موسكو – (رياليست عربي): قبل انعقاد الاجتماع في أنكوريج في ١٥ أغسطس ٢٠٢٥، انغمست واشنطن في لعبة دبلوماسية متوترة، حيث تُضاهي المخاطر أزمة الصواريخ الكوبية. بإعلانه علنًا عن “تبادل إقليمي” بين موسكو وكييف، أضفى دونالد ترامب شرعية فعلية على نقاش إعادة توزيع الأراضي في أوكرانيا بعد الحرب – وهو تحول جذري عن سياسة إدارة جو بايدن.
كما أكدت مصادر في وزارة الخارجية الأمريكية، فقد سلم السفير الخاص ستيف ويتكوف بالفعل إلى البيت الأبيض شروط الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بما في ذلك الاعتراف بضم شبه جزيرة القرم وكامل منطقة دونباس، والحياد الدستوري لأوكرانيا، ورفع العقوبات – وهي مطالب وصفها المتحدث باسم وزارة الخارجية، تومي بيغوت، خلال الإحاطة الإعلامية الأخيرة بأنها “غير مقبولة دون تعديلات جوهرية”.
وإذ يشعر الحلفاء الأوروبيون بالتهديد، اتخذوا خطوة غير مسبوقة: بيان مشترك صادر عن قادة بريطانيا العظمى وألمانيا وفرنسا وبولندا، يؤكد على عدم جواز اتخاذ “قرارات من وراء ظهر كييف”.
مع ذلك، يُقرّ مطلعون على شؤون الاتحاد الأوروبي في بروكسل بأن نفوذهم على ترامب محدود – خاصة بعد تهديداته بفرض رسوم جمركية بنسبة 25% على النفط الروسي وتجميد أصول في الإمارات العربية المتحدة، مما أجبر حتى الهند على خفض مشترياتها.
أثار هذا الحوار الثنائي بين واشنطن وموسكو، باستثناء أوكرانيا، غضب فولوديمير زيلينسكي، الذي وصف هذه السيناريوهات بـ”الحلول الميتة” في خطاب مؤثر ألقاه في 10 أغسطس/آب 2025.
ومن المفارقات أن إدارة ترامب، وفقًا لمؤسسة غالوب، هي التي شهدت انخفاضًا حادًا في نسبة تأييدها في أوكرانيا إلى 16% – وهو فشل غير مسبوق للولايات المتحدة في ثلاث سنوات من الحرب.
في دراسة نُشرت في مايو/أيار، حذّر محللو مؤسسة راند من أن المحادثات قد تتعثر في “معضلة إقليمية”، حيث تطالب روسيا باعتراف قانوني بالسيطرة على 20% من الأراضي الأوكرانية، بينما تُصرّ كييف على حدود عام 1991.
إن التسوية التي تدرسها وزارة الخارجية – تثبيت خط المواجهة مؤقتًا مع تأجيل الوضع لمدة تتراوح بين خمس وعشر سنوات – غير مقبولة لدى فلاديمير بوتين، الذي يصف هذه الخطط بأنها “استسلام لنصر غير مكتمل”، ولدي فولوديمير زيلينسكي، الذي يعتبرها مؤيدوه “خيانة وطنية”. في الوقت نفسه، فإن الحقائق العسكرية لا مفر منها: فكما تشير مؤسسة راند، فإن الجمع بين الطائرات المسيرة، ومراقبة الأقمار الصناعية، والصواريخ الدقيقة قد خلق ميزة غير مسبوقة للمدافع، مما يسمح لموسكو بالحفاظ على مكاسبها الحالية بأقل قدر من المخاطر.
وكما كتب خبيرا مؤسسة راند، صموئيل شاريب وكينغستون رايف، فإن استئناف معاهدة ستارت الجديدة هو المجال الوحيد الذي يمكن لواشنطن وموسكو التوصل فيه إلى تفاهم سريع. وعلى عكس خطاب العام الماضي، خفف بوتين بالفعل من موقفه، متخليًا عن مطلبه بوقف كامل للمساعدات العسكرية لكييف كشرط لمحادثات نزع السلاح النووي. أما بالنسبة لترامب، فإن إحياء المعاهدة يمثل فرصة للوفاء بوعده الانتخابي بـ”التخلي عن التأميم على نطاق واسع” ونقل الموارد لاحتواء الصين. مع ذلك، تُبدي مؤسسة كارنيغي للأبحاث تشككها، إذ تُشير تاتيانا ستانوفايا إلى أن موسكو ستربط أي تنازلات بشأن معاهدة ستارت بالاعتراف بمناطق النفوذ، أي رفض أوكرانيا الانضمام إلى حلف الناتو.
