تعيش الساحة العربية والإسلامية على وقع اصطفافات خطيرة وغير مسبوقة في ظل التنزيل المادي والميداني لمشروع “العثمانيين الجدد” من خلال تبني أردوغان لسلوك سياسي شاذ وخطير ينذر بإشعال المنطقة ودخولها منعطفا حساسا قد يصعب الخروج منه على المدى المتوسط والبعيد.
في هذا السياق، قد يستغرب البعض من هذه النزعة الاستعمارية التي أصبحت تعبر عنها تركيا في ظل ردات فعل محتشمة للمجتمع الدولي اتجاه هذا السلوك العدواني لأردوغان. هذا الاستغراب تزكيه التوافقات السياسية والعسكرية بين ثالوث تركيا (أردوغان)، وإيران والإخوان المسلمين، وهو ما يدفعنا إلى محاولة استقراء “رقعة الشطرنج” حتى نفهم تبعات السلوك السياسي الجديد لهذا الثالوث.
الإخوان وتركيا:
بداية فإن العلاقة بين الإخوان وتركيا وتبعية أنصار البنا لأردوغان تجد مبرراتها في التقاطعات الموضوعية في الأهداف حيث يرى الإخوان في تركيا القاعدة الخلفية والملاذ والملجأ لهم خصوصا بعد أن لفظتهم الأنظمة والشعوب على السواء وأصبحوا في حاجة إلى نظام يحميهم من المتابعات القانونية والأحكام السجنية الصادرة في حق قياداتهم المتورطة في دعم الإرهاب والدعوة علانية للانقلاب على الأنظمة السياسية في المنطقة.
من جانبها ترى تركيا أردوغان في التنظيم الإخواني أداة مهمة في تبرير وتمرير المشروع الاستعماري العثماني بالنظر إلى إكراهات اللغة والإيديولوجية، حيث يصعب على الأتراك تبرير تصرفاتهم العدوانية والتوسعية دون المرور عبر تنظيم له انتشار عالمي ومتمرس على استغلال الدين لتبرير الاختيارات ذات الصبغة السياسية الصرفة. من جهة أخرى، فإن الطموح القطري في التمكين لتنظيم الإخوان المسلمين في الأنظمة العربية وخلق كيانات تابعة إيديولوجيا للإخوان المسلمين وسياسيا للدوحة هو نفس طموح أنقرة التي نجحت في إزاحة قطر من عرش الدول العرابة للتنظيم الإخواني لتكتفي بتمويل الأجندة التركية في مقابل ضمان بقاء النظام على رأس السلطة في الدوحة.
الإخوان وإيران:
على الجانب الآخر فإن علاقة الإخوان بإيران الصفوية تعود إلى سنوات الخمسينات عندما زار المعارض الإيراني نواب صفوي المقر العام لجماعة الإخوان المسلمين والتقى هناك بقيادات إخوانية وعلى رأسهم سيد قطب. هذا الأخير سيُصبح مصدر إلهام لمجموعة من القيادات الإيرانية وعلى رأسهم المرشد الأعلى الحالي علي خامنئي والذي قام بترجمة بعض كتابات سيد قطب للفارسية وخصوصا كتابه “المستقبل لهذا الدين”.
هذه العلاقة بين الإخوان وإيران ستتوطد بعد نجاح الثورة الإيرانية سنة 1979 حيث كانت الطائرة الإخوانية هي ثاني طائرة تنزل مدرج مطار طهران بعد طائرة ياسر عرفات، ليتم التأسيس لتحالف استراتيجي بين التنظيم الإخواني ونظام الثورة وهو التحالف الذي ظل قويا وثابتا رغم بعض مظاهر التقية الإخوانية التي حاولت الإيهام بأنها تناور خارج العباءة الإيرانية، غير أن الأحداث الأخيرة أثبتت بما لا يدع مجالا للشك بأن التحالف الإخواني الإيراني يبقى اختيارا استراتيجيا للتنظيم في ظل قدرة الطرفين على تنسيق الأهداف والتحركات حسب البيئة الاستراتيجية لكل دولة على حدة.
من جانبها فإن إيران الصفوية لا بديل لها عن الإخوان الذين يملكون من الخبرة والخبث الإعلاميين ما يؤهلهما لمسح تلك الصورة السوداء التي ترسخت لدى العرب والمسلمين والذين يرون أن الإيديولوجية الصفوية تطعن في أصول الاعتقاد عند أهل السنة وأن مشروع الهيمنة الإيرانية تغذيه أحقاد طائفية وعنصرية تفوح رائحتها من الكتب المرجعية المعتمدة في إيران، والتي تم التعبير عنها صراحة فيما عرف إعلاميا ب “الخطة الخمسينية لآيات قم”.
البيئة الاستراتيجية الدولية:
على هذا المستوى من التحليل، يمكن القطع بأن التحركات الميدانية التركية الإيرانية والاستهدافات العسكرية للعديد من المناطق العربية تتم بمباركة ضمنية من بعض القوى الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية والتي تعتقد أن هذه التحركات تتقاطع مع رسمها الاستراتيجي في المنطقة على المدى البعيد. وهنا نحيل القارئ على الطرح الاستراتيجي الذي نشره مستشار الأمن القومي السابق زبغنيو بريجنسكي في كتابه المرجعي “رقعة الشطرنج الكبرى” (نشر سنة 1997) وهو أحد أهم المراجع التي حددت التوجهات الاستراتيجية للإدارة الأمريكية في فترة ما بعد الحرب الباردة.
