالى القرية لم يحاولوا لبرهة التفكير بشكل منطقى فيما يقوله أو يفعله رضا اللص، بل كانوا يؤكدون على صحة كل ما يصدر عنه، لأنه يرتدى زى رجل الدين، فكلامه غير قابل للنقاش أو الشك حتى وإن بدا غير منطقى.
كما ناقش الفيلم قضية هامة من الممكن أن نلمسها فى أغلب الحكومات الإسلامية، وهى دور رجال الدين فى المجتمع؛ هل هو دور إرشادى أم قيادى أو كلاهما؟، هل يستطيع رجل الدين الانخراط فى الحكم والبت فى القضايا السياسية التى قد تتعارض أحيانًا مع أصول الدين والشريعة، أم يكتفى بدوره التوجيهى للفرد القائم على إسداء النصائح وإلقاء المواعظ حتى يصلح الفرد وبالتالى المجتمع، هل يكتفى رجل الدين بتقديم النصح والإرشاد بالمهادنة واللين حتى يقتنع الناس طواعية، أم يحق له استخدام القوة حتى ينصاع له الجميع خوفًا وقسرًا؟.. كل هذه تساؤلات طرحها الفيلم بصورة غير مباشرة من خلال علاقة بالبطل بأهالى القرية، فحينما تأثر رضا اللص بلباس رجل الدين الذى يرتديه، حدث تغير كبير فى شخصيته، وبدأ يقوم بالدور الحقيقى لرجل الدين فى المجتمع، وهو نصح الناس وإرشادهم إلى طريق الصواب، ولأن رضا كان جاهلًا ولا يفقه شيئًا فى أمور الدين، حدّث الناس بلغة بسيطة وسلسة، فهو لا يتشدق بعبارات مقعرة ولا يتلو عليهم الآيات والأحاديث التى لا يعرف منها قليلًا أو كثيرًا، ولكنه قدم لهم فلسفته الشخصية وتجربته الحياتية التى خاضها، وهنا يقدم لنا الفيلم رسالة أخرى، وهى تبسيط الخطاب الدينى والبعد عن التكلف والمغالاة والميل إلى الاعتدال كى ينجذب الناس إلى الدين ولا ينفرون منه، فرجال الدين هم الرسل الذين ينشرون مبادئ العقيدة بين البشر، وتقع على كاهلهم مسئولية إظهار هذه المبادئ السامية فى أبهى صورها أو أسوأها.
وفى هذا السياق أشار الفيلم إلى قضية شديدة الحساسية فى الدين الإسلامى، وهى هل يفقد الإنسان الأمل فى رحمة الله؟، وهل يحتاج إلى مَن يرشده إلى سبيل الله؟، أم أن الطريق إلى الله مفتوح أمام الجميع؟، نلمس هذا الأمر حينما خطب رضا فى السجناء قائلًا: “الحضور الكريم.. السلام عليكم؛ وأخص بالذكر أصدقائى الأعزاء من المذنبين.. إن الله ليس إله الصالحين فحسب، ولكنه إله المذنبين كذلك، إن الله لا يفرق بين عباده، ففى حقيقة الأمر إن الله هو الخیر والعفو والمغفرة والرحمة والمحبة.. على أى حال ليس هناك إنسان ليس لديه طريق للوصول إلى الله”.
هذه العبارات تحمل فى ثناياها عدة رسائل؛ أولها أن باب التوبة مفتوح على مصراعيه أمام الجميع، فالله لا يفرق بين عباده؛ الصالحين منهم والطالحين، فهو إله الجميع، وهو غفور رحيم، كما أن الإنسان لا يحتاج إلى مَن يأخذ بيده ليرشده إلى سبيل الله، فالإيمان هو السراج الذى ينيره الله فى القلوب كى نهتدى به من الضلال، إن الله عزل وجل يقول فى كتابه الحكيم: ﴿قُلْ يَاعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾؛ الزمر: 53.
