القاهرة – (رياليست عربي): في دراما إنسانية يغلب عليها الطابع المأساوي، يقدم صائد الجوائز المخرج الإيراني الأشهر “أصغر فرهادى” تحفته السينمائية الجديدة قهرمانGhahreman ” أي “البطل”.
ويعد قهرمان الفيلم رقم 13 في مسيرة فرهادى السينمائية، وهو يأتي بعد مجموعة من الأفلام حققت نجاحاً جماهيرياً ونقدياً داخل إيران وخارجها، وحصدت عدداً كبيراً من الجوائز العالمية؛ يتصدرها «جدایی نادر از سیمین: انفصال نادر عن سیمین» الذي لفت أنظار العالم إلى السينما الإيرانية، وحصد 52 جائزة دولية؛ منها جائزة الدب الذهبي من مهرجان برلين السينمائي الدولي عام 2011، وجائزتي غولدن غلوب وأوسكار أفضل فيلم أجنبي عام 2012. وكذلك فيلم “فروشنده: البائع” الحائز على جائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي عام 2017. والآن يأتي فيلم “قهرمان” مقتنصاً الجائزة الكبرى من مهرجان كان السينمائي الدولي 2021 في دورته الرابعة والسبعين؛ وهي ثاني أكبر جائزة وأهمها تمنحها لجنة تحكيم المهرجان لأحد الأفلام المنافسة بعد السعفة الذهبية. كما تم اختيار الفیلم ليمثل إيران في الدورة الرابعة والتسعين من جوائز الأوسكار المقرر عقدها في 27 مارس/ آذار 2022، حيث تُعقد آمال السينمائيين في إيران على نجاح فرهادى في حصد أوسكاره الثالث.
قهرمان من تأليف وإخراج فرهادى، وإنتاجه بالاشتراك مع المنتج الفرنسي ألكسندر ماليت – جي Alexandre Mallet-Guy، وبطولة كل من: أمير جديدى في دو رحيم سلطاني، ومحسن تنابنده في دور بَهرام، وسحر گُلدوست في دور فَرخُندة، وفرشتة صدر عُرفانى في دور راد مِهر، ومريم شاه داعى في دور مليحة، وعلي رضا جهانديده في دور حسين، وسارینا فرهادی في دور نازنين، وفَرُخ نوربخت في دور طاهري، ومحمد عاقبتي في دور صالح پور، وإحسان گودَرزی في دور ناد علي، وعلي حسن نِژاد رنجبَر في دور السائق، والطفل صالح كريميايى في دور سياوش.
يتحدث الفيلم عن شريحة كبيرة في المجتمع الإيراني؛ وهي الطبقة الفقيرة، حيث نرى البطل وأفراد أسرته يسعون بشتى الطرق لتوفير موارد دخلهم، ويعيشون بالدَين لتلبية احتياجاتهم الأساسية، حيث لا يشغل بالهم نظاماً متشدداً يقبع على صدر البلاد، أو توترات سياسية يختلقها الساسة الإيرانيون مع القوى العظمى أو جيرانهم، فكل ما تريده هذه الطبقة هو حقها في العيش من دون إذلال وإجحاف، فنحن أمام فيلم اجتماعي بحت، قد تقع أحداثه في إيران، أو في أية دولة أخرى تعاني من الظروف نفسها.
قصة الفيلم
تدور أحداث قهرمان في مدينة شيراز بمحافظة فارس حول الخطاط والنقاش رحيم سلطاني المدين لشقيق زوجته السيد بهرام بمبلغ 150 مليون تومان (ما يقرب من 5500 دولار)، وبسبب عجزه عن سداد هذا الدين، يودع الحبس. يخرج رحيم من الحبس في إجازة لمدة يومين، متوجهاً إلى المنطقة الأثرية نقش رستم للقاء زوج شقيقته حسين الذي يشارك في عمليات ترميم هذا الموقع الأثري، ويخبره أنه حصل على مبلغ 75 مليون تومان من صديق له، وهو ما يعادل نصف دينه، ويتفق معه على الذهاب إلى بهرام لإقناعه بالموافقة على أخذ المال، وسداد باقي الدين على دفعات شهرية.
يذهب رحيم إلى مقابلة حبيبته فرخندة، مدرسة ابنه سياوش الذي يعاني من التلعثم وصعوبة النطق، فتعطيه حقيبة يد نسائية بها 17 عملة ذهبية، كانت قد وجدتها في محطة الأتوبيس، وهي الأموال التي تحدث عنها رحيم مع زوج شقيقته، ويتفق الاثنان على بيعها. وكان رحيم قد تعرف على فرخندة منذ ثلاث سنوات قبل دخوله السجن، ونشأت بينهما قصة حب. تجد مليحة شقيقة رحيم حقيبة الذهب مخبئة في متعلقات رحيم، فيخبرها بأن هذه العملات الذهبية قد أعطاها له صديق كي يسدد دينه مثلما أخبر زوجها، لكن مليحة يساورها الشك حول مصدر هذه العملات، وكيفية حصول رحيم عليها.
