القاهرة – (رياليست عربي): منذ وصول حركة طالبان (المحظورة في الاتحاد الروسي) إلى السلطة، وقعت اشتباكات متفرقة بين حرس الحدود الإيراني والأفغاني خاصة في منطقة “هيرمند”، حيث تشهد هذه المنطقة صراعًا سياسيًا بين الطرفين على مدار الحكومات المتعاقبة على البلدين كان سببها الرئيس هو مساعي الاستحواذ على الحصة الأكبر من مياه “نهر هيرمند” كما يسميه الإيرانيون نسبة إلى مقاطعتهم هيرمند، أو “نهر هِلمَند” كما يسميه الأفغانيون نسبة إلى ولايتهم هلمند.
بعد مرور يوم واحد على الاشتباك العسكري بين القوات الإيرانية وقوات طالبان الأفغانية في المنطقة الحدودية الواقعة بين البلدين، حذر المدير العام لمنطقة جنوب آسيا بوزارة خارجية الإيرانية “رسول موسوي” قائلًا: “على الشعبين الإيراني والأفغاني ونُخبهما أن يعوا أن أي نزاع بين البلدين هو خسارة إستراتيجية لهما”. وعلى عكس تصريحات المسؤولين الإيرانيين، تقول وزارة خارجية حكومة طالبان: “إن إيران قد بدأت النزاع”. في الوقت نفسه توجه اثنان من كبار القادة العسكريين الإيرانيين إلى المنطقة الحدودية التي وقع بها الاشتباك.
وكان قد وقع اشتباك السبت الماضي 27 مايو 2023 بين حرس الحدود الإيراني وقوات طالبان في المنطقة الحدودية الواقعة بين مقاطعة كانج (كَنگ) بولاية نیمروز الأفغانية ومقاطعة زابول (زابُل) بمحافظة سيستان وبلوشستان (بلوچِستان) الإيرانية. وفي هذا الصدد، أكدت حركة طالبان أن أحد مقاتليها قد لقي مصرعه في هذا الاشتباك. كما أفادت وسائل إعلام إيرانية أن اثنين من حرس حدودها قد قُتلا في تبادل إطلاق النار.
وأعلنت وزارة دفاع حكومة طالبان خلال بيان لها نشرته عبر صفحتها الرسمية بتويتر أن الجانب الإيراني هو السبب في نشوب الاشتباك الحدودي. وعلى الجانب الآخر ذكرت السلطات الإيرانية في وقت سابق أن هذا الاشتباك قد بدأته طالبان.
وكتب نائب وزير الخارجية الإيراني لشؤون جنوب آسيا في تغريدة له بتويتر: “علينا الانتباه، فما يحدث اليوم على حدود زابول – نيمروز هو استمرار لمؤامرة المستعمرين. إذا كان جولد سميد Goldsmid قد حول في عام 1872 منطقة سيستان إلى وضعها الحالي بتآمر منه، فإن ورثته اليوم يريدون تدمير إيران وأفغانستان. يجب أن يدرك شعبا البلدين ونُخبهما أن أي نوع من النزاع بين الطرفين هو خسارة إستراتيجية لهما”.
وكان “فريدريك جون جولد سميد” Frederic John Goldsmid الضابط بالجيش البريطاني وشركة الهند الشرقية قد أبرم اتفاقية مع الملك القاجاري “ناصر الدين” عام 1872، عُرفت باسم (اتفاقية جولد سميد)، تم بموجبها تسليم جزء كبير من إقليم بلوشستان الإيراني إلى بريطانيا، حيث عُرفت هذه المنطقة لفترة طويلة من الوقت باسم “بلوشستان البريطانية”. فقد سعى الإنجليز بعد هزيمة “نابليون بونابرت” Napoléon Bonaparte أمام روسيا عام 1812 إلى حماية أنفسهم من أي هجوم روسي محتمل على الهند التي كانت تحت السيادة البريطانية آنذاك، عن طريق فصل أجزاء من شرق إيران وإنشاء منطقة عازلة.
