يشي بدء انسحاب القوات التركية من نقطة المراقبة التاسعة في الشمال السوري (مورك، شمالي محافظة حماة “وسط سوريا”) منتصف شهر تشرين الأول الفائت، أن خطوات ميدانية جديدة هناك ستكشف عن تفاهمات روسية تركية، حيث لم تعد الاستراتيجية العسكرية التركية في مناطق الشمال تُعبر عن تحركات أحادية الجانب؛ بقدر ما باتت تكشف عن تفاهمات روسية تركية تترسخ في المنطقة و تؤسس لرسم مناطق نفوذ جديدة.
ورقة تفاوض تركية
منذ سيطرة قوات الجيش النظامي على كامل طريق حلب-دمشق الدولي “M5” (مطلع آذار الماضي)، حاصرت بموجبه العديد من نقاط المراقبة التركية في منطقة إدلب لخفض التصعيد والواقعة منها شرق سكة الخط الحديدي الحجازي، وباتت بذلك معدومة الأهمية العسكرية، غير أن تركيا أصرت على إبقاء تواجد قواتها بهذه النقاط لأهداف تتصل بمهام تفاوضية/سياسية، تسعى من خلالها لتكريس معالم خطوط نفوذ جديدة لها تقابلها مناطق نفوذ جديدة للجانب الروسي الضامن الآخر لمسار أستانا الذي قام عبره تفاهم مناطق خفض التصعيد.
مع تغير الوقائع على الأرض وتغير موازين القوى، سعت تركيا للمناورة في المرحلة الأولى التي خسرت فيها النفوذ على طريق “M5″، و طالبت بإرجاع قوات الجيش النظامي إلى حدود اتفاق أستانا الأولى وتفاهمات سوتشي، لكن هذا المطلب قوبل برفض مطلق من قبل موسكو، على اعتبار فرض حكومة دمشق لسيادتها على أراضيها.
ولتضغط تركيا لاحقاً باتجاه سحب قوات حكومة دمشق وفرض السيطرة على تلك المناطق من قبل الجيش التركي والشرطة العسكرية الروسية، وهو أيضاً ما رفضته موسكو بشكل مطلق.
آخر تلك المراحل كانت عبر المفاوضات التقنية التي جرت في شهر أيلول الماضي بين وفد عسكري روسي مع نظيره التركي في العاصمة أنقرة، وهنا طلبت روسيا بشكل مباشر؛ انسحاب تركيا نقاط المراقبة المحاصرة في إدلب وتقليل وجودها العسكري في المحافظة، لترد تركيا على ذلك المطلب بحيازتها على نفوذ مطلق في مدن استراتيجية لها كمدينتي تل رفعت ومنبج.
إلا أن أنقرة تقدم بعض التنازلات لموسكو في الملف السوري، بخاصة و أن الأخيرة أصبحت في الفترة الأخيرة أقرب إلى تركيا من الولايات المتحدة و الاتحاد الأوروبي، تحديداً بعد الصفقة العسكرية الروسية التركية، و شراء منظومة الصواريخ الروسية “إس 400”.
توسع في الشرق مقابل انسحاب في الغرب
تلى الانسحاب التركي الأول من نقطة المراقبة في مورك، انسحابين آخرين من نقطتي شير مغار و معر حطاط، وهي انسحابات يبدو سيتلوها تضييق دوائر التواجد العسكري التركي في الشمال الغربي من سوريا، بمقابل تأمين روسيا لمحيط طريق حلب-اللاذقية الدولي “M4” والسيطرة على مناطق جديدة في منطقة جبل الزاوية وجبال اللاذقية، وتشديد الخناق على نفوذ القوى المصنفة على قوائم الإرهاب مثل “الحزب التركستاني” و “حراس الدين” والمتصلة بتنظيم “القاعدة” الإرهابي.
وتشير تطورات الأوضاع الميدانية في الشمال، إلى أن الانسحاب التركي من نقاط المراقبة، أنه يدخل ضمن إطار تفاهم لتبادل النفوذ بين الجانبين الروسي والتركي، فتتوضح الرغبة التركية في التوسع ضمن مناطق في شمال شرق سوريا وتأمين عمق حدودي مناسب لها، يخدم رؤيتها فيما تسميه حماية أمنها القومي من الوجود الكردي هناك، لذا فإن الأتراك متأكدين بأن البقاء في نقاط المراقبة المحاصرة لا يجدي نفعاً في جغرافية الشمال الغربي من سوريا، ولكنه ينفعهم حتماً في إدخال هذه النقاط ضمن صفقة تبادلية لرسم خطوط جديدة للنفوذ بين الجانبين.
عملت تركيا على البقاء في نقاط مراقبتها المحاصرة في الشمال السوري منذ مطلع العام الجاري من أجل استخدامها ورقة تفاوض لمصلحتها تُقايض بها محاولات روسيا للتمدد في مناطق الشمال الشرقي الحدودية.
و بالتزامن مع الانسحابات التركية شهدت المنطقة المحيطة قصفاً متصاعداً من قبل قوات الجيش النظامي وهو ينسجم مع رؤية الجانبين كلٍ بحسب ما يخدم رؤيته في المنطقة، فتركيا تريد فرض شريط حدودي في الشمال السوري بعمق 30 كيلو متر، يضمن لها السيطرة على المناطق الحدودية التي ستمتد من الشمال الغربي وحتى الشرقي منه، وترى تركيا أن تمدُّدها إلى مناطق أخرى في عمق الشمال الشرقي لسوريا، من شأنه أن يبدد مخاطر قُرْب قوات سوريا الديمقراطية “قسد” من حدودها، بينما ترغب روسيا في إحكام السيطرة على مناطق جديدة في الشمال الغربي من أجل تضييق الدائرة على القوى المصنفة على قوائم الإرهاب هناك.
مالك الحافظ- باحث و محلل سياسي، خاص لــ “رياليست”