خلال الشهور الثلاثة الأخيرة رفعت واشنطن ضمن إطار التحالف الدولي من مستوى استهدافها للتنظيمات الجهادية في الشمال الغربي من سوريا، في إشارة سياسية تشي بنية واشنطن التمدد نحو تلك المنطقة لرسم سيناريو مغاير لها خلال الفترة المقبلة، ضمن إطار التنافس على مسارات الملف السوري بين واشنطن و موسكو. ويبدو أن واشنطن ماضية في برنامج وكالة المخابرات المركزية الأميركية “سي آي إيه” الذي يستهدف قيادات التنظيمات الإرهابية في الشمال السوري والمرتبطة بتنظيم “القاعدة” الإرهابي بشكل مباشر.
حيث يُعرف البرنامج الأميركي الخاص باستهداف قيادات التنظيمات المرتبطة بالقاعدة بإسم “قطع الرؤوس”، و يُعنى بضرب قيادات التنظيمات الإرهابية المتواجدة في الشمال السوري والتي ترتبط مباشرة بتنظيم “القاعدة” الإرهابي. و استهدفت الطائرات المُحمّلة بصواريخ من نوع “نينجا” قياديين في “حراس الدين” خلال الآونة الأخيرة بشكل مكثف، كان آخرهم يوم الاثنين (14 آب)، قيادي في التنظيم الإرهابي يدعى “سياف التونسي” محسوب على “الحراس” بـ 4 صواريخ داخل مدينة إدلب، وهو أحد الشخصيات المعادية لزعيم “هيئة تحرير الشام”، أبو محمد الجولاني، الذي يسيطر على المنطقة بشكل شبه مطلق.
ما دور هيئة تحرير الشام؟
تقول المعلومات أن ضرب قيادات تنظيم “حراس الدين” الإرهابي خلال الفترة الماضية يتم بتعاون وتنسيق مع عملاء على الأرض يرجح بأنهم تابعين لـ “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقًا)، وهو أمر لا يعتبر خارج نطاق التوقعات، فالمغازلة بين واشنطن والتنظيم الآخر الموضوع على قوائم الإرهاب الأمريكية منذ أيار 2018 جرت على مراحل عدة طيلة الشهور الأخيرة، و لن يُستغرب أن تقوم واشنطن برفع اسم الهيئة من قوائم الإرهاب لديها، فإن لم تكن الدلالات المتعلقة باستمرار ضرب واشنطن لقيادات “حراس الدين” و معسكراته بمؤشر واضح على نية واشنطن إطلاق يد “تحرير الشام” فيما تبقى من الشمال الغربي لسوريا ضمن إدارة قد تكون أشبه بتلك الإدارة الذاتية التي دعمتها واشنطن في شرق الفرات، غير أن آلية الإدارة و قوام الحكم والتسيير لا بد أن يترك حتى الخطوة قبل الأخيرة من الحل النهائي في عموم الشمال السوري.
فإن أول الدلالات الصريحة كانت من خلال ما أعلنه المبعوث الأميركي إلى سوريا جيمس جيفري، أواخر كانون الثاني الماضي، حينما اعتبر أن “تحرير الشام” تركز على قتال القوات النظامية السورية، ولم يشهد لها تهديدًا على المستوى الدولي، مضيفًا في ذلك الوقت بأن التنظيم الذي يتزعمه أبو محمد الجولاني يُعرّف عن نفسه بأنه يمثل معارضة وطنية تضم مقاتلين وليس إرهابيين، غير أنه اكتفى بذلك القدر من المغازلة ليستدرك بأن الولايات المتحدة لم تقبل بهذا التوصيف بعد.
و ليرد عليه الجولاني في مقابلة مخطط لها على ما يبدو في التوقيت، قال فيها الأخير عبر موقع “مجموعة الأزمات الدولية”، في 20 من شباط الماضي؛ أنه و رغم ارتباطه بتنظيم “القاعدة”، تعهد بعدم استخدام سوريا من قبل “التنظيم” أو أي فصيل آخر، كمنصة إطلاق للعمليات الخارجية، و “التركيز على قتال النظام السوري وحلفائه في سوريا”.
كما ادعى بأن هدف “الهيئة” يتركز على قتال النظام “الفاقد للشرعية” وفق ما قاله وهو حديث توائم بالمطلق و تصريحات جيفري التي سبقت مقابلة الجولاني، وهو الذي أشار أيضًا إلى أن أيديولوجية “تحرير الشام” تستند إلى الفقه الإسلامي، مثلها مثل أي جماعة سنية محلية أخرى في سوريا. فيما ذهب إلى العقدة الأصعب والمتمثلة بالعلاقة مع باقي التنظيمات المتطرفة (حراس الدين و الحزب الإسلامي التركستاني)، وقال إن العلاقة معهما هي “علاقة معقدة”، لكن تم إلزامهم بعدم استخدام سوريا كـ “منصة انطلاق للجهاد الخارجي”، والاعتراف بـ”حكومة الإنقاذ”، التابعة للجولاني أمنيًا وعسكريًا، وفق إدعاء الأخير.