وكانت الحكومة البريطانية قد كلفت جولد سميد بتعيين حدود بلوشستان عقب انفصال مدينة هِراة (هِرات) الأفغانية عن إيران وفقًا لمعاهدة باريس الموقعة بين الطرفين عام 1857، فقام جولد سميد في عام 1871 بترسيم الحدود بين إيران وباكستان من خليج جوادر (گواتر) حتى ريف كوهك، وقدمه إلى الملك القاجاري ناصر الدين للتصديق عليه. وفي عام 1872 قُسمت منطقة بلوشستان إلى قسمين؛ رئيس وخارجي، حيث سُلم إلى إيران القسم الرئيس الذي يضم مناطق هيرمند الغربية من نيزار حتى جبل مَلك سياه، وسُلم القسم الخارجي إلى أفغانستان الذي يضم مناطق هيرمند الشرقية.
وكان نائب القائد العام للشرطة الإيرانية “قاسم رضائي”، وقائد القوات البرية للجيش “كيومرث حيدري” قد سافرا في وقت سابق إلى منطقة سيستان بمحافظة سيستان وبلوشستان لتفقد منطقة الاشتباك بين حرس الحدود الإيراني وقوات طالبان.
وأفادت تقارير إخبارية بأن مسؤولي إيران وطالبان قد اتفقوا على إرسال لجنة تقصي حقائق إلى منطقة الاشتباك العسكري بين البلدين. وكانت وسائل إعلام إيرانية وأفغانية قد أعلنت أن هذا الاشتباك قد وقع عند نقطة حراسة “سوسولي” الحدودية بمقاطعة “هيرمند”.
وبخصوص تفاصيل هذا الاشتباك، قال نائب القائد العام للشرطة الإيرانية “قاسم رضائي”: “إن قوات طالبان شرعت في إطلاق النار على نقطة حراسة سوسولي الواقعة على حدود زابول دون مراعاة القوانين الدولية وحسن الجوار، وهو الأمر الذي قوبل برد فعل حاسم من قبل حرس الحدود الإيراني”. كما قال عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية بالبرلمان الإيراني “جليل رحيمي جهان آبادي”: “للأسف منذ وصول حركة طالبان إلى سُدة الحكم، شهدنا عددًا من الاجراءات غير العقلانية والتوترات الحدودية، ومعظم هذه المشاكل ترجع إلى جهالة قوات طالبان المتمركزة في المناطق الحدودية، فهم لا يعلمون جيدًا قواعد الحدود وقوانينها وبروتوكولاتها”.
يُذكر أن الاشتباك الحدودي بين إيران وأفغانستان قد وصفته عدد من وكالات الأنباء المحلية والعالمية بـ “الدموي”، حيث استمر عدة ساعات، واُستخدمت فيه الأسلحة الثقيلة والمدفعية والصواريخ.
الصراع على مياه نهر هيرمند/ هلمند
منذ وصول حركة طالبان إلى السلطة، وقعت اشتباكات متفرقة بين حرس الحدود الإيراني والأفغاني خاصة في منطقة “هيرمند”، حيث تشهد هذه المنطقة صراعًا سياسيًا بين الطرفين على مدار الحكومات المتعاقبة على البلدين كان سببها الرئيس هو مساعي الاستحواذ على الحصة الأكبر من مياه “نهر هيرمند” كما يسميه الإيرانيون نسبة إلى مقاطعتهم هيرمند، أو “نهر هِلمَند” كما يسميه الأفغانيون نسبة إلى ولايتهم هلمند.
ويعد هذا النهر واحدًا من أهم الأنهار الأفغانية وأكبرها، حيث يصل طوله إلى 1100 كيلومتر، وهو بذلك أطول نهر يقع بين نهري السند والفرات. ينبع نهر هلمند من مرتفعات جبل بابا الواقعة على بعد 40 كيلومترًا من العاصمة الأفغانية كابول (كابل)، ويصب في بحيرة “هامون” المشتركة بين إيران وأفغانستان، ثم يتدفق على مرتفعات سيستان وبلوشستان، ويصل جزء منه إلى محافظة كرمان وعدد من الجبال مثل جبل شاه، ثم يصب في النهاية في نهر زاينده الإيراني.