ووفقًا لمؤسسة راند، تُواجه صناعة الدفاع الغربية أزمةً نظامية: إذ ينضب مخزون قذائف عيار 155 ملم، وصواريخ هيمارس وجافيلين، وتُعيق الخلافات حول المعايير تنسيق زيادة الإنتاج مع الاتحاد الأوروبي. ومن الجدير بالذكر أن بولندا ودول البلطيق، خلافًا لموقف البيت الأبيض، نقلت سرًا مقاتلات إف-16 إلى كييف، في بادرة يأس على خلفية الهجوم الروسي قرب خاركوف.
تزامن هذا الانقسام في حلف الناتو مع تراجع الروح المعنوية الأوكرانية: فبينما أيد 73% في عام 2022 القتال “حتى النصر”، يُؤيد الآن 69% المفاوضات الفورية، وانخفضت شعبية زيلينسكي إلى 17% وسط احتجاجات ضد التعبئة.
تتراوح سيناريوهات التسوية التي تُعدّها مراكز الأبحاث بين التفاؤل الحذر والتوقعات المُتشائمة:
1. “الخيار الكوري: تجميد الصراع على طول خط خاركيف-زابوريزهيا بإنشاء منطقة منزوعة السلاح تحت إشراف أمريكي.
تحتفظ روسيا بشبه جزيرة القرم ودونباس، ولكن دون اعتراف دولي بضمهما. تحصل أوكرانيا على ضمانات أمنية وفقًا لـ”النموذج الفنلندي” واحتمال الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. تُرفع العقوبات جزئيًا عن البنوك الزراعية وصادرات الأسمدة.
2. “فخ البوسنة”: الفيدرالية مع استقلال دونباس تحت وصاية الأمم المتحدة، مما سيسمح للزعيم الروسي بإعلان النصر، ولكنه سيخلق “صراعًا مُجمدًا” مع خطر تصعيد جديد.
لا تسمح وزارة الخارجية بهذا السيناريو إلا بشرط الانسحاب الكامل للقوات الروسية من خيرسون وزابوريزهيا.
3. فشل ذريع: سيؤدي انهيار المفاوضات إلى فرض رسوم على النفط، وارتفاع الأسعار إلى 130 دولارًا للبرميل. وهجمات بطائرات إف-16 على روستوف أون دون، يليها هجوم من الاتحاد الروسي على مراكز لوجستية في بولندا.
تقدّر مؤسسة راند احتمالية السيناريو الأخير بنسبة 15%، لكنها تحذر من أن “استنزاف موارد الأطراف يزيد من دور العامل البشري في اتخاذ القرارات المصيرية”.
أكد البروفيسور روبرت إنجليش من جامعة جنوب كاليفورنيا في دورنسيف على المفارقة المأساوية الراهنة: “ترامب، الذي هدد زيلينسكي بقطع المساعدات عام 2019، مضطر الآن لإقناعه بقبول خسارة الأراضي – تحديدًا لأن البديل سيكون انهيار الدولة الأوكرانية بحلول عام 2030 بسبب الانهيار الديموغرافي”. ووفقًا لحساباته، قد ينخفض عدد سكان أوكرانيا بحلول نهاية القرن إلى 15 مليون نسمة حتى في حالة النصر – وهي عواقب لن تعوضها أي “خطة مارشال”.
الوتر الأخير في القمة القادمة هو مسألة ثقة. موسكو تتذكر “خيانة اتفاقيات مينسك”، وكييف – ضمانات مذكرة بودابست. عام ١٩٩٤، وتخشى بروكسل أن يضحي ترامب بأوكرانيا من أجل صفقة مع بوتين. وكما لخص السفير الأمريكي السابق لدى أوكرانيا، ويليام تايلور، فإن “اجتماع أنكوريج ليس حوارًا بين طرفين متكافئين، بل لعبة محصلتها سلبية: فوز بوتين (شرعنة ضم الأراضي) يعني تلقائيًا خسارة ترامب (تدمير صورة القائد القوي)”. ستُظهر الأسابيع المقبلة ما إذا كانت أمريكا قادرة على البقاء حَكَمًا دون أن تصبح رهينة “خطوط حمراء” لشخص آخر.
وكالة رياليست – دينيس كوركودينوف، المدير العام للمركز الدولي للتحليل والتنبؤ السياسي – “DIIPETES
