بغداد – (رياليست عربي): تُمثّل العلاقة بين الدروز والسنّة في سوريا نموذجًا صارخًا للتوترات الطائفية التي كانت مكمّمة بقوة السلطة طوال حكم البعث، ثم انفجرت بعنف بعد سقوط بشار الأسد عام 2024. وبينما كانت الثورة السورية تطمح إلى تجاوز الهويات الطائفية وبناء دولة مدنية، فإن ما حدث على أرض الواقع كان عكس ذلك تمامًا، خصوصًا في الجنوب السوري، حيث تحوّلت السويداء، المعقل الدرزي، إلى ساحة صراع جديدة تُظهر هشاشة النسيج الاجتماعي، وضعف مؤسسات الدولة، وتراكم المظالم التاريخية.
يعود الانقسام بين الطائفتين إلى جذور عقائدية عميقة؛ فالدروز نشأوا في القرن الحادي عشر كفرقة باطنية مغلقة، تقوم على عقيدة توحيدية عقلانية تمنع اعتناق الدين من خارج الطائفة، بينما نظرت المدارس السنيّة التقليدية – خاصة عبر فتاوى مثل فتوى ابن تيمية – إليهم كطائفة مبتدعة خارجة عن الإسلام، مُجيزة قتالهم في بعض السياقات. هذا الانفصال اللاهوتي ترسّب في الوعي الجمعي، وتهيّأ للانفجار حين توفرت الظروف السياسية الملائمة.
خلال العهد العثماني، تمرد الدروز مرارًا على السلطة، رافضين التجنيد الإجباري، ما أدى إلى حملات قمع عنيفة، غالبًا بمشاركة قوى سنّية محلية. لاحقًا، في مجازر 1860 الشهيرة، تورّط الدروز في مواجهات دموية ضد المسيحيين، فيما وُجّهت اتهامات للسنّة بالمشاركة أو التواطؤ. ثم جاء الانتداب الفرنسي ليعمّق الشرخ، حين تحالفت بعض القيادات الدرزية مع سلطات الاحتلال ضد الحراك الوطني الذي كان ذو طابع سنّي، ما خلّف إرثًا من الريبة والاتهام بالخيانة في المخيال السني.
في عهد الأسد الأب والابن، تمت إدارة العلاقة مع الدروز بسياسة مزدوجة: حماية محدودة مقابل الصمت والولاء. وحين اندلعت الثورة عام 2011، اختار الدروز نهج “الحياد المسلح”، فلم يشاركوا في القمع، لكنهم لم يؤيدوا الثورة علنًا، واحتفظوا بعلاقات مع النظام. هذا الحياد فُسّر من قبل كثيرين من السنّة على أنه تواطؤ، خاصة مع استخدام قواعد عسكرية في السويداء لقصف مدن سنيّة كدرعا، ما عمّق الشعور بالخذلان والعداء.
ومع سقوط النظام عام 2024، انهارت المركزية التي كانت تُجمّد الصراع، وتفككت مؤسسات الدولة، ما أطلق العنان لقوى محلية: ميليشيات، فصائل عشائرية، مجموعات سلفية، ومجالس مدنية ضعيفة. هذا الفراغ جعل الجنوب السوري، والسويداء تحديدًا، مسرحًا لتصفية الحسابات المؤجلة.
زادت المخاوف الدرزية مع صعود التيار السني المتشدد، وعودة شخصيات مثل فاروق الشرع إلى الواجهة. ورغم اعتداله النسبي، وابتعاده عن الخطاب الديني، فإن الشرع – ابن درعا – ظل في نظر كثيرين رمزًا للهوية السنيّة الرسمية. بالنسبة للدروز، طرح اسمه في المرحلة الانتقالية مثّل تهديدًا ضمنيًا بإعادة هيكلة الدولة وفق منطق طائفي، وليس وطني، وهو ما أثار مخاوف وجودية لدى الأقليات.
