بغداد – (رياليست عربي): حين يلتقي الشرق بالغرب وحين تتشابك اللغات وتتعانق الحروف تنشأ الترجمة بوصفها الجسر الذي يعبر عليه الفكر من ضفة إلى أخرى فليست الترجمة مجرد نقل كلمات من لغة إلى لغة أخرى بل هي إعادة إحياء للنص في بيئة ثقافية جديدة هي وسيلة الإنسان لفهم الآخر واكتشاف عوالمه الداخلية والتواصل معه بعيدًا عن الحواجز اللغوية التي تفصل بين الشعوب.
في أعماق التاريخ كانت الترجمة هي النافذة التي أطل منها العلماء والمفكرون على معارف الحضارات الأخرى حين ترجمت الفلسفة اليونانية إلى العربية نهضت العقول الإسلامية وازدهرت العلوم وحين انتقلت نصوص الفلك والطب من بغداد إلى الأندلس ومنها إلى أوروبا انطلقت النهضة الحديثة في كل عصر كانت الترجمة هي المحرك الخفي للثورات الفكرية وكانت الأداة التي نقلت الحكمة من أمة إلى أخرى ومن زمن إلى زمن.
لكن الترجمة ليست مجرد أداة للفهم بل هي في جوهرها فعل من أفعال التفاهم أن تترجم نصًا يعني أن تدخل عالم كاتبه أن تدرك سياقه وتاريخه وأحاسيسه أن تعيد تشكيله بلغة جديدة دون أن تفقد روحه الحقيقية وهنا تكمن صعوبة الترجمة فهي ليست عملية ميكانيكية بل هي إعادة خلق هي حوار غير مباشر بين الكاتب والمترجم والقارئ هي محاولة لنقل الشعور كما هو والصورة كما رُسمت والنبرة كما نُطقت.
ولأن الترجمة تؤدي دورًا جوهريًا في التلاقح الثقافي فإنها أحيانًا تصبح أداة لصنع الصورة الذهنية عن الآخر فهي التي تحدد كيف يرى الشرق الغرب وكيف يفهم الغرب الشرق فإذا لم تكن الترجمة دقيقة وأمينة فإنها قد تخلق فجوات في التفاهم بدلًا من أن تبني جسورًا وقد تشوه المعنى بدلًا من أن تنقله بأمانة لذلك فإن المترجم ليس مجرد وسيط بل هو سفير ثقافي يحمل على عاتقه مسؤولية كبرى في نقل المعاني دون تحريف أو اجتزاء.
وفي عالمنا الحديث حيث تتشابك الثقافات وتتحاور الأمم لم تعد الترجمة خيارًا بل أصبحت ضرورة وجودية لم يعد بالإمكان العيش في عزلة ولم يعد بالإمكان فهم العالم دون أن نقرأه بلغاته المختلفة فحين تُترجم الأعمال الأدبية والفكرية والفلسفية تنفتح أمامنا نوافذ جديدة وحين نقرأ الآخر بلغته نفهمه أكثر ونقترب منه أكثر وحين نفهمه لا يعود غريبًا عنا ولا نعود غرباء عنه.
لكن الترجمة ليست مجرد كلمات تُنقل من لغة إلى أخرى بل هي فهم أعمق لروح النص ولغته الأصلية فهناك كلمات تحمل في طياتها تاريخًا كاملًا وهناك تعابير لا يمكن نقلها حرفيًا دون أن تفقد جوهرها وهناك سياقات تتطلب من المترجم أن يكون ليس فقط ناقلًا بل مبدعًا يعيد صياغة النص بروح جديدة لهذا فإن الترجمة الحقيقية ليست فقط جسرًا بين اللغات بل هي جسر بين العقول والقلوب وهي السبيل إلى التفاهم الإنساني الذي يتجاوز الحواجز المصطنعة.
الترجمة ليست مجرد نقل كلمات بل هي إعادة تشكيل للأفكار في قالب جديد هي الطريق الذي نعبر من خلاله إلى الآخر دون أن نفقد أنفسنا هي الحكاية التي تبدأ بالفهم ولا تنتهي إلا بالتفاهم.
خاص وكالة رياليست – عبدالله الصالح – كاتب وباحث ومحلل سياسي – خبير في العلاقات الثقافية الدولية – العراق.