أزمة لكنها ليست كأي أزمة من أزمات اللاجئين، التي تتناثر هنا وهناك حول العالم، وتعلو أخبارها لفترة ثم تخبو، فأزمة اللاجئين السوريين لها خصوصية وتفرد، لكونها أزمة، ولازمة، وصناعة، وتجارة.
أزمة .. فهي بحق أزمة، بعد أن اندلعت النيران في الوطن السوري، ومادت الأرض من تحت أقدام أصحابها، من بعد أن كانوا هانئين مستقرين في مدنهم، وبيوتهم، وأعمالهم، وبات الخيار الصعب أمامهم هو:
إما البقاء والتمسك بالأرض، والذود عنها حتى الموت، فلا أرض غيرها يمكن أن تقبل بهم أو تؤويهم، وإن قبلت لن تكون أحن عليهم من أرضهم، التي خرجت منها نبتتهم، وفيها سوف تذبل زهرة حياتهم، بعد إنقضاء العمر، ليكون ثراها هو مسواهم ومستقرهم الأخير.
والخيار الآخر، هو التمسك باهداب الحياة، والهرب من آتون النار المشتعل في البيت، والمعمل، والمدرسة، علهم يجدون بعض من الأمان والحياة في مكان آخر، حتى تهدأ الأمور، وتعود إلى ما كانت عليه، فالأرض التي تحمل بين طياتها، رفات الآباء والأجداد اشتعلت، وباتت الحياة فيها مستحيلة، ولا مفر سوى سرعة الرحيل، قبل أن تمسك نيران الحرائق المشتعلة هنا وهناك بالأجساد المرتعدة.
حمل سوريون السلاح، واستماتوا في الدفاع عن أرضهم، والسلاح هنا ليس فقط البندقية والمدفع، بل سلاح العمل في المعمل والمدرسة والحقل، وهو أيضاً سلاح ودفاع، حتى تستمر عجلة الحياة، ولا تنهار البلد، وحزم سوريون حقائبهم على عجل، وعبروا الحدود بحثاً عن ملاذات آمنة في دول أخرى، سواء قريبة أو بعيدة، ومنهم من استقر في البلدان الجديدة وبنى حياة جديدة، وأدار ظهره تماماً للأرض السورية، ونسى وتناسى كل ما كان، ومنهم من يحيا وهو يعد الأيام، انتظاراً ليوم يعود فيه، لينظف الدار، ويفتح نوافذها، ويزرع من حولها الأزهار.
لازمة .. فالأرض السورية خضراء، لا تنتشر صحاري فيها إلا في القليل، وبين مروجها الخضراء تنتشر البلدات والقرى، ويعيش بداخلها غالب الشعب السوري، والحرب تحتاج إلى خلاء، ليختلي المقاتلون ببعضهم البعض، ويقتل بعضهم البعض بأريحية تامة، لا يعكر صفوها سوى وجود مدنيين لم يعودوا آمنين، بعد أن أعاق وجودهم في بيوتهم وقراهم تقدم القوات، فبات كل دار في مرمى النيران، سواء كانت صديقة أم عدوة، ولم يكن بالإمكان سوى الهروب من موت محقق، لكن هروب هؤلاء اختلف عن هروب أولائك، الذين كان هروبهم منظماً، بعد تدبير أحوالهم، واختيار مهجرهم، والسفر بطائراتهم.
الهروب هذا جاء ركضاً وهلعاً ورعباً، وترك كل حطام الدنيا من خلفهم، هربوا من طلقات المدافع وانفجارات القنابل، لا يملكون شيئاً سوى ما يستر أجسادهم، وليته سترها، من قرية إلى قرية يعبرون، ومن بلدة إلى بلدة يعسكرون، وكلما استشعروا الأمان، وابتعاد صوت دوي الانفجارات عن مسامعهم، وتوقفوا لالتقاط الأنفاس، كلما سارعت الانفجارات من خلفهم، بل ولحقت بأهدابهم، ليعيدوا الكرة من جديد، ويحملوا أطفالهم المتروعين، ويركضوا من جديد، إلى منطقة أبعد، عل فيها بعض من أمان، بات حلماً صعب المنال.
وبقيت طائفة منهم هم خرجوا على النظام، ورفعوا راية العصيان، وحملوا السلاح، وتمركزوا في مدنهم وبلداتهم، وحصنوها واستقلوا بها عن الدولة الرسمية، واتخذت كل طائفة منهم مسمى إسلامي، يجلب لهم حظوظاً من المانحين والواهبين، هؤلاء دارت بهم الدوائر من بعد أن كانوا أعزة، فتحاصرت بلداتهم، وصوبت فوهات المدافع إلى رؤوسهم، وبات أمرهم محصوراً بين خيارين، إما القتال حتى الموت، في سبيل قضية آمنوا بها ليكونوا شهداءً، أو الهجرة إلى الشمال، لينضموا إلى إخوانهم في المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة، ويحرسها لهم التركي .. فاختاروا الهجرة، وركبوا وأسرهم “الباصات الخضراء” التي وفرتها الدولة، ويمموا وجههم شطر الشمال، حيث سكنوا قرى وبلدات كان أهلها قد هربوا منها، وتملكوها هم بمقابل واحد، هو التمترس خارج نطاق الدولة المركزية.
