تمكن أخيراً مجلس العلاقات العرقية في نالتشيك من لفت انتباه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن محاولات وسائل الإعلام الروسية تشويه سمعة الأكراد والعداء تجاههم، وذلك دون المجموعات العرقية الأخرى. ولقد قام الرئيس فلاديمير بوتين بمخاطبة مجلس الاستقلال الوطني الاتحادي الثقافي للأكراد الذي يترأسه فرحات باتييف، حيث أكد ان “روسيا والشعب الكردي كانت تجمعهما دائما علاقات جيدة، إضافة إلى أن آراء الخبراء في المحطات التلفزيونية هي خاصة وليست خاضعة للسلطات الرسمية للاتحاد الروسي”، وعلى ما يبدو سيتعين على مشرفي وسائل الإعلام القيام بتعديل موادهم التي تتعلق بالأكراد لجهة البدء باحترام الشعب الكردي البالغ عددهم نحو 40 مليون كردي في العالم وأيضا احترام تاريخهم العريق.
ما هو سبب ظهور المواد المعادية للأكراد في وسائل الاعلام الروسية؟ وهل تكرر وسائل الإعلام الروسية المواد من محطات أجنبية دون انتباه؟
إن هذه المواد تقوم بتشويش القارئ والمشاهد على حد سواء، حيث لا يزال العديد من الروس لا يعرفون من هم الأكراد وما هي مساهمتهم التي قدموها في تنمية الحضارة العالمية. فوسائل الإعلام تحاول إقناع المشاهدين بهذه المواد المعادية، وذلك بسبب بعض الأكراد المتمردين والانفصالين الذين يدعون إلى تفكك العراق وسوريا، وأيضا يسببون عدم الاستقرار في إيران وتركيا.
لقد ذُكِرَ الأكراد لأول مرة في التاريخ العالمي، منذ آلاف السنين، من قبل العالم الروسي فلاديمير مينورسكي، إذ صنف لغتهم الهندو – أوروبية، وكان من أنجح زعمائهم صلاح الدين الأيوبي الذي أصبح قائدا ميدانيا في العالم الإسلامي في العصور الوسطى، وهو الذي نجح بصد الغزوات الصليبية.
يعود التواجد الكردي في روسيا لبضعة قرون، وذلك بسبب الحروب الروسية – التركية – الإيرانية التي وقعت على الحدود الجنوبية للإمبراطورية الروسية (القوقاز) حيث كانت هناك قبائل كردية مستوطنة هناك، وكانت تتمتع بثقافة مميزة، حيث سمحت المعاهدات بين الدول الثلاث للأسر الكردية بالهجرة الى روسيا، وسرعان ما اصبح الأكراد مواطنين تابعين لروسيا وأظهروا شجاعة كبيرة في الحروب الروسية والتركية ومنح العديد منهم ميداليات، وتم منح إثنين منهم على الأقل رتب جنرالات في الجيش الروسي، من هنا تأكدت حقيقة أن الأكراد ينتمون إلى الشعوب الأصيلة ولقد تم تكريمهم من خلال إدراج منحوتاتهم ولباسهم الوطني التقليدي في متحف أرميتاج .
لقد عامل الاتحاد السوفيتي الأكراد في بادئ الأمر بلطف، بل وسمح لهم بإنشاء منطقة حكم ذاتي في أذربيجان، والمعروفة باسم كردستان الحمراء (1923-1929). لكن أكراد القوقاز كانوا من بين الشعوب الغير الموثوق بها ما بين الأعوام 1937-1944. ما أدى إلى ترحيلهم من منطقة آسيا الوسطى، ومع ذلك، اتخذ الأكراد السوفييت الذين نجوا من قمع ستالين دورا إيجابيا في الحرب العالمية الثانية، ومنح ثلاثة منهم رتب عالية وميداليات واعتبروا من أبطال الاتحاد السوفيتي.
وللأسف الشديد لم تسمح روسيا بعودة الأكراد إلى أماكن إقامتهم التاريخية ووجد العديد منهم أماكن إقامة جديدة في روسيا (موسكو وسانت بطرسبرغ وتامبوف وستافروبول ومناطق أخرى). ويعيش أكثر من 200000 كردي في كازاخستان، وعشرات الآلاف غيرهم في قيرغيزستان. وتعمل المنظمات العامة الكردية بنشاط في روسيا، إذ أن هناك الجمعية الدولية للتجمع الكردي الذي يقوده اليزيدي الكردي الموثوق في روسيا، يوري نابييف.
فلقد أصبح هناك صعوبة بالنسبة للأكراد، العيش في الشرق الأوسط في البداية، عندما قسمت الإمبراطوريتان الفارسية والعثمانية الأكراد مع حدودهم، وفي 1920-1926. حرمت فرنسا وبريطانيا العظمى الأكراد من فرصة إنشاء دولتهم الخاصة على بقايا الإمبراطورية العثمانية، وعلى الخريطة قسمت مناطق الإقامة المدمجة للأكراد بين الدول الثلاث المصطنعة حديثًا (تركيا والعراق وسوريا) والاكراد دون الأقليات الأخرى تعرضوا لمحاولة القمع والتميز و الاستيعاب القسري
واليوم، تحاول السلطات التركية إبقاء شعبها الكردي البالغ عدده 20 مليون شخص في وضع “الطبقة الثانية”، حيث تكون مناطق إقامتهم أقل تطوراً في الوضع الاجتماعي – الاقتصادي. إذ تقوم أنقرة بعمليات عقابية عسكرية ليس فقط ضد أنشطة حزب العمال الكردستاني، بل تغزو حاليا مناطقهم المجاورة في سوريا.
