واشنطن – (رياليست عربي): شهدت قمة حلف شمال الأطلسي الأخيرة في واشنطن تطوراً لافتاً تمثل في غياب أي ذكر لموضوع توسيع الحلف، وهي المرة الأولى التي يحدث فيها ذلك منذ نهاية الحرب الباردة في تسعينيات القرن الماضي. هذا التغيير في الأولويات يعكس تحولاً عميقاً في التفكير الاستراتيجي للحلف، حيث تم التركيز بدلاً من ذلك على تعزيز الردع الإقليمي وتطوير منظومة الدفاع المشترك، القمة التي استمرت على مدى يومين شهدت إقرار حزمة مساعدات عسكرية غير مسبوقة لأوكرانيا بقيمة 40 مليار دولار، مع تعزيز الوجود العسكري في دول البلطيق وأوروبا الشرقية.
السياق التاريخي لهذا التحول يشير إلى أن حلف الناتو قد قام خلال العقود الثلاثة الماضية بموجات متتالية من التوسع شرقاً، حيث انضمت إليه 14 دولة جديدة منذ عام 1999. لكن يبدو أن الحلف قد وصل إلى قناعة بأن سياسة التوسع هذه قد ساهمت في تصعيد التوترات مع روسيا دون أن تحقق المكاسب الأمنية المرجوة. مصادر دبلوماسية غربية تشير إلى أن القيادة الحالية للحلف تفضل الآن سياسة “العمق الاستراتيجي” بدلاً من “الاتساع الجغرافي”، مع التركيز على تعزيز القدرات الدفاعية للدول الأعضاء الحالية.
أما التحليل الاستراتيجي لهذا التوجه الجديد يكشف عدة دوافع رئيسية، أولها التكاليف الباهظة التي ترتبت على عمليات التوسع السابقة، والتي شملت استثمارات ضخمة في تحديث الجيوش والبنى التحتية العسكرية للدول المنضمة حديثاً. ثاني هذه الدوافع هو التحديات الأمنية الجديدة التي فرضتها الحرب في أوكرانيا، والتي أظهرت محدودية سياسة التوسع في تحقيق الأمن الفعلي للدول الأعضاء. كما أن التهديدات السيبرانية المتزايدة وتحديات الأمن الاقتصادي قد فرضت أولويات جديدة تتطلب إعادة توزيع الموارد بعيداً عن سياسة التوسع الجغرافي.
بالنسبة لردود الفعل على هذا التحول جاءت متباينة، حيث عبرت بعض الدول الأوروبية الشرقية عن قلقها من أن يمثل هذا التراجع عن سياسة التوسع إشارة سلبية للدول التي كانت تطمح للانضمام للحلف، مثل جورجيا وأوكرانيا. من جهة أخرى، أبدت روسيا ترحيباً حذراً بهذا التطور، مع تأكيدها على ضرورة أن يترافق مع خطوات عملية لتخفيف التوتر في أوروبا. في المقابل، يرى بعض الخبراء أن هذا التحول قد يكون مؤقتاً ومرتبطاً بالظروف الحالية، مع إمكانية عودة سياسة التوسع إلى الواجهة في حال تغير موازين القوى الإقليمية.
والتداعيات المحتملة لهذا التحول الاستراتيجي تشمل إعادة تشكيل المشهد الجيوسياسي في أوروبا، حيث قد تبحث بعض الدول عن ضمانات أمنية بديلة خارج إطار حلف الناتو. كما أن هذا التوجه قد يؤثر على ديناميكيات العلاقات بين الأعضاء الأوروبيين والولايات المتحدة، خاصة في ظل تباين الأولويات الأمنية بين ضفتي الأطلسي. الخبراء العسكريون يحذرون من أن أي تراجع عن سياسة التوسع يجب أن يترافق مع تعزيز حقيقي لقدرات الردع، وإلا فقد يُفسر كعلامة ضعف من قبل الخصوم المحتملين.
في الختام، يمثل إغفال قمة الناتو 2025 لموضوع التوسع علامة فارقة في تاريخ الحلف، تعكس إدراكاً متزايداً للتحديات الأمنية المعقدة في القرن الحادي والعشرين. هذا التحول الاستراتيجي، الذي يجمع بين الحذر الدبلوماسي وتعزيز القدرات الدفاعية، قد يشكل نموذجاً جديداً للأمن الجماعي في عصر تتشابك فيه التهديدات التقليدية وغير التقليدية. ومع ذلك، تبقى فعالية هذا النهج الجديد رهناً بالقدرة على تحقيق توازن دقيق بين تعزيز الأمن والاستقرار من جهة، وتجنب التصعيد غير الضروري من جهة أخرى.