الجولاني انطلق من تلك التصريحات ليشتغل بعدها على حملة علاقات عامة في تلميع صورته وإظهار أنه صاحب الحاضنة الشعبية الوحيد في الشمال والقادر على مسك زمام الأمور في المنطقة وبأنه صانع السلام فيها، فهو الشريك الأمثل والمتأهب لأي توافق مع الجانب الأميركي أو التركي ممثل واشنطن في تفاصيل عدة داخل أروقة الملف السوري.
و لعل ما نشرته ” تحرير الشام” مؤخرًا في رسالة تهنئتها لحركة “طالبان” الأفغانية، بمناسبة توقيعها فيما سمي بـ “اتفاق سلام” مع واشنطن، هو أبلغ صورة تتجلى من خلالها رغبة تنظيم الجولاني في عقد اتفاق مشابه يحكم سيطرتها برضى دولي على مدينة إدلب ومحيطها، و ليبقى الموقف الروسي والتركي هو الذي قد سيحسم الموقف من تمرير هذا السيناريو أو تعديله أو حتى نسفه.
موقف روسيا و تركيا
من الجانب الروسي تبدو الصورة أوضح فموسكو عبّرت بداية عن غضبها من تصريحات جيفري، وتلمست مغزى حديثه في كانون الثاني الماضي؛ حيث رد عليه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بالقول إن “تحرير الشام محظورة في روسيا ومدرجة رسميًا في قائمة مجلس الأمن الدولي للجماعات الإرهابية، ومدرجة في القوائم الوطنية الأمريكية، وهذه هي ليست المرة الأولى التي يعلن فيها مسؤولون أمريكيون رسميون، إمكانية الحوار مع الهيئة في ظروف معينة”. و لا يعكس هذا التصريح فقط الموقف الروسي من “تحرير الشام” بقدر ما يعكس التوجه العسكري لموسكو ذلك، فالأخيرة دائمًا ما عكفت على معاودة أعمالها العسكرية في الشمال السوري انطلاقًا من استهداف “تحرير الشام” وباقي التنظيمات الجهادية الأخرى؛ معتبرة بذلك أن لا فرق بين التنظيم الذي يتزعمه الجولاني وبين التنظيمات الأخرى التي توجه الولايات المتحدة الضربات لها بطائراتها المسيّرة.
إذاً فالموقف هنا مختلف بين واشنطن وموسكو، وقد تكون أنقرة هي الطرف الذي سيقرب بين الجانبين باقتراحها حل وسط يطمئن موسكو التي ما تزال تشن غاراتها على إدلب بحجة “تحرير الشام”، و يرضي واشنطن التي لم تعد ترى بتنظيم الجولاني خطرًا محدقًا بها و بالسلام والأمن العالميين بل و أنها تضرب تنظيم “حراس الدين” كي يمهد التحرك الأميركي بتصفية هذه القيادات و إخضاع ما تبقى من التنظيم أن يكون ضمن تحرير الشام، و أن يخضعون للإيديولوجيا المحلية لتنقطع أي صلة مع “تنظيم القاعدة”، ما يعني أن ذلك سيكون أمرًا داعمًا لنفوذ “تحرير الشام” في المستقبل.
ينطلق الحل التركي من المناورة التي اعتمدت عليها أنقرة خلال الشهور الماضية و داورتها أمام موسكو بين تفكيك “تحرير الشام” وبين دمجها مع الفصائل السورية المعارضة، وبين قتالها قبل ذلك بموازاة قتال باقي التنظيمات المتطرفة على حد سواء، غير أنه يبدو اليوم بأن الأمور وبعد المتغيرات في شرق الفرات؛ و بعض الأوراق التي حصلت عليها روسيا في الشمال الغربي والطرق الدولية، فإنه قد نشهد مقترحًا تركيًا يقارب بين الرؤية الأميركية ويستوعب الرفض الروسي لهيكلية الهيئة في الوقت الحالي من خلال تشكيل جسم واحد تنصهر فيه الفصائل العسكرية في مناطق النفوذ التركي وما تبقى من الشمال في منطقة إدلب لخفض التصعيد الذي تسيطر عليه “تحرير الشام” بإدارة تركية رئيسية ومنح استقلالية جزئية للأطراف المشكلة لهذا الكيان الجديد داخل مناطق سيطرتها، بحيث يمتد هذا السيناريو بعد ذلك لملاحقة فلول الجماعات الجهادية الخارجة عن طاعة أنقرة والمصنفة توافقًا بين الأطراف الثلاثة على قوائم الإرهاب لديهم، وفي مقدمة تلك الجماعات “حراس الدين” التي عززت واشنطن استهدافها خلال الآونة الأخيرة.
مالك الحافظ- باحث و محلل سياسي، خاص لــ “رياليست”