في تموز 2025، انفجرت الأوضاع في السويداء إثر حادثة خطف بسيطة سرعان ما تحولت إلى صراع عشائري–طائفي مسلح، أوقع عشرات القتلى. الحكومة المؤقتة، الهشة أصلًا، فشلت في فرض النظام، ما سمح بتمدّد الجماعات المسلحة وعودة شبح الحرب الأهلية المصغّرة. وفي الخارج، تحرك الدروز داخل إسرائيل، مطالبين بحماية إخوانهم في سوريا، ما أتاح لتل أبيب ذريعة لتنفيذ ضربات عسكرية في الجولان تحت عنوان “الدفاع عن الدروز”، في مؤشر خطير على احتمال تدويل الصراع وتحويله إلى ورقة ضغط إقليمي.
لكن المشهد لا يُفهم فقط من زاوية الهوية، فالبعد الاقتصادي–الاجتماعي لا يقل أهمية. الانهيار الاقتصادي، وغياب فرص العمل، وانعدام الأمن الغذائي والخدمات، كل ذلك دفع فئات واسعة من سكان الجنوب – بمن فيهم الدروز – إلى التسلّح والانكفاء الطائفي. الجماعات المسلحة استغلت هذا الانكشاف لفرض سلطتها تحت شعار “حماية المجتمع”، بينما غابت الدولة كليًا، لا قانونًا ولا أمنًا ولا حتى رمزيًا.
أمام هذا الواقع، تتعدد السيناريوهات المحتملة لمستقبل الصراع:
أولًا، سيناريو “لبننة السويداء”، أي تحوّلها إلى منطقة حكم ذاتي بحكم الأمر الواقع، تديرها الزعامات المحلية التقليدية مثل الشيخ حكمت الهجري. هذا السيناريو الأقرب على المدى القصير، لكنه يحمل بذور الانفجار لاحقًا بسبب غياب الدولة وتمدّد التدخلات الخارجية.
ثانيًا، احتمال المواجهة المباشرة بين السويداء وحكومة مركزية ذات صبغة سنّية متشددة، إذا ما حاولت فرض هيمنتها بالقوة. حينها قد تندلع ثورة درزية شاملة تُعيد البلاد إلى مربع الحرب الأهلية.
ثالثًا، تدخل خارجي عسكري (خاصة من إسرائيل) تحت ذريعة “حماية الدروز”، ما يفتح الباب أمام تدويل الأزمة وتحويلها إلى صراع إقليمي مفتوح.
وأخيرًا، سيناريو المصالحة الوطنية، وهو الأكثر بُعدًا حاليًا، لكنه ضروري لإنقاذ سوريا من الانهيار التام. يتطلب هذا الخيار إرادة سياسية داخلية، وضغطًا دوليًا حقيقيًا، وإعادة صياغة للدولة لا تقوم على الغلبة بل على التعدد والعدالة.
خاتمة: على حافة الهاوية
رغم قرون من التعايش والتداخل، إلا أن العلاقة بين الدروز والسنّة في سوريا اليوم تترنح فوق هاوية طائفية محفوفة بالخطر. سقوط النظام لم يؤسس لمرحلة انتقالية عادلة، بل كشف كم هو هشّ النسيج الوطني حين يُبنى على القسر والسكوت لا على الحوار والاحترام.
السويداء لم تعد مجرد محافظة، بل تحولت إلى مؤشر حساس لقياس مستقبل سوريا بأكملها. نجاح التعايش فيها يعني إمكانية بناء دولة جديدة تتسع للجميع، أما فشل ذلك، فهو إيذان بانفجار قادم يعيد إنتاج مآسي الماضي في قالب أكثر خطورة.
وهنا يُطرح السؤال الجوهري:
هل يمكن بناء سوريا جديدة على أسس مدنية تعددية تتجاوز منطق الطائفة؟
أم أن الحرب لم تنتهِ بعد، بل دخلت طورًا جديدًا: أبطأ، أعمق، وأكثر تعقيدًا؟
الجواب لا يزال معلقًا… في السويداء.
خاص وكالة رياليست – عبدالله الصالح – كاتب وباحث ومحلل سياسي – العراق.