القاهرة – (رياليست عربي): قال الخبير الاقتصادي المصري، د. أحمد السيد النجار، أن روسيا قررت أن تسدد أوروبا وبالتحديد الدول التي استهدفت موسكو بإجراءات عدائية، ثمن الغاز الروسي بالروبل بداية من أول أبريل/ نيسان القادم، وهذا الأمر حق لروسيا فالروبل عملة حرة تماماً وقابلة للتحويل في العمليات الجارية والرأسمالية ويتحدد سعره بشكل حر في سوق الصرف وهو مسند باحتياطيات ضخمة بلغت أكثر من 600 مليار دولار قبل الحرب وضع الغرب يده على نصفها تقريباَ في فعل لصوصي.
والروبل مسند أيضاً بفائض في ميزان الحساب الجاري بلغ 3,8%، و 2,2%، و 3,9% من الناتج المحلي الإجمالي الروسي في الأعوام 2019، 2020، 2021 على التوالي. ووفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي التي وضعت قبل الحرب سوف يبلغ الفائض نحو 3,3% من الناتج المحلي الإجمالي الروسي عام 2022، ومن المرجح أن يزيد عن ذلك في ظل ارتفاع أسعار النفط والغاز بصورة تتجاوز أي تخفيض يمكن أن يكون قد حدث في حجم الصادرات.
وبالمقابل أعلنت أوروبا بتحريض أمريكي رفضها للمطلب الروسي لأنها لو قبلت ستكون مضطرة لإيقاف المضاربات على الروبل التي تسبب اضطراب أسعاره وتشكل ضغطاً على موسكو، وزادت على ذلك بالتأكيد على أنها خلال عامين سوف تستغني عن الغاز الروسي الذي يشكل من 40%- 45% من احتياجاتها من الغاز الطبيعي. وهو إعلان دعائي يصعب تطبيقه عملياً فالأمر يستدعي فترة أطول من العامين بكثير، فضلاً عن تكلفتها الباهظة المدمرة لتنافسية المنتجات الأوروبية في الأسواق الدولية.
ماذا أمام الطرفين إذن: روسيا التي لم تستخدم إمدادات الطاقة التي تغذي بها أوروبا في الضغط عليها حتى في أسوأ لحظات الخلاف منذ زمن الاتحاد السوفيتي وحتى الآن، أصبحت تدرك أن الغدر الأوروبي قادم بتحريض أمريكي يستهدف الحلول محل روسيا، وأن خطوط الأنابيب الروسية التي تنقل نفطها وغازها إلى أوروبا والتي كلفتها الكثير يمكن أن تصبح مجرد أنابيب خاوية مطمورة في الأوحال الأوروبية بعد عدة أعوام لو استمرت الروح العدائية الأوروبية الراهنة ضد موسكو.
وبالتالي فإنها لن يكون لديها ما تخسره لو قطعت الإمدادات عن أوروبا من الآن لترتفع أسعار النفط والغاز لمستويات خيالية بحيث تعوض الزيادة في إيرادات الصادرات الروسية لباقي دول العالم، غالبية النقص في الإيرادات الناجم عن إيقاف الصادرات لأوروبا، وليغرق العالم كله في أزمة اقتصادية طاحنة وليس الاقتصاد الروسي وحده. وإذا لم تتراجع أوروبا وتطرح بدائل مرنة لحل الأزمة، فإن روسيا ستفقد مصداقيتها إن لم توقف صادراتها رداً على الرفض الأوروبي لسداد ثمن المشتريات الأوروبية من النفط والغاز الروسيين بالروبل.
وسوف يكون على روسيا أن تمد خطوط أنابيب جديدة إلى الهند والصين ودول آسيوية أخرى بدلاً من أوروبا. وسوف يكون عليها وهو الأهم أن تنقل التقنيات الرفيعة المستوى المستخدمة في صناعة الأسلحة والصناعات الفضائية لديها إلى الاقتصاد المدني لتطوير وتنويع هيكلة وتقليل الاعتماد على إيراد الموارد الطبيعية من النفط والغاز.
القرار صعب ويحقق هدف الولايات المتحدة بنسف منظومة تبادل المصالح الروسية مع أوروبا حتى ولو كانت الأخيرة هي البادئة بالعدوان على المصالح الروسية. لكن تصور أوروبا أنها صاحبة اليد العليا لأنها تستورد الغاز الروسي وتدفع ثمنه بعملات حرة تحتاجها موسكو، يمكن أن يدفع الأخيرة إلى هدم المعبد على رؤوس الجميع طالما أنهم لا يحترمون قاعدة المساواة والندية في أي تبادل المصالح.
والدولة الرئيسية القادرة على إيقاف هذا الخيار هي ألمانيا ومن بعدها هولندا وإيطاليا وفرنسا لو تم القبول بتسوية المعاملات مع روسيا بالروبل. ويمكن أن تشترط تلك الدول تثبيت سعر الروبل في التعاملات التجارية الدولية تصديراً واستيراداً، وهو أمر يمكن لموسكو أن تبحثه بجدية للوصول إلى حل وسط مع الشركاء الأوروبيين في إطار صفقة تضمن عدم توقف أوروبا عن استيراد النفط والغاز الروسيين. وهناك دول أوروبية يمكن أن تقبل بدفع ثمن وارداتها من النفط والغاز الروسيين بالروبل مثل صربيا وربما المجر ورومانيا والتشيك وإسبانيا والنمسا وكلها تمثل السوق الروسية سوقاً مهمة لصادراتها بما يعني أنها سيكون لديها حصيلة من الروبل لسداد قيمة وارداتها من روسيا.