من المعروف أن حزب العمال الكردستاني لم يشكل منذ فترة طويلة أي تهديد للأمن القومي لتركيا. حيث يقضي زعيمه، عبد الله أوجلان، عقوبة السجن المؤبد، لكن اللافت وجود قيادات تركية في حزب العمال الكردستاني، وكثير منهم عملاء تابعين للمخابرات التركية، فالرئيس أردوغان وأتباعه يستخدمون حزب العمال الكردستاني كقوة عابرة لقمع الحركة القومية الكردية في تركيا وسوريا.
كيف نفسر الخطاب المعادي للأكراد في الآونة الأخيرة في وسائل الإعلام الروسية؟
دفعت الرغبة في إرضاء أصحابها ومنسقيها في الوكالات الحكومية العديد من المحررين والمنتجين للعب على الجبهة المعادية للأكراد. سبق وأن انتقدوا الأكراد السوريين واتهموهم بالنزعة الانفصالية والتحالف مع الولايات المتحدة والغرب. لم يكن معروفًا لهم أنهم الأكراد، الذين تركتهم حكومتهم السورية إلى مصيرهم في عام 2012، وأنهم أُجبروا على إنشاء هيئات الحكم الذاتي ووحدات الدفاع عن النفس والدفاع عن أنفسهم امام هجمات عصابات داعش.
ساعدهم في ذلك سلاح الجو الأمريكي والتحالف الدولي، حيث لم تقدم طائرة أو دبابة تابعة للقوات المسلحة السورية أو الروسية بمساعدة الأكراد. لقد دافع الأكراد ببسالة عن مدينة عين العرب “كوباني” وخسروا العديد من المقاتلين ولكنهم تمكنوا من تحريرها من الجهاديين وأيضا استطاعوا تحرير الضفة الشرقية بأكملها حتى نهر الفرات، التحالف الكردي مع الغرب قد وضع حدا لانتشار تنظيم داعش.
لكن ما يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار أن أردوغان والأسد لم يقاتلوا داعش بل حتى وأنهم قد تعاونوا مع داعش.
أدى التقارب بين القيادة الروسية والسلطات التركية وتحالف بوتين مع أردوغان إلى تقييد وسائل الإعلام الروسية الملتحمة. فلقد اتهموا الأكراد في الإبادة الجماعية للأرمن التي ارتكبها حكام الإمبراطورية العثمانية في 1915-1918 وفي بعض الهجمات الوهمية والهجمات الإرهابية من قبل الأكراد السوريين في الأراضي التركية.
ظهرت الخطة الأسطورية لإنشاء كردستان الكبرى مرة أخرى، والتي من المفترض أن تؤدي إلى إعادة توزيع الحدود في الشرق الأوسط وتدمير أربع دول “محبة للسلام” وصديقة لروسيا: تركيا وإيران والعراق وسوريا. لم يتحدث الأكراد أنفسهم بعد عن هذا المشروع ويقومون بحل مهام أكثر تحديداً لمواءمة حقوقهم وحرياتهم مع الملقبين بالأمم (الأتراك والعرب والفرس).
على مستوى الخبراء، هناك فهم بأن إنشاء كردستان المتحدة ليس مناسبا اليوم، لأنه لا توجد أيديولوجية وتنظيم كردي واحد، لا يوجد زعيم على مستوى البلاد، حتى اللغة الكردية لا يمثلها إلا عدد من اللهجات. ففي كل بلد من بلدان إقامتهم تختلف لهجاتهم، هنا وجد الأكراد أنفسهم في مراحل مختلفة من تقرير مصيرهم: في العراق حققوا مكانة موضوع الاتحاد الفيدرالي وحقوق متساوية عملياً مع العرب، وأنشأوا في سوريا منطقتهم المتمتعة بالحكم الذاتي، روج آفا، وفي تركيا حصلوا على فرصة لتمثيلهم من قبل الحزب الموالي للأكراد في البرلمان، وفي إيران السلطات مجبرة على حساب الأقلية الكردية وتعهدها بتسريع تطورهم اقتصاديا. وكل هذا لم يمنع السلطات السورية والتركية والإيرانية من اتباع سياسة التسوية القوية للقضية الكردية من خلال العمليات العقابية العسكرية والتمييز العرقي للأكراد
هناك أمل بعد رد فعل رئيس روسيا على الهجمات الظالمة على الأقليات القومية والجماعات العرقية في وسائل الإعلام الروسية، حيث ستنخفض حملة الدعاية المعادية للأكراد. لقد حان الوقت لكي يفهم الجميع أن الأكراد مواطنون كاملون في تركيا وإيران والعراق وسوريا، ووفقًا للقانون الدولي ولوائح الأمم المتحدة، يمكن تقرير المصير بأي شكل معروف (الحكم الذاتي، الاتحاد الكونفدرالي، الدولة المستقلة). لا يُسمح لأحد بتشويه سمعة الحركة الوطنية الكردية، وتعليق ملصقات الإرهابيين والانفصاليين على الأكراد، لا يضهدهم ويقتلهم: لا السلطان أردوغان حديث العهد، ولا ممثل العشيرة العلوية الأسد البعثي، أو آية الله الإيراني، بغض النظر عن الملابس التي يرتدونها فهم أصدقاء خياليين للقيادة الروسية.
ستانيسلاف إيفانوف – دكتوراه في التاريخ ، باحث أول في مركز الأمن الدولي التابع لأكاديمية العلوم الروسية، خاص لوكالة أنباء “رياليست”