صناعة .. كما يقولون في الأمثال الشعبية “مصائب قوم عند قوم فوائد”، فكل فار من بلده لابد أن يقابله تاجر، شغله تهريبه عبر الحدود بمقابل مادي، يؤمن له رحلته، ويسلك به دروباً غير مطروقة، حتى يصل به إلى وجهته آمناً في كثير من الأحيان، وربما يصل به إلى قبره في بعض الأحيان، فغرق الكثيرون في لجة البحر، واقتنصت الطلقات والقنابل الغادرة البعض، وتاه في الفيافي والأحراش البعض، وتكونت مافيات كثيرة جمعت ثروات هائلة، من بين آلام المهاجرين الهاربين من آتون النار المشتعل في بلدهم.
تجارة .. القاعدة العامة تقول: “في مكان تواجد اللاجئ والمهاجر يتواجد التاجر”، التاجر الذي يلعب على وتر مشاعر التعاطف الإنساني، لدى الكثير من الدول والناس، تجاه أزمة اللاجئين، ويتلاعب بها، بهدف تحقيق مكاسب مادية ومعنوية كثيرة.
مع اندلاع الشرارة الأولى للأزمة السورية، انفتحت المعابر الحدودية بين سورية وكل دول الجوار بالأعم، وتركيا بالأخص، التي اجتذبت لا الآلاف بل الملايين من السوريين، إما لاختيارها من البعض لتكون بلدهم الثاني، أو لتكون ممراً للعبور نحو الدول الأوروبية، لتضرب تركيا “أعظم الأمثلة الإنسانية في استقبال اللاجئين”، فالكل كان يتوقع أن فقط بضعة أشهر وتنتهي الأزمة، ويعود كل هؤلاء حاملين الأعلام التركية في أيديهم، وتنوء كواهلهم بالجميل التركي، وتبيت المناطق التي جاءوا منها مدينة بالولاء إلى التركي.
لكن الرياح ليست دائماً ما تأتي كما تشتهي السفن، فاستطالت الأزمة، ولم تعد المساعدات المادية الإنسانية، التي تتلقاها تركيا من العالم العربي والغربي على حد سواء، بكافية على الإطلاق، مع اقتصاد تتداعى قوائمه، بسبب نزوات وترهات أحلام توسعية، فانقلب وانعكس الوجه التركي، بعد أن استشعر بأنه بصدد أزمة لابد أن يتاجر بها ويتربح منها.
فتح الحدود الأوروبية للاجئين لتندفع موجة منها، عمادها سوري، لكن قوامها خليط من جنسيات كثيرة، أحدثت أزمة كبيرة في الداخل الأوروبي، بعد أن رفضت البعض منها استقبال لاجئين، وتحملت بعضها أعداداً منهم على مضض، وابتلعت بعض منهم لاجئين وهي محرجة، واكتشف الجميع في أوروبا أنها مجرد موجة، سوف تعقبها موجات كاسحة، ربما تغير من التركيبة السكانية بها.
وهنا رضخ الأوروبي للابتزاز التركي، وقبل بدفع الأتاوة، حتى يغلق حدوده، ويمنع موجات الهجرة، لكن لم يتوقف التركي أو يكتفي، فالعملية مربحة وتضخ في دماء الاقتصاد التركي مليارات من اليوروهات المجانية، وعاد في أحداث ادلب الأخيرة لابتزاز الأوروبيين من جديد، لكنهم كانوا قد تنبهوا ووعوا الدرس جيدا، فما حدث في العام 2015 لن يتكرر من جديد، وأغلق الأوروبيون حدودهم، ليس هذا فحسب، بل وأعلنوا العصيان، ورفضوا دفع الاتاوة للتركي.
وسوف يظل اللاجئ السوري تجارة، حتى يعود طائعاً إلى مسقط رأسه في النهاية، وإن كانت سبل التجارة التركية باللاجئين، تكاد أن تتقطع، وفي النهاية لن يجد التركي أممه سوى أن يدفعهم إلى العودة، وأيضاً سوف تكون تحت لافتة “مركز حميميم للمصالحات”، ليعود كل واحد إلى داره آمناً، وتنطلق صافرة النهاية لمأساة اللاجئين السورية.
الأستاذ مجدي حليم المصري- خاص وكالة “رياليست”