وتعد قضية تقاسم مياه نهر هلمند بين أفغانستان وإيران واحدةً من أبرز القضايا السياسية والاجتماعية والبيئية بين البلدين منذ سنوات مديدة تصل إلى نصف قرن من الزمان، كما شهد الطرفان سِجالًا طويلًا حول هذه القضية. وقد حاولت إيران بشتى الطرق إثبات حقها في مياه النهر، وهو ما قوبل بمعارضة واضحة من قبل الحكومات المتعاقبة على أفغانستان.
برز الخلاف المائي بين أفغانستان وإيران حول نهر هلمند عام 1882، وعندما فشل الطرفان في حل الخلاف اتفقا على اللجوء إلى لجنة تحكيم “جولد سميد” المكلفة بترسيم الحدود بين البلدين. بدأت اللجنة عملها في 19 أغسطس 1882 بترسيم الحدود وتقاسم مياه النهر بين البلدين، وبعد فشل اللجنة في المَهمة المخولة إليها أوصت بأنه ينبغي على الطرفين عدم بناء أية منشآت أو سدود على طول النهر حتى لا تتسبب في تقليل نسبة المياه في المصب، ولكن هذا الحُكم لم يسفر عن نتائج إيجابية.
بعد ذلك كلفت الحكومة البريطانية العقيد “هنري مكماهون” Henry McMahon عام 1903 بترسيم حدود جديدة بين أفغانستان وإيران بسبب التغيير الذي طرأ على مسار نهر هلمند عام 1896 وتسبب في ظهور العديد من الخلافات بين البلدين. قسم مكماهون في 1905 مياه النهر بالتساوي بين أفغانستان وإيران، وطلب من الجانب الأفغاني عدم بناء سدود على النهر حتى لا تلحق ضررًا بإمدادات المياه إلى الجانب الإيراني، وقضى مكماهون بأن طهران لها الحق في الاستفادة من ثلث مياه النهر عند منطقة “كوهك” قرب الحدود الإيرانية الأفغانية، ولكن الأفغانيون رفضوا هذا الحُكم، واعتبروه يفتقر إلى الحياد.
تفاقم النزاع بين أفغانستان وإيران مجددًا في 8 مارس 1934، بسبب رفض المادة 10 من معاهدة الصداقة الإيرانية الأفغانية المبرمة بين الطرفين عام 1921؛ وهي المادة التي تنص على تحكيم بريطانيا في الخلافات الحدودية بين البلدين، فقررت كابول وطهران اللجوء إلى تركيا للتحكيم بينهما، وقد وافقت الحكومة التركية على ذلك، وأرسلت الجنرال “فخر الدين ألتاي” على رأس لجنة تحكيم، وعينت الحكومة الإيرانية “مهدي فَرُخ” رئيسًا لهيئتها، أما الحكومة الأفغانية فقد عينت حاكم هراة “عبد الرحيم خان” رئيسًا لهيئتها. وقد زار أعضاء اللجنة المنطقة المتنازع عليها، وانخرط الطرفان في جولات تفاوضية بإشراف الجنرال ألتاي، لكنها لم تسفر عن أية نتيجة. وبعدها ترك ألتاي اللجنة، وعاد إلى بلاده تركيا دون تحقيق تقدم ملموس في ملف المياه بين أفغانستان وإيران.
فيما بعد جلس الأفغانيون والإيرانيون على طاولة المفاوضات ما بين عامي 1936 – 1939، وطالبت الحكومة الإيرانية بنصف المياه التي تصب حاليًا في “سد كمال خان” بولاية نيمروز، واشترطت على الحكومة الأفغانية عدم بناء أية منشآت أو سدود قد تؤدي إلى تقليص حصتها في المياه، لكن الأفغانيين رفضوا عرض الإيرانيين. وبعد ذلك اتفق الطرفان في 28 فبراير 1951 على تشكيل لجنة للنظر في القضايا العالقة بينهما، وزار أعضاء اللجنة نهر هلمند، وبعد الدراسة سلم الجانب الإيراني تقريره للحكومة الأفغانية، ووضح فيه مقدار ما تحتاجه طهران من المياه. وبعد عامين وافقت الحكومة الأفغانية على المطالب الإيرانية، لكن الحكومة الإيرانية تراجعت وقتها عما ذكرته في التقرير بحجة أن الدراسة الواردة به تحرمها من حقها في مياه النهر. وبذلك باتت المفاوضات بالفشل.
