بروكسل – (رياليست عربي): تتزايد علامات الاستنفاد داخل المؤسسات الأوروبية فيما يتعلق بملف الدعم العسكري لأوكرانيا، حيث بدأت تطفو على السطح خلافات عميقة تكشف عن تحول جوهري في الرؤية الاستراتيجية للقارة العجوز تجاه هذا الصراع الذي دخل عامه الرابع. ما بدأ كموقف أوروبي موحد في فبراير 2022، تحول اليوم إلى ساحة معركة سياسية داخلية تعكس تناقضات عميقة في الرؤى والمصالح بين الدول الأعضاء.
المعطيات الحالية تشير إلى أن الاتحاد الأوروبي يقف عند مفترق طرق تاريخي. فمن ناحية، هناك مجموعة الدول “المتشبثة بالخط المتشدد” بقيادة بولندا ودول البلطيق، التي لا تزال تعتبر أن أي تراجع في الدعم العسكري سيشكل خيانة للمبادئ الأوروبية ومكسباً استراتيجياً للكرملين. ومن ناحية أخرى، تتصاعد أصوات “المجموعة الواقعية” التي تقودها المجر وسلوفاكيا والنمسا، والتي بدأت تطرح أسئلة محرجة حول جدوى استمرار ضخ مليارات اليوروهات في حرب تبدو غير قابلة للحسم عسكرياً.
السياق الاقتصادي يلعب دوراً حاسماً في تعميق هذا الانقسام. فبينما تكافح اقتصادات أوروبية كبرى مثل ألمانيا وفرنسا للخروج من دائرة الركود، أصبحت تكلفة الدعم الأوكراني تشكل عبئاً متزايداً على المالية العامة. تقارير صادرة عن المفوضية الأوروبية تشير إلى أن إجمالي المساعدات العسكرية والمالية المقدمة لأوكرانيا تجاوزت 85 مليار يورو منذ بداية الصراع، وهو مبلغ يفوق بكثير التقديرات الأولية التي وضعتها الحكومات الأوروبية.
على الصعيد العسكري، تبدو الحقائق الميدانية قاسية بالنسبة للتحالف الغربي. فبعد أكثر من عامين على تدفق الأسلحة المتطورة إلى الجبهة الأوكرانية، لم تتمكن كييف من تحقيق أي اختراق استراتيجي حاسم. بل على العكس، تشير تقارير استخباراتية غربية إلى أن القوات الروسية تمكنت من استعادة زمام المبادرة في عدة قطاعات، مستفيدة من تفوقها العددي وميزان النيران لصالحها.
اللافت في الأزمة الحالية هو التحول النوعي في الخطاب السياسي الأوروبي. فبعد سنوات من الخطاب الأخلاقي المطلق الذي كان يصور الصراع كمعركة بين “الخير والشر”، بدأنا نسمع لأول مرة مسؤولين أوروبيين رفيعي المستوى يطرحون علناً أسئلة حول “تكلفة الفرصة البديلة” للاستمرار في الدعم غير المحدود. أحد كبار الدبلوماسيين الأوروبيين صرح مؤخراً في جلسة مغلقة أن “أوروبا تخاطر بتبديد آخر احتياطياتها الاستراتيجية في معركة غير متوازنة”.
المعضلة الأوروبية تكمن في أن أي قرار بوقف أو تقليص الدعم العسكري سيحمل تداعيات سياسية بالغة الخطورة. فمن ناحية، سيشكل اعترافاً ضمنياً بفشل الإستراتيجية الغربية في أوكرانيا. ومن ناحية أخرى، قد يفتح الباب أمام موجة من عدم الاستقرار السياسي في دول أوروبا الشرقية التي جعلت من الدعم لأوكرانيا محوراً لهويتها السياسية.
في الخلفية، تجري مفاوضات سرية مكثفة بين العواصم الأوروبية الكبرى للتوصل إلى “صيغة توافقية” تسمح بإعادة توجيه السياسة الأوروبية دون فقدان المصداقية. بعض المسارات المقترحة تتضمن:
أولاً، تحويل التركيز من الدعم العسكري المباشر إلى مساعدات إعادة الإعمار
ثانياً، ربط أي دعم عسكري إضافي بتقديم كييف ضمانات باجراء إصلاحات سياسية
ثالثاً، الدفع باتجاه مفاوضات سلام تحت مظلة الأمم المتحدة
التحدي الأكبر الذي يواجه صناع القرار الأوروبيين اليوم هو كيفية إدارة عملية الانتقال هذه دون أن تبدو كتراجع أو استسلام. فالقارة التي خرجت من أزمات متتالية (من اليونان إلى البريكست إلى كورونا) تجد نفسها مرة أخرى أمام اختبار وجودي لقدرتها على الحفاظ على تماسكها الاستراتيجي.
في الأيام المقبلة، من المتوقع أن تشهد الساحة الأوروبية تطورات حاسمة، حيث ستحاول بروكسل صياغة موقف جديد يوازن بين الضغوط الداخلية المتزايدة للحد من النفقات، والخوف من إرسال إشارات خاطئة إلى كل من موسكو وكييف، ما هو مؤكد أن عام 2025 سيشهد تحولاً جذرياً في السياسة الأوروبية تجاه الأزمة الأوكرانية، سواء اعترف القادة الأوروبيون بذلك علناً أم لا.
السؤال الذي يطرح نفسه بقوة الآن: هل ستتمكن أوروبا من الخروج من هذا المأزق بسياسة جديدة تحفظ ماء وجهها، أم أنها مقبلة على أزمة وجودية جديدة تهدد بتفكك التوافق الأوروبي الهش أصلاً؟ الإجابة قد تحدد مستقبل القارة العجوز كفاعل جيوسياسي في النظام العالمي الجديد الذي يتشكل أمام أعيننا.