القراءة الأولية لكتاب الشيخ الأزهري علي عبدالرازق، توضح أنه يهدف لإثبات أن الإسلام دين روحي، لا دخل له بالسياسة، التي تعد من الأمور الدنيوية، ويتعين على الناس اختيار مبادئها وأهدافها.
ويشير الكتاب الصادر في عام 1925، إلى أن أهم نتائج انفصال الدين عن السياسة، هو أن نظام الحكم المسمى بالخلافة، ليس له علاقة بالأسس الدينية، وإنما هو نظام دنيوي اصطلح عليه المسلمون لتنظيم شؤون دولتهم، ومن ثم فما هو برفض، ولا واجب، ولا مندوب، ولا مستحب.
فضح الأباطيل
ويفضح هذا التأصيل الفكري للعلاقة بين الدين والسياسة ، وفي مقدمتها فكرة نظام الخلافة، الأباطيل والأفكار الخبيثة التي تروجها الجماعات التكفيرية، معتمدة على أن الخلافة فكرة دينية إلهية، ومن ثم فإن من يخالفها يعد كافرًا مستحقًا للقتل، ونزع الحكم منه. وبالطبع فإن فكرة الحكم بما أنزل الله، المعروفة بالحاكمية، هي الأساس الذي ارتفع عليه بناء الفكر المتشدد، والفتاوى الشاذة، لجميع فقهاء الظلام، من مُنَظّري الجماعات الإرهابية والتكفيرية.
ويتحدث الكتاب في 3 محاور، هي: “الخلافة والإسلام، والحكومة والإسلام، والخلافة في التاريخ”، متأثرًا بالفترة التي صدر فيها، وتزامنها مع سقوط الخلافة العثمانيّة، ووقوع الدول العربيّة والإسلاميّة تحت النفوذ الاستعماري الغربي، وتقسيم ميراث الخلافة الموحد إلى دول بينها حدود سياسية.
فؤاد الأول
أدى سقوط الخلافة العثمانية، إلى زلزال بأركان المجتمعات المسلمة، رغم أن هذا السقوط لم يكن مفاجئًا؛ وإنما توقعه جميع المتابعين للأحوال آنذاك، حتى إن دولة بني عثمان كان يُطْلَق عليها في هذا الوقت لقب رجل أوروبا المريض.
وإزاء رد الفعل الحزين شعبيًّا على سقوط الخلافة، دعا الأزهر الشريف علماءه إلى مؤتمر لبحث موضوع الخلافة، وهو ما انتهى إلى أن منصب الخليفة ضروري للمسلمين كرمز للوحدة، وأنه يجب أن يجمع الخليفة بين السلطتين الدينية والمدنية، واتجه الجميع إلى اختيار ملك مصر فؤاد الأول؛ ليكون خليفة المسلمين.
وفي الوقت الذي كانت تجري فيه الاستعدادات لتنصيب فؤاد الأول خليفةً على المسلمين من مصر، خرج الشيخ علي عبدالرازق بكتاب “الإسلام وأصول الحكم”؛ ليضع حدًّا لما يجري برأيه الصريح، الذي أكد عبره أن الخلافة الإسلامية ليست أصلًا دينيًّا، وأفاد بأنه لم يرد بيان في القرآن ولا في السنّة، يؤكد وجوب تنصيب خليفة، أو طريقة اختياره.
نكبة الخلافة
وصف عبدالرازق، الخلافة بأنها كانت نكبة على الإسلام، ومصدرًا للشر والفساد، بحسب ما أورده في كتابه؛ الأمر الذي فجر موجةً عارمةً من الغضب ضده، وضد ما ورد بالكتاب. وإزاء ما وصل إلى الملك فؤاد الأول حول الكتاب، وما يتضمنه من أفكار ستقطع عليه الطريق نحو الخلافة، أوعز إلى كبار مشايخ وعلماء الأزهر، مستغلًّا غضبهم من الشيخ علي عبدالرازق، فصدرت ضده سلسلة من الأحكام القاسية؛ حيث طرد من وظيفته، ومن عضويته لهيئة كبار علماء الأزهر.