اتفاقية شفيق – هويدا
بعد ما يقرب من قرن من النزاع حول تقسيم مياه نهر هلمند جاءت مبادرة رئيس الوزراء الأفغاني “محمد موسى شفيق” بمثابة إلقاء حجر في المياه الراكدة. تولى موسى شفيق في 12 ديسمبر 1972 رئاسة الوزراء في أفغانستان بتكليف من الملك الراحل “محمد ظاهر”، وكان رجلًا يجمع بين العمل الأكاديمي والنشاط السياسي.
أقلقت مبادرة موسى شفيق بشأن حل المشاكل المائية مع إيران وفق نظريته المعروفة بــ “تصفير المشاكل مع دول الجوار” الاتحاد السوفييتي والشيوعيين في أفغانستان، لذا سارعوا بالتخلص منه. ووفقًا لما يذكره النائب الأفغاني الأسبق “عبد الغفار فراهي” في كتابه “عصر الديمقراطية والجمهورية في أفغانستان” The Era of Democracy and Republic in Afghanistan:
“لقد طلب منيّ رئيس الوزراء موسى شفيق أن أزوره في مكتبه، ولما ذهبت إليه سألني عن رأيي في اتفاقية تقاسم مياه نهر هلمند مع إيران، فقلت له: إنه نهر داخلي، والإيرانيين ليس لهم أي حق فيه، ولا ينبغي منح إيران في كل ثانية 26 مترًا مكعبًا من المياه”. ويكمل فراهي قائلًا: “إن رؤساء الوزراء السابقين لم يجرؤوا على البت في مثل هذه القضايا الحساسة، لماذا أنت – يقصد موسى شفيق – مُصِرّ على حل هذه المشكلة؟، فقال موسى شفيق دامعًا: هذا دليل تخلف أفغانستان. لقد قررتُ الآن حل مشكلات أفغانستان مع الجيران، وليحكم التاريخ عليّ كما يشاء”.
على هذا النحو وقع رئيس الوزراء الأفغاني موسى شفيق، ونظيره الإيراني آنذاك” أمير عباس هوفيدا (هويدا)” في 12 مارس 1973 اتفاقية تقسيم مياه نهر هلمند بين البلدين التي اشتهرت لاحقًا بـ “اتفاقية شفيق – هويدا”. وبموجب هذه الاتفاقية تحظى إيران بـ 26 مترًا مكعبًا من المياه في الثانية الواحدة، وهذه الكمية أقل من 10% من إجمالي المياه التي كانت إيران تحصل عليها من أفغانستان سابقًا.
وبعد توقيع الاتفاقية بين الجانبين في كابول كان الجميع يعتقد أن البرلمان الأفغاني لن يصدق عليها، لكنه وافق لسببين رئيسين؛ أولهما أن موسى شفيق بذل جهدًا كبيرًا لإقناع النواب بهذه الاتفاقية، أما السبب الثاني فهو أن مدة البرلمان كانت على وشك الانتهاء، ولم يعترض أغلب النواب على قرار الحكومة حتى يتسنى لهم الترشح لفترة ثانية والفوز بمقاعد البرلمان.

ومع أن وثائق هذه الاتفاقية لم تر النور مطلقًا بسبب الإطاحة بحكومة موسى شفيق والغزو السوفييتي لأفغانستان من ناحية واندلاع الثورة الإيرانية وسقوط حكومة الشاه محمد رضا بهلوي عام 1979 من ناحية أخرى، إلا أنها شكلت خطوة مُهمة في حل النزاع بين كابول وطهران حول تقسيم مياه نهر هلمند.
