القاهرة – (رياليست عربي): بعد أقل من ٢٤ ساعة من إزاحة الستار عن بوستر ضخم في ميدان “ولي عصر” بطهران يضم صور عدد كبير من النساء الإيرانيات البارزات في المجالات السياسية والعلمية والأدبية والفنية والرياضية وغيرها، حاملًا عنوان: نساء من وطني إيران (زنان سرزمين من إيران) تم رفعه، وذلك عقب اعتراضات واسعة من قبل الشخصيات المصوَّرة به.
وقالت الشركة المنفذة للبوستر مؤسسة أوج للفنون والإعلام “سازمان هنری رسانهای اوج”: “إن هذا البوستر سيحل محله بوستر آخر”، حيث كتب مدير العلاقات العامة بمؤسسة أوج “مِهرداد مُعظمي” عصر الخميس الماضي 13 أكتوبر عبر تويتر: “إلى أن يتم تعديل التصميم الحالي للبوستر ويعاد تعليقه مجددًا، سيعرض بوستر جديد الليلة”، وهو ما حدث بالفعل حيث ظهر البوستر خاليًا من الصور يتوسطه عنوانه فقط.
ولم يشر معظمي إلى تفاصيل هذه التعديلات، وليس من معلوم هل الاعتراضات الكثيرة للشخصيات المصوَّرة في البوستر من أسباب رفعه أم لا؟.. وكانت عدد من النساء المصوَّرة في البوستر قد أعلنّ يوم الخميس أنه تم استخدام صورهن دون إذنهن.
وتجتاح إيران حالياً احتجاجات واسعة منذ ما يقرب من شهر بسبب مقتل الفتاة الإيرانية كُردية الأصل “مَهسا أميني” البالغة من العمر 22 سنة في 16 سبتمبر الماضي، وذلك عقب اعتقالها على يد شرطة الأخلاق المعروفة باسم دورية التوجيه “گشت ارشاد” بتهمة ارتداء الحجاب بطريقة “غير مثالية” وتعرضها لضرب مبرح على أيدي رجال الشرطة أدى إلى إصابتها بسكتة دماغية أودت بحياتها. وقد حظيت هذه الاحتجاجات بدعم عدد كبير من المثقفين والفنانين الإيرانيين جعل وزير الثقافة والإرشاد الإسلامي الإيراني “محمد مهدي إسماعيلي” يهدد الفنانين المؤيدين للمحتجين بالمنع من العمل، وهو تهديد طالما نفذه المسؤولون تجاه كل أديب أو مثقف أو فنان إيراني ساند حراكًا شعبيًا ضد الحكومة.
وكانت ٣ من الوجوه الفنية والرياضية البارزة في إيران اللائي ظهرن في هذا البوستر، قد طالبن خلال مقاطع مصورة ورسائل في مواقع التواصل الاجتماعي بحذف صورهن تأييداً للمحتجين الإيرانيين، وهن الممثلتان الكبيرتان “فاطمة مُعتمد آریا” و”مرضية بُرومَند”، ومتسلقة الجبال العالمية “برفانة (پَروانه) كاظمي”.
فقد قالت “معتمد آریا” عبر مقطع مُصوَّر لها ظهرت فيه دون حجاب وهي تنتحب: “أزيلوا صورتي من بوستر ميدان ولي عصر.. أنا لا أعتبر نفسي امرأة في أرض يُقتل في ميادينها الفتيات والفِتية الصغار المطالبين بالحرية. أنا أم مهسا، أنا أم سارينا، أنا أم جميع الأطفال الذين قُتلوا في هذه الأرض، أنا أم كل أرض في إيران، أنا لستُ امرأة في أرض القتلة”.
كما طالبت “مرضية برومند” في رسالة لها عبر إنستغرام بحذف صورتها من البوستر، وكتبت: “ارفعوا صورتي من بوستر يُقمع تحته الأطفال والشباب، فالشعب مَن حدّد علاقتي معكم، وأنا دائماً مع الشعب، وسأظل دومًا معه”.
وأشار المخرج الإيراني “رضا دُرميشيان” في رسالة له عبر تويتر إلى صورة الممثلة الإيرانية الراحلة “جالة أولوف (ژاله عُلو)” المصوَّرة في البوستر، وكتب: “إن مُصوِّرة هذه الصورة هي (نوشين جعفري) المعتقلة حاليًا في سجن إوين (إيفين)”.
وكتبت متسلقة الجبال “برفانة كاظمي” التي نجحت في تسلق عدة قمم جبلية يبلغ ارتفاعها أكثر من ٨ آلاف متر بسلسلة جبال الهيمالايا عبر خاصية الاستوري بإنستغرام: “إنه من العار أن تُستخدم أسماؤنا وصورنا كنساء إيرانيات للإساءة فقط.. إنني أشعر بغضب شديد وأنا أرى صورتي ببوستر ميدان ولي عصر في وقت تُصوّر فيه صور نساء وطني ورجاله مضرجة بالدماء في شوارع الميدان نفسه.
![](https://arabic.realtribune.ru/img/uploads/2022/10/البوستر-قبل-رفعه-1024x576.jpg)
وفي هذا السياق، كتبت رئيسة تحرير المجلة الأسبوعية المواطن الشاب “همشهرى جوان” سابقًا ومؤسسة مطبوعات “أطراف” ومديرتها التنفيذية “نفيسة مرشد زاده” التي تظهر صورتها بالبوستر أيضًا، في موقع التواصل الاجتماعي “لينكد إن” LinkedIn محتجةً على استخدام صورتها دون تصريح منها: “إن غضبي أكبر من أن أكتب عنه شيئاً”.