ولعل نظرة سريعة على أهم ما جاء في هذا الكتاب المرجعي تبقى ضرورية لفهم تسارع الأحداث في المنطقة، حيث قام بريجنسكي بتحديد مجموعتين فاعلتين في المنطقة واللتان تم تقسيمهما إلى:
– فاعلين جيوستراتيجيين وهم: فرنسا، ألمانيا، روسيا، الهند والصين. هذه القوى يرى فيها المنظر الأمريكي أنها تمتلك القدرة والإرادة الوطنية الكافية لممارسة قوتها وتأثيرها خارج نطاق حدودها الترابية (ص 68)
– محاور جيوسياسية وتضم: أوكرانيا، أذربيجان، كوريا (لم يحدد أيا منهما)، تركيا وإيران. وهي الدول التي تكمن أهميتها ليس في قوتها الحقيقية أو طموحاتها، وإنما نظرا لحساسية موقعها الجغرافي وضعفها المحتمل، والذي قد يؤثر على سلوك الفاعلين الجيوستراتيجيين.
على مستوى القارة الأوربية، ظل الهدف السياسي الأسمى للولايات المتحدة الأمريكية هو محاصرة روسيا عن طريق توسيع منظومة الاتحاد الأوربي وكذا حلف الناتو ليشمل دول شرق أوربا والتي كانت تعتبر، إلى وقت قريب، فضاءا حيويا لروسيا الاتحادية. (إستونيا، لاتفيا، لتوانيا، بولندا، بلغاريا، جمهورية تشيك…). ولعل انفتاح هذه المنظمات على الشرق يبقى الهدف منه هو تحجيم العمق الاستراتيجي الروسي وأيضا احتواء هذه الدول ومحاولة توجيهها لتبني المبادئ الديمقراطية والآلية اللبرالية لتصبح ضمن الفضاء الحيوي للولايات المتحدة الأمريكية والتي ترى نفسها العراب الشرعي لمبادئ الديمقراطية واللبرالية الاقتصادية.
على مستوى المحاور الجيوسياسية كان الطموح الاستراتيجي الأمريكي واضحا من خلال الرهان على إيران وتركيا كمحاور جيوسياسية قادرة على الحد من النفوذ الصيني-الروسي في منطقة الأوراسي وعرقلة امتداد النفوذ الروسي في اتجاه الجنوب، وكذا الوقوف في وجه الطموحات الصينية من خلال بناء جدار صد استراتيجي عمودي ينطلق من الحدود الجنوبية الروسية وينتهي إلى خليج عمان، وبالتالي عرقلة “استراتيجية عقد الجواهر” و”طريق الحرير الجديد” وهما الأهداف السياسية العظمى (بتعبير بازل ليدل هارت) التي تسعى بكين لتنزيلها على الأرض منذ عقود.
لقد استفادت إيران وتركيا، بدهاء سياسي كبير، من هذا التوجه الخطير واستطاعا أن يقنعا الولايات المتحدة الأمريكية بأن لعب هذا الدور الاستراتيجي يفرض ضرورة امتداد نفوذهما إلى جميع دول المنطقة عن طريق ورقة المد الشيعي في صيغة ولاية الفقيه، وكذا ورقة المد السني “المعتدل” كما أوهمت به جماعة الإخوان المسلمين المجتمع الدولي، وبالتالي فإن وضع اليد على الدول العربية سيمهد لتحقيق فضاء استراتيجي ملائم لتحقيق الأهداف الأمريكية في المنطقة.
ويمكن القول أن هذا الضوء الأخضر الضمني، دفع تركيا وإيران والإخوان إلى تنسيق المبادرات والتدخلات بينهم وهو ما أصبح معطى بديهي في ظل التنسيق المشترك بين هاته الأطراف مؤخرا في كل من شمال العراق وليبيا واليمن، حيث عبرت طهران عن مساندتها لحكومة الوفاق المنتهية ولايتها في ليبيا في نفس الوقت الذي نسجل فيه التدخل العسكري المشترك شمال العراق بتقدم بري تركي وغطاء جوي إيراني، بالإضافة إلى التصريح بنية تركيا التدخل في اليمن لمساعدة حزب الإصلاح الإخواني للسيطرة على اليمن الجنوبي مقابل إطلاق يد الحوثي لبسط سيطرته على اليمن الشمالي.
وفي تقديرنا، فإن بعض القوى الكبرى تتوقع بأن التدخلات التركية الإيرانية في المنطقة العربية ستنتهي إلى خلق حالة من التوحش السياسي مما سيؤدي إلى تقسيم العديد من الدول العربية وفق المعادلة الطائفية أو العرقية وبالتالي الإسراع بالتنزيل العملي لمشروع الشرق الأوسط الجديد والذي وعد أردوغان بأن يكون أحد أهم وسائل تنفيذه وتنزيله على الأرض.
انطلاقا من هذا الطرح يبقى السؤال المطروح هو مدى امتلاك الدول العربية لاستراتيجية واضحة للوقوف أمام هذه الطموحات الاستعمارية وإفشال المخططات التي تروم إعادة رسم خارطة العالم العربي، والذي يبدو أنه المستهدف الاول من وراء هذا التحالف الهجين بين تركيا وإيران والإخوان “المسلمين”.
د.عبدالحق الصنايبي- متخصص في الدراسات الاستراتيجية و الامنية، خاص “رياليست”