“مارمولک” هو الاسم الذى وضعه المؤلف پیمان قاسم خانی للفيلم، وهو اختيار ذكى وموفق ويعبر بشكل جلى عن القضية التى يطرحها الفيلم، فـ “مارمولک” تعنى بالفارسية “السحلية”، وهو اللقب الذى عُرف به “رضا” بطل الفيلم، بل نجده كان يدق فوق ذراعه وشمًا لـ “سحلية”، كل هذا كى يؤكد لنا صانعو الفيلم قدرة البطل على التلون والتكيف مع البيئة التى يعيش فيها، مثلما تفعل السحلية حينما تريد التكيف مع البيئة التى تعيش فيها أو تنتقل إليها، وذلك بهدف الاختفاء عن الأنظار والفرار من أى تهديد قد يلحق بها من قبل الأعداء.
إن فيلم “مارمولک” واحد من الأفلام المتميزة والجريئة التى قدمتها السينما الإيرانية فى ظل القيود الشديدة التى يفرضها النظام الإيرانى على صناعة السينما، وعلى الرغم من مرور 16 عامًا على إنتاج الفيلم ومحاولات منعه من العرض وحذفه من مواقع الإنترنت، إلا أنه مازال يتصدر قائمة الأفلام الإيرانية الأكثر بحثـًا ومشاهدة على مواقع الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعى، حيث توفرت فيه معظم عناصر النجاح من تأليف وإخراج ومشاركة نخبة من ألمع النجوم الإيرانيين؛ يأتى على رأسهم الفنان الكبير “پرویز پرستویی” الذى جسد شخصية “رضا مارمولک” ببراعة شديدة، وهى شخصية صعبة ومركبة ومليئة بالعديد من التناقضات، حيث نرى على الشاشة مراحل تحول “لص” إلى “رجل دين”، والحقيقة إن براعة پرستویی فى أداء شخصية رضا تذكرنى بالموهبة الفذة والتقمص الذى قد يصل إلى حد التوحد مع الشخصية، لممثلنا الراحل “خالد صالح”، خاصة مع وجود شبه كبير بين پرستویی وصالح فى الملامح الشكلية والتكنيك التمثيلى.
والحقيقة إن خطورة القضية التى طرحها “مارمولک” كانت كفيلة بوقف عرضه، لأنها تهدم الهيكل العام الذى أقام عليه الخمينى نظام “ولاية الفقيه”، من جذوره، فالفيلم يدعو بشكل غير مباشر إلى ضرورة عودة رجال الدين إلى دورهم الأساسى، وهو نصح الناس وإرشادهم، والابتعاد عن الساحة السياسية بكل ما تحمله من متناقضات قد تتعارض مع أصول الدين بشكل أو بآخر.
وعلى الرغم من النداءات التكررة للعديد من التيارات الإسلامية أو التيارات الأصولية التى تميل إلى الحكم الدينى، كى يتربع رجال الدين على مقاعد السلطة، إلا أن التجارب التى شاهدناها على مدار التاريخ ووصل فيها رجال الدين إلى سدة الحكم فى عدد من البلدان، لم تكلل بالنجاح ولم تحقق ما كانت تدعيه من سيادة عدالة الله على الأرض، بل نجد أن أغلب من تزعموا هذا التوجه الفكرى فى الحكم قد استغلوا الدين لتحقيق مصالحهم الشخصية، أو قاموا باستقراء الدين من زاوية ضيقة وغير متعمقة وغير مرنة، ولم يستشرفوا المعانى السامية المكنونة فى ثنايا الآيات القرآنية، وراحوا يفسرونها حسب أهوائهم الشخصية.
إن رجال الدين لا قداسة لهم مهما بلغوا من درجات العلم والاجتهاد فى الدين، فقد يصيبون وقد يخطئون شأنهم شأن الجميع، وقد تغريهم السلطة ويقعون فى أسر العروش، يقتصر دورهم فقط على هداية البشر وإرشادهم إلى طريق الصواب كى يتبين للناس الحق من الباطل والرشد من الضلال، فالمنابر تُعتلى لهداية البشر وليس لتضليلهم، وفى هذا الصدد أنشد الشاعر والمتصوف الإيرانى “أوحدى المراغى” (1271 – 1338م) منذ ما يقرب من 7 قرون فى سِيرة الوعاظ ورجال الدين قائلًا: “آه از اين واعظان منبر كوب، شرمشان نيست خود ز منبر و چوب: آه من هؤلاء الوُعَّاظ القارعين على المنبر، ألا يستحون من خشب المنبر؟”..
محمد سيف الدين- دكتوراه فى الأدب الشعبى الفارسى، خاص “رياليست”.