يذهب رحيم وفرخندة إلى محل صاغة لبيع العملات الذهبية، لكن مع إحساسه بتأنيب الضمير، يتراجع في اللحظة الأخيرة، ويقرر البحث عن صاحبة الحقيبة وتسليمها لها. يذهب رحيم إلى البنك المواجه لمحطة الأتوبيس، حيث وجدت فرخندة الحقيبة، ويسأل موظفي البنك عن أي شخص أبلغهم بفقدان حقيبة يد، لكنهم يجيبونه بالنفي، فيقترح أحدهم على رحيم أن يعلق ورقة على باب البنك، وفي محطة الأتوبيس باسمه ورقم هاتفه حتى يتيسر الوصول إليه إذا جاء أحد يسأل عن حقيبة ضائعة. يعلق رحيم الورق على باب البنك وفي محطة الأتوبيس، ونظراً لأن رحيم كتب رقم تليفون السجن، يظن موظفو البنك أنه يعمل هناك، لكنه يخبرهم بأنه مسجون، وسيعود إلى السجن صباح الغد.
لم تمض سوى أيام قليلة حتى يتلقى رحيم مكالمة هاتفية في السجن من امرأة تخبره بأنها صاحبة الحقيبة، وتوضح له مواصفاتها، وعدد العملات الذهبية الموجودة بها حتى يتأكد من أنها صاحبة الحقيبة الحقيقية. تذهب المرأة إلى مليحة شقيقة رحيم لاسترداد حقيبتها، فتخبرها بأن الحقيبة سقطت منها من دون أن تدري في محطة الأتوبيس، وبعد ما استقلت الحافلة، اكتشفت فقدانها، وتقول لمليحة؛ إنها جمعت العملات الذهبية من خلال عملها في نسج الكليم، وكانت تود بيعها ووضعها قيمتها في البنك خشية من أن يأخذها زوجها أو شقيقه منها عنوة. وعلى هذا النحو تسترد المرأة حقيبتها، وتمنح سياوش بن رحيم 50 توماناً على سبيل المكافأة.
يعلم رئيس السجن السيد صالح پور ومسؤول الأنشطة الثقافية بالسجن السيد طاهري بأمر حقيبة الذهب وما فعله رحيم، فيتفقان مع برنامج تلفزيوني للتسجيل مع رحيم وتصوير فيلم يروي من خلاله كيفية عثوره على الحقيبة، كما يتفقان مع صحيفة لإجراء حوار مع رحيم حول قصة الحقيبة. على هذا النحو يرتب مسؤولو السجن الأمر، ويخبرون رحيم حتى يستعد، إلا أن رحيم يخبر طاهري بأنه لم يجد الحقيبة خلال إجازته الأخيرة كما يظن الجميع، وأن من وجدها حبيبته فرخندة، لكنه لن يستطيع ذكر اسمها حرصاً على سمعتها لأنهما لم يتزوجا بعد، فيأمر طاهر رحيماً بإخفاء الأمر، وإخبار الجميع بأنه من وجد الحقيبة.
ينفذ رحيم ما ائتمر به، فيجري حواراً مع البرنامج التلفزيوني، ويسجل فيلماً يوثق كيفية عثوره على حقيبة الذهب، ويوجه خلاله الشكر للسيدين صالح پور وطاهري لجهودهما في تحسين حياة السجناء، كما يتحدث في الفيلم صالح پور وطاهري عن رحيم مثنيان على نشاطه في السجن فى مجالات الخط والرسم والنقاشة. بعد إذاعة الفيلم والحوار المسجلين عن رحيم وقصة الحقيبة على شاشة التلفزيون، يتهمه أحد السجناء بأنه مخادع ومتواطئ مع مسؤولي السجن لإخفاء أفعالهم المشينة في حق السجناء، فيعلم منه أن مسؤولي السجن قد استغلوا قصته للتغطية على واقعة انتحار سجين يدعى شكورى تزامنت مع قصة حقيبته. يلتزم رحيم الصمت ولا يستطيع التفوه بما حدث مع أحد.