وقد رفض التيار الشيوعي في أفغانستان هذه الاتفاقية وندد بها، واعتبرها خيانة عُظمى، ولقب رئيس الوزراء موسى شفيق بـ “بائع المياه”. وعلي الجانب الآخر لم يرض عدد كبير من الإيرانيين بهذه الاتفاقية، ويعتقد المحقق والكاتب الإيراني “محمد حسين بابِلي يزدي” أن رئيس الوزراء الأفغاني موسى شفيق قد حدد بحنكته السياسية حق إيران في مياه نهر هلمند، فقد كانت إيران تستفيد من 70% من المياه الأفغانية، وعندما جاء الإنجليز منحوا الإيرانيين 50%، بينما أعطت حكومة موسى شفيق إيران 26% فحسب. ووفقًا لما يذكره بابلي يزدي أن هذه الاتفاقية تعد مكسبًا عظيمًا الأفغانيين وهزيمة كبيرة للإيرانيين.
حرب السدود بين أفغانستان وإيران
لطالما ألقت الصلات المائية بين أفغانستان والدول المجاورة لها بظلالها على العلاقات الدبلوماسية والإستراتيجية بين الجانبين. وتوجد في أفغانستان عشرة أنهار مختلفة، بعضها مشترك مع دول الجوار مثل نهر هلمند، وبعضها يجري داخل الحدود الأفغانية. ومن أطول هذه الأنهار نهر “آمو داريا (دريا)” المشترك مع دول طاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان، ومن أقصرها نهر “كُنر (كونار)” المشترك مع باكستان.
وعلى مدار قرون من الزمان وبسبب موقع أفغانستان الجغرافي، تدفقت معظم مياه الأنهار الرئيسة في هذه الدولة شمالًا صوب آسيا الوسطى، وشرقًا صوب باكستان، وغربًا صوب إيران دون أن يستفيد منها الشعب الأفغاني. وتمتلك أفغانستان 57 مليار متر مكعب من متوسط مياه الأنهار السنوي، لكنها تستهلك أقل من 30% من هذه الكمية، ويذهب المتبقي من المياه إلى دول الجوار.
ومن هنا كان ملف المياه من أولويات سياسة أفغانستان الخارجية، وعندما وصل الرئيس الأفغاني السابق “محمد أشرف غني” إلى سُدة الحكم عام 2014 تصاعدت حدة الاحتقان بين كابول وطهران حول مشروعات بناء السدود في غرب أفغانستان وجنوبها، وخاصة في ثلاث ولايات؛ وهي هراة وفراه ونيمروز الواقعة على الشريط الحدودي مع إيران.
وقد خطط محمد أشرف لإنشاء 49 سدًا في عموم أفغانستان لتنظيم مياه الأنهار وإدارتها ورسم الإستراتيجية المائية لبلاده، وأمر بتعديل قانون المياه على أمل استخدامه كورقة ضغط على دول الجوار في سبيل تحسين الأوضاع السياسية والاقتصادية لبلاده. وعلى الجانب الآخر استغلت إيران حالة عدم الاستقرار المستمرة في أفغانستان، وشيدت أكثر من ثلاثين سدًا داخل أراضيها على أنهار تتدفق إليها من الخارج، وحفرت بمساعدة خبراء يابانيين آبارًا في محافظة سيستان وبلوشستان التي تستحوذ على مليار متر مكعب من المياه الأفغانية دون التشاور مع الجانب الأفغاني. كما مدت أنابيب مياه بطول 192 كيلومترًا إلى مدينة زاهدان، وهي سياسات تخالف كل الاتفاقيات الموقعة بين البلدين وفقًا لما تذكره الحكومة الأفغانية.
ومع وصول حركة طالبان إلى السلطة في أغسطس 2021 طلبت إيران كعادتها من الحكومة الجديدة بدء المفاوضات بشأن تقسيم مياه نهر هلمند وإعادة النظر في اتفاقية “شفيق – هويدا”. ويرى صُناع قرار في إيران أن ندرة المياه في المنطقة يمكن أن تسبب توترًا بين إيران وجيرانها في المستقبل القريب، حيث تسعى طهران إلى حل الخلافات المائية مع جيرانها عن طريق المفاوضات الدبلوماسية بدلًا من المواجهة العسكرية. وكان مستشار الزعيم الإيراني لشؤون القوات المسلحة الجنرال “رحيم صفوي” قد دعا في مؤتمر وطني حول دبلوماسية المياه بطهران إلى محادثات مفتوحة حول إدارة المياه مع أفغانستان وتركيا والعراق وبلدان أخرى تتقاسم الموارد المائية مع إيران، وأشار إلى أن إيران تتشارك المياه مع 12 دولة مجاورة، وأكد أن مع تفاقم مشكلات المياه في المنطقة سيكون هناك المزيد من التعاون أو المواجهة بين إيران وجيرانها مستقبلًا.