بدأ عبدالرازق كتابه بتعريف “الخلافة” لغويًّا، موضحا أنها: مصدر تخلّف فلانٌ فلانًا إذا تأخّر عنه، وإذا جاء خلف آخر، وإذا قام مقامه، ويُقال خلف فلانٌ فلانًا إذا قام بالأمر عنه، إمّا معه وإمّا بعده. وبعد ذلك عرّف الكتاب “الخلافة” اصطلاحًا، بأنها: “رياسة عامّة في أمور الدين والدنيا نيابة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم”، موضحًا أن محل الخليفة بين المسلمين كمحل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، له الولاية الخاصّة والعامّة، وتجب طاعته ظاهرًا وباطنًا. ويوضح الكتاب أن الخليفة يستمد سلطانه من الله، فيما رأى بعض العلماء أن الخليفة يستمد سلطته من الأمة.
إهمال السياسة
ويتطرق الشيخ الأزهري في كتابه، إلى التساؤل عن الأسباب الحقيقية وراء عدم اهتمام فقهاء المسلمين بالسياسة بشكلٍ عام، لاسيما فيما يتعلق بالحكم وإدارته؛ إذ يقول: “رغم أن العلماء لم يتركوا بابًا إلا وبحثوا فيه، فإنهم تناولوا السياسة على استحياء، فما لهم وقفوا حيارى أمام ذلك العلم؟ ما لهم أهملوا النظر في كتاب الجمهوريّة لأفلاطون وكتاب السياسة لأرسطو، وهم الذين بلغ من إعجابهم بأرسطو لقبوه بالمعلّم الأوّل؟”.
وتابع: “وما لهم رضوا أن يتركوا المسلمين في جهالة مطبقة بمبادئ السياسة وأنواع الحكومات عند اليونان، وهم الذين ارتضوا أن ينهجوا بالمسلمين مناهج السريان في علم النحو، وأن يروضوهم برياضة بيدبا الهندي في كتاب كليلة ودمنة، بل رضوا بأن يمزجوا لهم علوم دينهم بما في فلسفة اليونان من خير وشر، وإيمان وكفر؟”.
وأشار عبدالرازق إلى أن : “لعل السبب في إهمال السياسة هو استبداد الملك والسلطة الذي تم في عهود الخلافة، التي كانت عادة محاطة بالرماح والسيوف والجيوش المدججة والبأس الشديد، ولذلك كان طبيعيًّا أن يستحيل السلطان وحشًا سفاحًا وشيطانًا ماردًا، إذا ظفرت يداه بمن يحاول الخروج عن طاعته وتقويض كرسيه”.
مضيفا: “إنه لطبيعي أن يكون عدوًّا لدودًا لكل بحث علمي يتخيل أنه قد يمس قواعد ملكه أو يريح من تلقائه ريح الخطر ولو كان بعيدًا، ومن هنا نشأ الضغط الملوكي على حرية العلم ومعاهد التعليم، ولاشك أن أخطرها كان علم السياسة، ولذلك كان حتمًا على الخلفاء أن يسدوا طريقه ومنافذه أمام الناس”.
لا خلافة في الإسلام
ويرى الشيخ علي عبدالرازق، أنه لا دليل في القرآن أو السنّة على فرضية الخلافة، قائلًا في كتابه: “كل ما جرى من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام من ذكر الإمامة والخلافة والبيعة لا يدلّ على شيء أكثر ممّا دلّ عليه المسيح، حينما ذكر بعض الأحكام الشرعيّة عن حكومة قيصر”.
وعاد الشيخ الأزهري، ليؤكد فكرته قائلًا: “الخلافة ليست في شيء من الخطط الدينيّة، كلا ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة، وإنّما تلك كلّها خطط سياسيّة صرفة، لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا نهى عنها، وإنّما تركها لنا، لنرجع فيها إلى أحكام العقل، وتجارب الأمم، وقواعد سياسيّة”.
وشدد على أنّ “تدبير الجيوش الإسلاميّة، وعمارة المدن والثغور، ونظام الدواوين لا شأن للدين بها، وإنّما يرجع الأمر فيها إلى العقل والتجريب، أو إلى قواعد الحروب، أو هندسة المباني وآراء العارفين”.
واختتم: “لا شيء في الدين يمنع المسلمين أن يسابقوا الأمم الأخرى، في علوم الاجتماع والسياسة كلّها، وأنّ يهدموا ذلك النظام العتيق الذي ذلوا له واستكانوا إليه، وأن يبنوا قواعد ملكهم، ونظام حكومتهم، على أحدث ما أنتجت العقول البشريّة، وأمتن ما دلّت تجارب الأمم على أنّه خير أصول الحكم”.
عمرو فا وق- باحث في شؤون تيارات الإسلام السياسي، مركز خبراء “رياليست”.