بعد إذاعة البرنامج المتلفز ونشر الحوار الصحفي عن قصة رحيم، يصبح شخصاً مشهوراً بين الناس، وتجري قصته على الألسن، وتتحدث مواقع التواصل الاجتماعي (السوشيال ميديا) عن أمانته، ويُنظر إليه نظرة احترام وتقدير كأنه “بطل”، وفي غمرة ذلك تقيم الجمعية الخيرية مهرپویان حفلاً لتكريمه، وتمنحه شهادة تقدير، وتجمع ما يقرب من 35 مليون تومان من فاعلي الخير، وبعد جدال طويل بين دائن رحيم السيد بهرام وأعضاء الجمعية، يوافق بهرام على مضض على أخذ المال، وسداد المبلغ المتبقي على دفعات شهرية.
يذهب رحيم بناء على توصية من الجمعية الخيرية إلى مجلس المحافظة ليحصل على وظيفة، ويتمكن من سداد أقساط الدين المتبقية عليه، لكن المسؤول هناك السيد ناد علی يرفض توظيفه قبل التأكد من صحة قصة الحقيبة، ويخبره أن هناك شائعات منتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي تقول إن قصة الحقيبة مزيفة، وليست حقيقية، وإدارة السجن قد اختلقت هذه القصة للتغطية على حادثة انتحار أحد السجناء، ويطلب منه إحضار صاحبة الحقيبة للتوقيع على إفادة بما حدث، وأخته وابنه كشهود على القصة، ليتأكد بنفسه من صحتها.
تحاول مليحة شقيقة رحيم الاتصال بصاحبة الحقيبة، لكنها تكتشف أن الرقم الذي اتصلت به هذه المرأة، هو رقم سائق التاكسي الذى استقلته إلى منزل مليحة. يتواصل رحيم مع سائق التاكسي، ويعرف منه أن هذه المرأة قد توقفت عند محل بيع حُلى ذهبية، ثم توجهت إلى حي يحدده له. عندما يتوجه رحيم إلى محل بيع الذهب، ويسأل صاحبه عن المرأة صاحبة الحقيبة، يخبره أنها كانت تريد التأكد من أن العملات ذهبية بالفعل أم مزيفة، فيطلب منه رحيم أن يلتقط بكاميرا هاتفه صورة للمرأة من تسجيلات الكاميرا المعلقة على مدخل المحل، فيرفض صاحب المحل، لكن بعد ما يتعرف على هوية رحيم وقصته، يسمح له بالتقاط صورة للمرأة. يذهب رحيم إلى الحي الذي توجهت إليه هذه المرأة، ويعرض صورتها على الأهالي والباعة الجائلين، لكن لا يتعرف عليها أحد، كما يكتشف أن الرقم الذي هاتفته منه في السجن هو رقم محل عصير، مما يثير الشك في صدر رحيم حول هوية هذه المرأة؛ فهل هي صاحبة الحقيبة الحقيقية أم نصابة؟
بعد انغلاق كل الأبواب في وجه رحيم، يتفق مع فرخندة أن تمثل دور المرأة صاحبة الحقيبة، وأن تشهد شقيقته وسائق التاكسي وابنه على صحة ذلك أمام المسؤول في مجلس المحافظة السيد ناد علي. يذهب الجميع إلى السيد ناد علي، وتخبره فرخندة بأنها صاحبة الحقيبة، ويشهد الجميع على ذلك، لكن ناد على يكتشف كذبهم بسبب رسالة هاتفية أرسلها رحيم وهو في السجن إلى بهرام، يتعهد فيها بسداد نصف الدين، وإمضاء إيصالات أمانة ببقية المبلغ فور خروجه من الحبس، وكان ذلك قبل أسبوع من خروج رحيم من السجن في إجازة لمدة يومين، وإخبار الجميع بأنه وجد حقيبة مملوءة بالذهب خلال هذه الإجازة.
يذهب رحيم إلى مكتبة بهرام الخاصة بتصوير المستندات، ويتشاجر معه اعتقاداً منه بأن بهرام من أرسل الرسالة إلى السيد ناد علي، فيتجمع أصحاب المحال المجاورة، ويحتجزون رحيم في أحد المحال لحين مجيء الشرطة، فيتصل بفرخندة حتى تخلصه، فتأتي، وتقنع بهرام بإطلاق سراح رحيم، ويمضيان معاً. ترسل نازنين ابنة بهرام فيديو بواقعة الشجار بين أبيها ورحيم إلى رئيسة الجمعية الخيرية مهرپویان السيدة راد مهر ومجلس المحافظة، وتهدد بأنها سوف تنشر هذا الفيديو على مواقع التواصل الاجتماعي إذا لم يُسدد دين أبيها بالكامل صباح الغد. وبسبب ظهور فرخندة في الفيديو يكتشف الجميع أنها ليست صاحبة الحقيبة الحقيقية، وأنها على علاقة ما برحيم، فيعترف رحيم أمام أعضاء الجمعية الخيرية بأن فرخندة من وجدت حقيبة الذهب وليس هو، وأنه ادعى عثوره على الحقيبة في اللقاء المتلفز بناء على أوامر إدارة السجن، مما يدفع السيدة راد مهر إلى سحب الأموال التي جمعتها الجمعية لسداد دين رحيم، وتقرر دفعها فدية لإنقاذ رجل آخر من الإعدام.