ويثير إصرار أفغانستان على بناء سدود على أنهارها المشتركة مع إيران استياء الأخيرة، وقد لجأت أفغانستان مؤخرًا إلى الاستعانة بخبرات تركية فى هذا الصدد، وتعتبر إيران أن هذه السدود تحول دون الاستفادة من مياه الأنهار القادمة إليها من أفغانستان. وكان آخر هذه السدود سد “كمال خان” بولاية نيمروز الأفغانية بالقرب من الحدود الإيرانية الذي تم افتتاحه في مارس 2021، أي قبل أشهر قليلة من وصول حركة طالبان إلى السلطة. وقد بلغت تكلفة تشييد هذا السد 78 مليون دولار، واستغرق بناؤه 4 سنوات كانت مليئة بالشد والجذب بين الدولتين بشأن تأثير السد على حصة إيران في مياه نهر هلمند.
وكان وزير الخارجية الإيراني “حسين أمير عبد اللهيان” قد أعلن في 18 مايو، أي قبل أسبوع من وقوع الاشتباك بين حرس الحدود الإيراني وقوات طالبان في نقطة حراسة سوسولي الحدودية، أن الحكومة الأفغانية لا تسمح بزيارة الهيئات الفنية الإيرانية لقياس منسوب المياه في نهر هيرمند المشترك بين البلدين، حيث كتب عبد اللهیان في تغريدة له على تويتر: “لقد طلبت مرارًا وتكرارًا من أمير خان متقي القائم بأعمال وزارة الخارجية الأفغانية الالتزام باتفاقية هيرمند المبرمة بين البلدين عام 1973 والسماح للهيئات الفنية الإيرانية بزيارة نهر هيرمند وقياس منسوب المياه فيه، لكن دون جدوى”. وأشار إلى أن منطقة سيستان تعاني من الجفاف.
وفي هذا الصدد أكد الرئيس الإيراني “إبراهيم رئيسي” حق دولته في مياه نهر هيرمند، وحذر حكومة طالبان قائلاً: “لن نسمح بانتهاك الحقوق المائية لشعبنا”.
وأفادت وكالة الفضاء الإيرانية بأن الصور التي التقطها القمر الصناعي “خيام”، تكشف أن الحكومة الأفغانية تقوم بتغيير مسار نهر هيرمند، مبينةً أن الحكومة الأفغانية قد أنشأت العديد من السدود في بعض مسارات هذا النهر تمنع وصول المياه إلى إيران.
وعلى الجانب الآخر قال نائب القائم بأعمال وزارة الخارجية الأفغانية “محمد عباس ستانکزي”: “إن الحكومة الأفغانية ملتزمة باتفاقية عام 1973 بشرط أن تتوفر المياه الكافية في نهر هلمند”. وذكر أن أفغانستان والمنطقة بأسرها قد شهدت خلال الأعوام الماضية جفافًا واسعًا، ولا توجد مياه كافية خلف سد “كجكي” في ولاية هلمند. وأكد ستانكزي أن كل مياه نهر هلمند قد ذهبت إلى إيران خلال 40 عامًا من الحرب في أفغانستان، وأن طهران قد استهلكت أكثر من حصتها في مياه هذا النهر على مدى هذه الأعوام.
ومن جهته، دعا القائم بأعمال وزارة الخارجية الأفغانية “أمير خان متقي” المسؤولين الإيرانيين إلى حل قضية حصة دولتهم في مياه نهر هلمند من خلال التفاهم والحوار بدلًا من تسيسها وتضخيمها إعلاميًا مشيرًا إلى أن لا توجد مياه خلف سد “كمال خان”.
خاص وكالة رياليست – د. محمد سيف الدين – دكتوراه في الأدب الشعبي الفارسي، وخبير في التاريخ والأدب الإيراني – مصر.