أما أوروبا المُساقة أمريكياً وهي البادئة بالعدوان الاقتصادي على روسيا بعد مشاركتها الذيلية للولايات المتحدة في تحريض أوكرانيا على مهاجمة القرم والدونباس وطلب الانضمام للناتو والتحول لقوة نووية وذهابها لتفكيك الروابط الاقتصادية مع موسكو والاستيلاء على أصولها المالية والعقارية الموجودة لديهم.. أوروبا هذه سوف تتعرض في حالة إيقاف روسيا صادراتها من النفط والغاز إليها، لصدمة اقتصادية عنيفة وهائلة ولركود تضخمي لم تشهد له مثيلاً من قبل. ومثل ذلك الركود التضخمي يمكن أن يؤدي احتجاجات واضطرابات اجتماعية- سياسية يمكن أن تصل إلى أي مدى في قارة هي الأعنف تاريخياً في إدارة صراعاتها الداخلية والخارجية والسعي وراء أطماعها من محاكم التفتيش والغزوات الاستعمارية لاحتلال ونهب باقي دول العالم بصورة إجرامية وإبادة السكان الأصليين والحلول محلهم فيما أصبح يسمى الولايات المتحدة والأمريكتين والحروب البينية وذروتها الحربين العالميتين الأولى والثانية والحرب ضد يوغوسلافيا والعراق وأفغانستان وسوريا وليبيا وغيرها من الحروب.
ويمكن لأوروبا تعويض النقص في إمدادات النفط تدريجياً بصورة أسرع نسبياً رغم تكلفتها العالية، لكنها لن تستطيع تعويض الغاز الروسي الذي تستورد من 40%- 45% من احتياجاتها منه إلا بعد فترة سوف تزيد عن ثلاثة أعوام بالتأكيد لإنشاء محطات إسالة في الدول المصدرة المحتملة ومحطات تحويل للحالة الغازية في الدول الأوروبية المستوردة والمستهلكة له، أو لمد خط أنابيب من إيران الغنية بالغاز الطبيعي (لديها ثاني أكبر احتياطي في العالم بعد روسيا وحجمه نحو 34 تريليون متر مكعب) لأوروبا عبر تركيا، أو من قطر (لديها ثالث أكبر احتياطي في العام وحجمه 23,9 تريليون متر مكعب) عبر تركيا مروراً بالسعودية والأردن وسوريا أو العراق.
وإذا وصل الأمر إلى حد القطيعة فإن تلك الأعوام كفيلة بإحداث كوارث اقتصادية مروعة في أوروبا. وكان سعر الغاز المسال قبل الحرب الروسية – الأوكرانية يعادل أربعة أمثال سعر الغاز الطبيعي في صورته الغازية، ترتفع إلى أكثر من خمسة أمثال سعر الغاز الطبيعي في صورته الغازية إذا أضفنا تكلفة تشغيل محطات التحويل للحالة الغازية في الدول المستوردة، فضلاً عن تكاليف إنشاء محطات الإسالة في الدول المصدرة. وبالتالي فإنه حتى في حالة التحول عن الغاز الروسي فإن الاقتصادات الأوروبية سوف تتحمل تكاليف إضافية هائلة لشراء الغاز المسال من مصادر أخرى، وسوف يؤثر ذلك على دول التكلفة لمختلف المنتجات الأوروبية بحيث ترتفع بصورة موازية لارتفاع الطاقة التي تشكل مدخلاً رئيسياً في كل المنتجات. وهذا الأمر سوف يقلل من القدرة التنافسية الدولية للمنتجات الأوروبية مقارنة مع المنتجات الأمريكية ومنتجات الدول الآسيوية التي يمكن أن تحصل على الغاز الطبيعي الروسي في صورته الغازية الرخيصة.
وكما هو واضح فإنه لو تم الاحتكام للعقل فإن مصلحة روسيا وأوروبا هي في الابتعاد عن العقوبات المتبادلة والاتفاق بشأن تسوية التعاملات بالروبل أو بغيره بصورة مرنة ضمن شروط مناسبة للطرفين، بدلاً من العناد في سوق الطاقة الذي لن يجلب لأوروبا سوى الخسارة الهائلة، وسيكبد روسيا تكاليف باهظة لتأسيس بنية أساسية جديدة لتصدير النفط والغاز لبلدان أخرى في آسيا، والرابح الوحيد من هذا العناد ونتائجه سيكون الولايات المتحدة وشركاتها النفطية وعملتها العارية من الغطاء الذهبي أو الإنتاجي والتي تنهب بها العالم مقابل مجرد أوراق تستشيط غضبا وتندفع تحريضا ضد كل من يحاول تقليص دور تلك العملة في تسوية المعاملات التجارية والمالية الدولية.