تبدأ نظرة الناس تتغير اتجاه رحيم من النقيض إلى النقض؛ فتلك النظرة التي وضعته في قالب الاحترام والتقدير، أصبحت تضعه في قالب الشك والخداع، ومواقع التواصل الاجتماعي التي أشادت بقصة السجين الأمين، أصبحت تتناولها بالسلب والتشهير، وجردته من لقب “بطل”، فيطلب رحيم من مسؤول الأنشطة الثقافية في السجن السيد طاهري أن يخبر الجمعية الخيرية بأنه من أملى عليه أن يقول إنه من وجد الحقيبة، لكن طاهري يرفض، ويتهمه بالكذب والخداع، خاصة مع اتهام إدارة السجن بتلفيق قصة الحقيبة.
يذهب رحيم وفرخندة إلى رئيسة الجمعية الخيرية السيدة راد مهر، ويحاولان إقناعها بمنحهما المال، لكنها ترفض، معللة وجود العديد من الشبهات حول قصة رحيم. وخلال هذا اللقاء يعلم رحيم منها أن من أرسل رسالته الخاصة بسداد نصف الدين إلى السيد ناد على ليس بهرام، وترفض السيدة راد مهر إخبار رحيم بهوية المرسل. يخرج رحيم بصحبة فرخندة من الجميعة مستسلماً لمصيره، لكن فرخندة تعود أدراجها، وتطلب من السيدة راد مهر أن تنشر على مواقع التواصل الاجتماعي الخاصة بالجمعية رسالة مفادها أن رحيم منح الأموال التي جُمعت لسداد دينه إلى رجل آخر لينقذه من الإعدام، وذلك في محاولة أخيرة لتبرئة ساحة رحيم، وتصحيح صورته التي شوهت أمام الجميع، وأصبحت موصومة بالعار.
يتفاجأ رحيم أن نازنين ابنة بهرام نشرت على مواقع التواصل الاجتماعي الفيديو الخاص بشجاره مع أبيها، فيطلب السيد طاهري من رحيم أن يصور فيديو لابنه المتلعثم يروي فيه كل ما حدث لأبيه، مطالباً من الناس مساعدته على سداد دين أبيه حتى لا يعود إلى السجن مرة أخرى، وذلك في محاولة أخيرة من طاهري لإثبات صحة قصة الحقيبة، وبالتالي إبعاد شبهة اختلاقها من قبل إدارة السجن. يبدي رحيم موافقته على ذلك، ولكن بعد تصوير الفيديو يشعر بالذل الشديد، وهو يشاهد ابنه يروي ما حدث باكياً ومتلعثماً، فيتشاجر مع طاهري، ويجبره على حذف الفيديو. يعود رحيم في الصباح إلى السجن مودعاً حبيبته فرخنده وابنه سياوش.
نقد الفيلم وتحليليه
يعد قهرمان الفيلم رقم 13 في مسيرة المخرج الإيراني الأشهر “أصغر فرهادى”، وهو يأتي بعد مجموعة من الأفلام حققت نجاحاً جماهيرياً ونقدياً داخل إيران وخارجها، وحصدت عدداً كبيراً من الجوائز العالمية؛ يتصدرها “جدایی نادر از سیمین: انفصال نادر عن سیمین” الذي لفت أنظار العالم إلى السينما الإيرانية، وحصد 52 جائزة دولية؛ منها جائزة الدب الذهبي من مهرجان برلين السينمائي الدولي عام 2011، وجائزتي غولدن غلوب وأوسكار أفضل فيلم أجنبي عام 2012. وكذلك فيلم “فروشنده: البائع” الحائز على جائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي عام 2017. والآن يأتي فيلم “قهرمان” مقتنصاً الجائزة الكبرى من مهرجان كان السينمائي الدولي 2021 في دورته الرابعة والسبعين؛ وهي ثاني أكبر جائزة وأهمها تمنحها لجنة تحكيم المهرجان لأحد الأفلام المنافسة بعد السعفة الذهبية. كما تم اختيار الفیلم ليمثل إيران في الدورة الرابعة والتسعين من جوائز الأوسكار المقرر عقدها في 27 مارس/ آذار 2022، حيث تُعقد آمال السينمائيين في إيران على نجاح فرهادى في حصد أوسكاره الثالث.