وكتب كذلك “كوروش ضِیغَمي” عبر تويتر: “لقد رأيتُ تَوًّا هذا البوستر، ولم أصدق أنه يضم صورة (بي بي)، فأرسلتُ صورة له إلى جروب العائلة، واكتشفتُ أنهم لم يروه أيضًا. بصفتي من نسل بي بي مريم البختيارية أصيح قائلًا: لقد ارتكبتم خطئًا باستخدام صورة بي بي دون إذن العائلة، فلو كانت بي بي على قيد الحياة اليوم، ستكون أول من تنزع وشاحها وتطلق النار”. يُذكر أن “بي بي مريم البختيارية” المعروفة بالقائدة (سَردار) مريم هي كاتبة ومناضلة بارزة إبان الثورة الدستورية عام 1905، ومن رائدات الدفاع عن حقوق المرأة الإيرانية.
ومن النقاط الملفتة للنظر في بوستر “نساء من وطني إيران”، وجود صورة الشاعرة “فُروغ فَرُّخزاد” التي لا يزال وجهها محفورًا في أذهان الشعب الإيراني دون حجاب، وهي الشاعرة التي طالما تجاهلتها الحكومة الإيرانية طيلة هذه السنوات بسبب آرائها المعارضة والداعية للحداثة، لكن الآن تظهر صورتها إلى جانب صور شخصيات حكومية مثل “مرضية حديدتشي (حَدیدچى)” الشهيرة بـ “طاهرة الدَباغ” قائدة الحرس الثوري سابقًا بالمنطقة الغربية من البلاد، ومن مؤيدات الحجاب خلال العقود الأربعة للجمهورية الإسلامية. ومَن يُمعن النظر في صورة فرخزاد سيلاحظ أنه تم اختيار صورة نادرة لها بـ “الحجاب”، حُذفت منها كف اليد لأن فرخزاد كانت تمسك سيجارةً في الصورة الأصلية!!، والأمر نفسه تكرر مع الشاعرة “برفين (پَروين) اِعتصامي”، حيث اُختيرت صورة لها بالحجاب على الرغم من وجود صور عديدة لها دون حجاب.
ومن الوجوه النسائية الشهيرة التي ظهرت في البوستر أيضاً: عالمة الرياضيات والحائزة على ميدالية “فيلدز” العالمية في الرياضيات Fields Medal “مریم میرزا خاني”، والكاتبة وأستاذة أدب الطفل “توران میر هادي”، والرسامة والناقدة الفنية “إيران دَرُّودي”.
![](https://arabic.realtribune.ru/img/uploads/2022/10/البوستر-المصمم-قبل-تعليقه-1024x391.jpg)
يُذكر أن بوستر “نساء من وطني إيران” قد عُلق على لوحة إعلانية ترتفع في الناحية الشمالية من ميدان “ولي عصر” أحد الميادين الرئيسة بالعاصمة الإيرانية طهران، وهو الميدان الذي كان يُمسى قبل ثورة 1979 “ولي عهد”. وتعود ملكية هذه اللوحة الإعلانية إلى مؤسسة “أوج للفنون والإعلام” التابعة للحرس الثوري الإيراني، كما أن مصمم هذا البوستر “مجتبى حسن زاده” عضو في بيت مصممي الثورة الإسلامية “خانه طراحان انقلاب إسلامي”، وهو مركز يعمل تحت إشراف مؤسسة أوج، وبهذا يعتبر الحرس الثوري الجهة المشرفة على مشروع البوستر وتصميمه وتنفيذه بصورة غير مباشرة، على الرغم من أن بلدية طهران تقول إن مضامين بوسترات اللوحة الإعلانية المذكورة تُحدد بالتنسيق بينها وبين مؤسسة أوج.
والحقيقة أن بوستر “نساء من وطني إيران” هو محاولة عابثة من الحكومة الإيرانية تهدف بها امتصاص غضب الشعب واحتواء موجة الاحتجاجات العارمة التي تضرب أركان النظام بسبب مقتل الفتاة “مهسا أميني” على يد شرطة الأخلاق، فقد سعت الحكومة الإيرانية من وراء هذا البوستر إلى استغلال شعبية النساء الإيرانيات اللامعات في مختلف المجالات كي تُظهِر نفسها أمام الشعب حكومة تحترم المرأة وتبجلها وتفتخر بها، وبالتالي تُخمد نيران الاحتجاجات المستعرة في الشارع الإيراني، وهي محاولة سَبر غورها القاصي والداني، واستهجنتها أغلب النساء المصوَّرة في البوستر وطالبن بحذف صورهن، مما أجبر الحكومة الإيرانية على رفع البوستر بعد يوم واحد من تعليقه، في خطوة لا تؤكد فشل المحاولة فحسب، بل تمخضها عن نتائج عكسية أيضاً أثرت وستؤثر بشكل سلبي على الأحداث الجارية في البلاد.
خاص وكالة رياليست – د. محمد سيف الدين – دكتوراه في الأدب الشعبي الفارسي، وخبير في التاريخ والأدب الإيراني – مصر.