تعيين مندوب أممي جديد إلى ليبيا ، يعيد إلى الأذهان رحلة من سبقه من مبعوثين، ومصير بعثاتهم، والتي آلت جميعها للفشل الذريع فمنذ عام 2011، وما تلاه من فوضى عارمة انتشرت في مناطق عدة من ليبيا، أغلبها في غرب البلاد، لم تتمكن بعثة الأمم المتحدة للدعم ،تحت قيادة ست من رؤسائها المعينين، بالإضافة إلى رئيس بالوكالة، من التوصل إلى تسوية تضع حدا للانفلات الحاصل في البلاد حتى الآن.
في عهد البعثات الأممية في ليبيا، تضخم دور الميليشيات والكتائب المسلحة الخارجة عن القانون، وتكاثرت التشكيلات المتطرفة،وصار الإرهابيون أكثر قوة ونفوذا، وتدفق المرتزقة بواسطة دول مثل تركيا، وقطر، وصار المتآمرون على السلطة، أكثر قوة ونفوذا في الدولة الليبية، خصوصا في مناطق غرب البلاد.
ومع هذا لم تتحرك بعثة الدعم لإنقاذ البلاد، واستغل الاسلام السياسي والمسلحون خارج القانون، كل هذا التقاعس أو الضعف الذي بدت عليه البعثة، والازدواجية التي ميزت عمل رؤسائها، وحرصهم على تكريس وجودهم في المشهد بشكل وبآخر، وجاملوا الارهابين والمسلحين على حساب المؤسسات الحقيقية والشعب الليبي.
يظهر عجز الأمم المتحدة في عدم قدرتها، على تعيين مبعوث أممي جديد كبديل لغسان سلامة ، لأكثر من سنة، ويمثل عجزها هذا أحد العلامات البارزة على الصعوبات التي تواجهها هذه النوعية ؛ من البعثات ذات المهام الدقيقة التي ترضح لحسابات القوى الدولية الفاعلة، في المنظمة الأممية، وتقديراتها السياسية، بما يعني أن دورها المعلن في حفظ الأمن والسلام الدوليين، يظل مجرد شعار، يمكن أن تندرج تحته الكثير من المهام المراوغة.
ستظل أي بعثة أممية، وأي مبعوث إلى ليبيا، رهين التوازنات للقوى الكبرى، وما تريده من ليبيا، ولذلك كانت أعين الجميع مصوبة نحو المعادلة التي تتحكم في الأزمة، وأرهق المبعوثون السابقون أنفسهم في تفاصيل كثيرة، وسلكوا طرقا بعيدة عن المسار الصحيح، لإيجاد مخرج من الأزمة الحالية المستقيم، فلم يتمكن أي منهم ، من بلورة التصورات التي حملها في أجندته.
طريقة عمل الأمم المتحدة وإخفاقاتها المتتالية في الشأن الليبي، تستحق التوقف عندها والتدقيق في تفاصيلها، لأنها تكشف عن الطبيعة التي جاءت بها، والأهداف التي حملتها، والبيئة التي عملت فيها، والمكونات التي اعتمدت عليها، حتى وصلت لأن توجه لها أصابع الاتهام بالانحياز خصوصا لطرف المليشيات، ومجموعات الإسلام السياسي.
ونظرا لعدم جدية البعثة، والمجتمع الدولي لفهم طبيعة الصراع (الأمني) الدائر في ليبيا، ومحاولة تصوره وتصويره على أنه سياسي، وبالتالي صارت تعمل وفق هذا التصور، سيكون من الطبيعي أن الفشل الذريع والمريع هو النتيجة الحتمية، وتظهر تجليات فشل الأمم المتحدة في الفراغ الذي تعاني منه حاليا، وتغيير مبعوثيها باستمرار إلى ليبيا، بالإضافة عدم قدرة القوى الكبرى، على التفاهم حول اختيار حتى ممثل البعثة .
إن الوصول إلى السلام في ليبيا بأقل التكاليف، يمكن أن يتم لو أن الأمم المتحدة وبعثاتها الكثيرة، تخلصت من تداخل القوى المؤثرة، في هياكلها الرئيسية، وتجنبت الدول الفاعلة تزايد الانقسامات، وتكاثر التباينات على الساحة الدولية، وأن لا يخضع اختيار المسؤول الأممي، فيها لجملة من الرؤى، التي تنعكس سلبا أو إيجابا، على المهام التي تقوم بها.
إن تشابك الأدوار المحلية مع الإقليمية والدولية في المسألة الليبية ، يزيد من صعوبة مهام البعثات الأممية ، وتجعل هذه البعثات تقف عاجزة أمام الرغبات والتطلعات المنفردة لبعض القوى، وتشاهد انتهاكات من روسيا والولايات المتحدة، وحتى تركيا وقطر ، وفي نفس الوقت لا تستطيع البعثة أن ترى منها شيئا، أو تتخذ الخطوات اللازمة لوقف هذه التجاوزات، وتبدو كأنها غائبة أو مغيبة، لذا سيصاحبها الفشل، مهما قدمت من حلول ومقترحات، وعقدت من اجتماعات بين كافة أطراف المشكلة محليا.
وسيكون أمام المبعوث الأممي الجديد إلى ليبيا، يان كوبيش، صعوبات عديدة ، بسبب التركة الثقيلة جدا من القضايا الصعبة، من أهمها تضارب المصالح الدولية والتي صارت من خلالها، بعض الدول تدير مشاكلها إنطلاقا من ليبيا، مثل تركيا التي صارت ليبيا بالنسبة لها، فرصة لإنعاش اقتصادها المتدهور.
يضاف إلى ذلك عدم رغبة تيار الإسلام السياسي في مشاركة الآخرين السلطة، وكذلك اصرار قيادات المليشيات المسلحة أن تتواجد في المشهد بنفس الأسلوب والطريقة.
لذلك لن يكتب لأي مبعوث، أو بعثة ، أو دولة أو مجموعة دول النجاح في ليبيا، إذا تقدمت بأي حلةل ومقترحات، إذا لم تتخلص من مسألة مجاملة طرف على حساب الشعب الليبي، وسيادة الدولة الليبية، لأن مسألة وضع التيار الإسلامي والمسلحين الذين لا يشكلون إلا نسبة قليلة من سكان غرب ليبيا، ووضعهم كطرف يجب أن يشارك في أي حل لن يؤدي إلى مط أمد الأزمة، وتشبيك الأمور، والخاسر هو المواطن الليبي، وسيادة الدولة الليبية.