وقهرمان فيلم طويل نسبي مقارنة بالأفلام الحالية، حيث تتجاوز مدته الساعتين، لكنه غني بالتفاصيل والأحداث، فلا يمكن أن يشعر المشاهد للحظة واحدة بالملل، أو المط والتطويل المتعمد، أو إقحام أحداث على السياق الدرامي للفيلم لا داعي لها.
يتحدث الفيلم عن شريحة كبيرة في المجتمع الإيراني؛ وهي الطبقة الفقيرة، حيث نرى البطل وأفراد أسرته يسعون بشتى الطرق لتوفير موارد دخلهم، ويعيشون بالدَين لتلبية احتياجاتهم الأساسية، حيث لا يشغل بالهم نظاماً متشدداً يقبع على صدر البلاد، أو توترات سياسية يختلقها الساسة الإيرانيون مع القوى العظمى أو جيرانهم، فكل ما تريده هذه الطبقة هو حقها في العيش من دون إذلال وإجحاف، فنحن أمام فيلم اجتماعي بحت، قد تقع أحداثه في إيران، أو في أية دولة أخرى تعاني من الظروف نفسها.
قضية الغارمين
يناقش فرهادى في قهرمان قضية إنسانية لا تخص المجتمع الإيراني فحسب، بل نجدها في عدد كبير من بلدان العالم، وهي قضية “الغارمين” الذين يودعون السجن بسبب عجزهم عن سداد الديون، ونظرة المجتمع لهم ما بين تعاطف وقسوة، فهناك من يراهم مظلومين، وهناك من يراهم مذنبين. فالبطل هنا لم يرتكب جريمة يعاقب عليها القانون، لكنه تعثر عن سداد إيصالات الأمانة المستحقة عليه بسبب خسارته عمله. والحقيقة أن قضايا الغارمين تحتاج إعادة نظر، والبحث عن حلول جذرية لها، لأن أغلب المتهمين في مثل هذه القضايا لم يكن لديهم النية في المماطلة أو التقاعس عن السداد، لكن واجههم سوء الحظ والتعثر المالي، فلو يُسرت لهم سبل لسداد ديونهم، لن يدخروا جهداً لسلوكها.
الإعلام والسوشيال ميديا
أشار الفيلم إلى قضية مهمة نراها جلياً في عصرنا الحالي، وهي استخدام الإعلام في التعتيم على أحداث بعينها، حيث نرى مسؤولي السجن قد استغلوا قصة رحيم في التغطية على حادثة انتحار أحد السجناء، وهي الحادثة التي لم يوضح الفيلم ملابساتها، لكنه اكتفى بالإشارة إلى أنها وقعت نتيجة سوء معاملة مسؤولي السجن للسجناء. والحقيقة أن الإعلام أصبح يُستخدم دولياً في توجيه الرأي العام إلى قضايا معينة، قد تتسم أحياناً بالسطحية والتفاهة حتى لا تلتفت الشعوب إلى قضايا أخرى أكثر أهمية، قد يؤدي تسليط الضوء عليها إلى كشف مفاسد أو حقائق أو مخططات يُراد التعتيم عليها.
وعلى جانب آخر، ألقى الفيلم الضوء على الدور الذي تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي في المجتمع، سواء بالإيجاب أو السلب، ففي بداية الفيلم حولت مواقع التواصل الاجتماعي رحيماً إلى بطل مشهور، وجعلته محل احترام وتقدير، فهو رجل أمين، أعاد حقيبة مملوءة بالذهب إلى صاحبتها، على الرغم من حاجته إلى المال كي يسدد دينه، ويحرر نفسه من السجن، فأصبح بطلاً في نظر الجميع. وفي نهاية الفيلم جعلت مواقع التواصل الاجتماعي من رحيم رجلاً مخادعاً، اختلق قصة حقيبة الذهب حتى يخدع الناس، ويستدر عطفهم، ويسدد دينه بسهولة. وهنا نرى الدور الخطير لوسائل التواصل الاجتماعي في التأثير على الرأي العام، وجعل الناس كالدُمى، يتم تحريكهم من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وهو ما يجعلنا في زمن الأباطيل، فكل شيء أصبح قابلاً للشك والشبهة، ففي غمضة عين قد يُشار إلى أحد بالبنان، ثم توجه له أصابع الاتهام.
والحقيقة أننا أصبحنا نعيش في عصر السوشيال ميديا، فباستخدام وسائل التواصل الاجتماعي من الممكن صناعة بطل من ورق، وتدمير بطل من فولاذ، حيث تتلاشى الخطوط الفاصلة بين الخير والشر، والحق والباطل، والصواب والخطأ، وتصبح بلا معنى، فيمكن لمنشور على منصة من منصات التواصل الاجتماعي أن يتهم أي شخص بغض النظر عن مكانته السياسية أو الاجتماعية بأبشع التهم من دون دليل دامغ، وقد وقع رحيم ضحية هذه المنصات الإلكترونية التي لا يعلم عنها شيئاً، ولا يدرك قوة تأثيرها على الناس.
