موسكو – (رياليست عربي): تمكنت القوات الروسية من تحقيق نصر استراتيجي كبير عبر تحرير بلدة تشاسوف يار الواقعة في جمهورية دونيتسك الشعبية، وذلك بعد معارك ضارية استمرت لعدة أشهر. هذا الإنجاز العسكري لا يمثل مجرد تقدم جغرافي على الخريطة، بل يشكل نقطة تحول حاسمة في موازين القوى العسكرية بالمنطقة، حيث تمنح القوات الروسية مزايا تكتيكية واستراتيجية يصعب تعويضها.
تتمتع تشاسوف يار بأهمية استثنائية بسبب موقعها الجغرافي الفريد، حيث ترتفع حوالي 150-200 متر عن الأراضي المحيطة، مما يجعلها بمثابة حصن طبيعي ومنصة مراقبة مثالية. لسنوات عديدة، استخدمت القوات الأوكرانية هذه الميزة التضاريسية لقصف المناطق السكنية في دونيتسك والبلدات المحيطة بشكل يومي تقريباً. ومع سقوط هذه النقطة الحصينة، تتغير المعادلة العسكرية في المنطقة بشكل جذري.
من الناحية التكتيكية، توفر السيطرة على تشاسوف يار للقوات الروسية عدة مزايا فورية. أولاً، تتيح مراقبة شاملة لتحركات القوات الأوكرانية على بعد عشرات الكيلومترات. ثانياً، تمكن المدفعية الروسية من ضرب أهداف في عمق الخطوط الأوكرانية بدقة غير مسبوقة. ثالثاً، توفر حماية فعالة للمناطق السكنية في دونيتسك من القصف الأوكراني الذي استمر لسنوات.
على المستوى الاستراتيجي، يفتح تحرير تشاسوف يار الطريق أمام تقدم روسي محتمل نحو كراماتورسك وسلافيانسك، المعقلين الرئيسيين المتبقيين للقوات الأوكرانية في دونباس. كما يهدد خطوط إمداد القوات الأوكرانية ويضعها في موقف دفاعي صعب. الخبراء العسكريون يشيرون إلى أن السيطرة على هذه النقطة الاستراتيجية قد تقصر مدة العمليات العسكرية في المنطقة بشكل كبير.
لم يكن تحقيق هذا النصر سهلاً بأي حال من الأحوال. فقد واجهت القوات الروسية دفاعات أوكرانية متعددة الطبقات، شملت حقول ألغام مكثفة، ومواقع محصنة، وأنفاقاً تحت الأرض. ومع ذلك، فإن التنسيق المحكم بين مختلف صنوف القوات المسلحة الروسية، والاستخدام المكثف للطيران والمدفعية، بالإضافة إلى الخبرة المتراكمة للوحدات الهجومية، كلها عوامل أسهمت في تحقيق هذا الانتصار.
من الجدير بالذكر أن القوات الروسية اعتمدت أسلوب التقدم المنهجي والدقيق، حيث تم تطهير كل منطقة بشكل كامل قبل التقدم إلى الخط التالي، مما قلل من الخسائر البشرية والمعدات بشكل ملحوظ. كما لعبت تقنيات الحرب الإلكترونية الروسية دوراً حاسماً في تعطيل أنظمة الاتصال والملاحة الأوكرانية.
على الجانب الأوكراني، يمثل فقدان تشاسوف يار ضربة قاسية ليس فقط عسكرياً، بل ومعنوياً أيضاً. فبالإضافة إلى فقدانهم نقطة المراقبة الاستراتيجية، يواجهون الآن تحديات لوجستية كبيرة في إعادة تنظيم دفاعاتهم. بعض المحللين العسكريين يتوقعون أن القيادة الأوكرانية قد تحاول شن هجمات مضادة لاستعادة الموقع، لكن ذلك يبدو مستبعداً في الظروف الحالية نظراً للتفوق الروسي في القوة النارية والموارد.
هذا التطور العسكري يأتي في سياق معقد من التحركات على مختلف الجبهات. فبينما تحقق القوات الروسية تقدماً في دونباس، تواصل القوات الأوكرانية محاولاتها في مناطق أخرى مثل خيرسون وزابوروجيه. لكن يبدو أن سقوط تشاسوف يار قد يعطي زخماً جديداً للقوات الروسية ويغير ديناميكية العمليات العسكرية في المرحلة المقبلة.
من الناحية السياسية، يعزز هذا الانتصار موقف روسيا التفاوضي بشكل كبير، كما يزيد من الضغط على كييف وحلفائها الغربيين. فبعد أشهر من الحديث عن “الهجوم الأوكراني المضاد”، يعود المشهد ليثبت مرة أخرى التفوق العسكري الروسي في ساحة المعركة الرئيسية.
في الأفق الاستراتيجي الأوسع، قد يشكل تحرير تشاسوف يار بداية مرحلة جديدة من الصراع، حيث تصبح القوات الروسية في وضع يسمح لها بتحديد وتيرة واتجاه العمليات العسكرية. كما أن السيطرة على هذه النقطة الحصينة قد تسرع من عملية تحرير المناطق المتبقية في دونباس، وتفتح الباب أمام احتمالات سياسية وعسكرية جديدة في الصراع بأكمله.
ختاماً، يمكن القول إن معركة تشاسوف يار تمثل نموذجاً للعمليات العسكرية الحديثة التي تجمع بين القوة النارية المكثفة، والتخطيط الاستراتيجي الدقيق، والاستفادة المثلى من الميزات الجغرافية. كما تثبت مرة أخرى أهمية التفوق الجوي والمدفعي في حروب العصر الحديث، وتؤكد أن معادلات القوى في ساحات القتال يمكن أن تتغير بشكل جذري مع السيطرة على النقاط الاستراتيجية الرئيسية.