الشخصيات الحقيقية.. والكذب
عمد فرهادى إلى إظهار أغلب أبطاله بكامل عيوبهم، فرحيم انصاع لأوامر مسؤولي السجن، وأخبر الجميع أنه من وجد حقيبة الذهب كذباً، وفرخندة ومليحة والسائق وسياوش شهدوا زوراً أمام السيد ناد علي بدافع حبهم لرحيم حتى يحصل على وظيفة، والسيد طاهرى رفض أن يخبر السيدة راد مهر رئيسة الجمعية الخيرية بأنه من أشار على رحيم أن يخبر الجميع بأنه من وجد الحقيبة. والحقيقة أن هذا الأمر منح الشخصيات مصداقية شديدة، فليس لدينا شخصيات ملائكية تفعل الخير فقط، وأخرى شيطانية تفعل الشر فقط، فالجميع أصابوا وأخطئوا وفقاً لمصالحهم الشخصية مثلما نصيب ونخطئ في حياتنا.
وتعد قضية “الكذب” أو “إخفاء الحقائق” قضية رئيسة في أغلب أعمال فرهادى حتى الآن، حيث يوضح لنا في كل فيلم من أفلامه أنه من الممكن أن تغير كذبة صغيرة أو عدم الإفصاح عن أمر ما حياة الناس بأكملها، وهو ما حدث لرحيم حينما دلف إلى دائرة الكذب؛ بداية من إخفاء هوية من وجد الحقيبة، نهاية إلى تزوير هوية صاحبتها، حيث انقلبت حياته رأساً على عقب مثلما تنقلب قطع الدومينو الواحدة تلو الأخرى نتيجة تغيير طفيف. ويبدو أن فرهادى قد أراد بلورة قضية الكذب في قهرمان، فجعل الجميع يكذبون للوصول إلى غاياتهم، كما أن هذا الفيلم يأتي بعد فيلمه الإسباني “الجميع يعرفTodos lo saben عام 2018 من بطولة النجمين بينيلوبي كروز Penélope Cruz، وخاڤيير بارديم Javier Bardem ” حيث اعتمدت حبكته الأساسية على إخفاء الحقائق والسكوت عنها.
شخصية رحيم سلطاني
عمد فرهادى إلى إضفاء منحى سلبي على شخصية رحيم، فهو دائماً مفعول به وليس فاعلاً، فطوال أحداث الفيلم كان مثل البندول يدفعه الآخرون في كل اتجاه؛ يميناً ويساراً، وإلى الأمام وإلى الخلف، ويقررون مصيره نيابة عنه وفقاً لمصالحهم وليس مصلحته، أما القرارات التي اتخذها رحيم بنفسه؛ زواجه، دينه الكبير، تعامله مع حقيبة الذهب، فقد دمرت حياته مثلما دمرها الآخرون بأفعالهم. وقد أراد فرهادى من ذلك إلقاء الضوء على شريحة كُبرى في المجتمع الإيراني، لا تملك حرية الاختيار بسبب الظروف المعيشية العصيبة المحيطة بها، فتُستغل من قبل من يعلوها سُلطة، أو من لديهم القدرة على التحكم في مصيرها، ولا تستطيع هذه الشريحة سوى الخضوع لما هُيأ لها سلفاً من قبل الآخرين.
الأحداث المبهمة
على الرغم من أن فرهادى صاغ في قهرمان حبكة محكمة، وقدم سرداً درامياً متتابعاً، ومنح الشخصيات تفاصيل دقيقة، إلا أنه أغفل عدة نقاط؛ أولها: الخلفية التاريخية لبطل الفيلم رحيم، فنحن لا نعلم الملابسات المحيطة بزواجه وطلاقه من شقيقة دائنه بهرام، وما هي أسباب تلعثم ابنه سياوش، ولماذا يعيش معه، وليس مع أمه على غرار العادة. ثانياً: طليقة رحيم لم تظهر مطلقاً في أحداث الفيلم، ولم يُعلم اسمها، ولم تُذكر سوى مرتين فحسب، هذا فضلاً عن علاقتها المبهمة بأخيها، فبهرام لم يذكرها مطلقاً طوال أحداث الفيلم، ولم يبد أي تعاطف مع سياوش ابن شقيقته كونه خاله. ثالثاً: لم يوضح لنا الفيلم أسباب انتحار السجين شكورى بعد مرور ست سنوات على حبسه، واكتفى فقط بذكر أن هذه الحادثة قد وقعت نتيجة أفعال مسؤولي السجن المشينة، ولم يشر إليها أيضاً. كل هذه التفاصيل أحدثت شرخاً في سياق الأحداث، وأعتقدُ أنه كان من الأفضل أن يجعل فرهادى من رحيم رجلاً عاذباً، ومن بهرام الدائن شخصاً غريباً عنه، أو من أسرته لتلافي هذه السقطة ما دام لم يكن ينوي توضيح كل هذه التفاصيل.
ومن الأمور المبهمة أيضاً في الفيلم، إخفاء هوية الشخص الذي أرسل الرسالة إلى السيد ناد علي، فنحن لم نعلم هل هو بهرام، أم ابنته نازنين، أم أحد المسؤولين في السجن، أم أحد السجناء؟. فجميع هؤلاء الأشخاص يمثلون أطراف مناهضة للبطل. وأعتقدُ أن فرهادى قد أخفى هوية هذا الشخص متعمداً، ليبقى المشاهدين في حالة من الحيرة حتى يخمنوا هوية هذا الشخص وفقاً لانطباعاتهم الخاصة ورؤيتهم الشخصية للفيلم.
السجون الإيرانية
من العيوب التي تؤخذ على الفيلم، الصورة المثالية التي ظهر عليها السجن الإيراني، فنحن نرى السجناء يلعبون كرة القدم، ويقيمون أنشطة ثقافية وفنية، ويرتدون ملابس عادية، ويُسمح لبعضهم الحصول على تصريح خروج لعدة أيام ما دام التهم الموجهة لهم لم تدخل في نطاق الجرائم. هذه الصورة الإيجابية تتنافى تماماً مع ما يحدث في السجون الإيرانية على أرض الواقع، وربما قصد فرهادى تقديم هذه الصورة لتتماشى مع أحداث الفيلم، فالبطل يخرج من السجن في إجازة لمدة يومين حتى تتوالى الأحداث، هذا بالإضافة إلى الهروب من مقص الرقيب المتشدد الذي لا يسمح مطلقاً بانتقاد النظام أو الإشارة إلى سلبياته. يُغفر لفرهادى إشارته السريعة إلى انتحار أحد السجناء نتيجة سوء معاملة مديري السجن في إشارة مبطنة إلى ما يحدث في السجون الإيرانية من انتهاكات لحقوق الإنسان.
مشهدا البداية والنهاية
استهل فرهادى الفيلم بمشهد رمزي يستغرق ما يقرب من خمس دقائق، يظهر فيه أمير جديدي في لقطة سفلية، وهو يصعد سلالم السقالات المثبتة على نقش رستم الأثري المنحوت في حضن الجبال بمحافظة فارس، متوجهاً إلى ضريح الملك الهخامنشى خَشايارشا Xšayār̥šā القابع على ارتفاع 26 متراً عن سطح الأرض، حيث يظهر على شاشة العرض اسم الفيلم “قهرمان”، وبمجرد صعوده ولقائه بزوج شقيقته حسين، يأخذه الأخير، ويهبط به إلى أسفل مرة أخرى.
هذا المشهد الذي افتتح به فرهادى أحداث الفيلم، وعمد إلى تصويره بكادر سفلي؛ هادئ التفاصيل وبطئ الإيقاع حتى يضفي على شخصية البطل أبهة مستمدة من عظمة المكان العريق، يوضح جوهر الفيلم بأكمله، فالبطل بدأ رحلته ساعياً إلى سداد دينه، مثلما بدأ طريق صعوده إلى ضريح الملك خشايارشا، وعلى الرغم من ارتفاعه إلى أعلى كلما صعود درجة من درجات السلالم، إلا أنه كان دائماً محاصراً بسياج السقالات المحيطة به من الجانبين، مثلما كان يتقدم الخطوة تلو الأخرى نحو سداد دينه، إلا أنه كان دائماً محاصراً بما يحدث حوله من قبل الأفراد المتحكمين به وفي مصيره.
وعلى الرغم من أن نقش رستم يضم عدداً من الأضرحة الأخرى لملوك الأسرة الهخامنشية؛ مثل داریوش الكبير، وأردشیر الأول، وداریوش الثاني، إلا أن رحيم لم يذكر منهم في حديثه مع زوج شقيقته سوى الملك خشايارشا. ويبدو أن فرهادى قد أراد الربط بين حياتي رحيم وخشايارشا، وكأنهما انعكاس لبعضهما بعضاً، فالملك خشاريارشا بدأ حكمه بإخماد الفتن في الممالك الخاضعة له والحروب مع اليونانيين إلى أن مُنِيَ بالهزيمة، وتم اغتياله على يد قائد جيوشه أردوان هیرکانی. وقد اتصف هذا الملك بضعف النفس والانسياق وراء الشهوات والميل إلى اللهو واللعب، وكل هذه الصفات تتنافى مع المعنى المكنون في اسمه؛ فخشايارشا كلمة مكون من مقطعين؛ “خشاى” بمعنى “الحاكم”، و”آرشا” بمعنى “البطل”، أي أنه كان يحمل اسم “الحاكم البطل”. فالملك خشايارشا بدأ حياته بالصعود وأنهاها بالسقوط، وكان يحمل لقب بطل، لكنه ليس بطلاً حقيقياً، ورحيم بدأ رحلته بالصعود، وأنهاها من حيث بدأ، ومُنح لقب بطل، ثم جُرد منه، وهو لا يعرف شيئاً عن البطولة والأبطال، لكنه كان أداة في أيدي الآخرين.
هذا البعد التاريخي الذي أضفاه فرهادى على شخصية البطل مادياً ومعنوياً، أهلّ المشاهد إلى القصة المقدم عليها، ومنحه ومضات يستشف بها المغزى الأساسي للفيلم، فمهما صعدنا لأعلى، سيأتي يوماً ونهبط لأسفل، وهي قصة الفيلم، وقصتنا في الحياة.
وقد ختم فرهادى فيلمه بمشهد رمزي يكمل رمزية المشهد الافتتاحي، ويعضد الفكرة الجوهرية للفيلم؛ ففي المشهد الأخير يظهر رحيم حليق الرأس والذقن، في إشارة للعودة إلى المربع صفر، فقد عاد إلى بداية الطريق الذي قطعه، حيث نراه يدخل بوابة السجن، ويجلس في قاعة الانتظار منتظراً نداء الضابط كما حدث في بداية الفيلم، لكنه هذه المرة ينتظر الأمر بالدخول وليس بالخروج، يجلس بعينين معلقتين على الرجل الذي يخرج من بوابة السجن وزوجته تنتظره في لهفة، وتتلقفه بوَلَه، ينظر إليهما نظرة يحدوها أمل مقتول وقلب مكسور ومحارب مهزوم.
أمير جديدى.. انطلاقة جديدة
وفق فرهادى في اختيار أغلب أبطال قهرمان، وأدارهم بحنكة شديدة، فبرعوا في أداء أدوارهم حتى الشخصيات الثانوية التي ظهرت في مشهد أو مشهدين، لكنني أود التوقف عند شخصيتين؛ الأولى رحيم بإمضاء أمير جديدى، والثانية سياوش بإمضاء الطفل الموهوب صالح كريميايى.
قدم جديدى في قهرمان دوراً جديداً ومختلفاً كلياً عن كل أدواره التي قدمها في أفلامه السابقة، وأعتقدُ أن دور رحيم سلطانى يعد واحداً من أجمل أدوار جديدى على شاشة السينما الإيرانية حتى الآن، وأقربها إلى قلوب المشاهدين سواء في إيران أو خارجها، فهو يجسد شخصية نراها في كل زمان ومكان؛ شخصية تعاني من مشاكل الحياة وضغوطاتها، يحاول الصمود أمام ما يواجه من تحديات، يسقط، ويقف، ويسعى بشتى الطرق أن يظل متماسكاً. وقد عمل جديدى على إضفاء تفاصيل شكلية ومعنوية على شخصية رحيم، جعلته يصل إلى حد التوحد معها؛ نظرة الانكسار المغلفة بالحزن والموشكة على البكاء، الرأس المنكس، الصوت البائس في الحديث، الوجه العابس، البسمة المريرة.. كل هذه التفاصيل التي صاحبت ملامح رحيم طوال الفيلم، تجعلنا ندرك حجم المعاناة القابعة على عاتق هذا الرجل، نبكي معه، نحزن لحزنه، نتمنى له النجاة من سوء أقداره، وتلاعب من حوله به. فقد استطاع أمير جديدى أن يغير جلده في قهرمان تحت القيادة البراعة لفرهادى، وأخذ مسيرته التمثيلية إلى اتجاه جديد لم يخوضه سابقاً، ومن الممكن اعتباره “شهاب حسينى” السينما الإيرانية المستقبلي.
أما الطفل كريميايى البالغ من العمر ربما سبع أو ثماني سنوات، فقد أبهرني بإتقانه أداء دور المتلعثم في تلك السن الصغيرة؛ محاولاته المضنية في النطق، مماطلته أثناء تهجئة الكلمات، جريان دموعه أمام الناس في حفل التكريم كي يساعدون أبيه على سداد دينه.. تؤكد بشكل قاطع أننا أمام موهبة مبشرة لها مستقبل واعد في السينما الإيرانية.
خاص وكالة رياليست – رؤية نقدية وتحليلية – محمد عمر سيف الدين